أعمل في أعرق جامعات ميلانو أستاذًا للاستراتيجيات اللغوية للتواصل والتفاوض، طلابي إيطاليون تنحدر نسبة معتبرة منهم من أصول شرق أوسطية وآسيوية، وإفريقية، ولاتينية، في آخر محاضرة تبادلنا التهاني بمناسبة نهاية العام الدراسي، وبدأ الطلاب يتحدثون بحماس عن إجازاتهم المرتقبة إلا طالبًا من أصول صينية، كان يتحدث بفتور عن قضاء إجازته في بكين، وحين سُئل عن ذلك، قال إنه يزعجه أن يناديه الجميع هناك «موزة»، وحين استفهمنا عن دلالة هذا اللقب، «الموزة»، قال: «لا شيء، فقط لأنني من الخارج أصفر، ومن الداخل أبيض»! مشيرًا إلى سماته العرقية من ناحية وإلى ثقافته الغربية، ثقافة الرجل الأبيض، التي لا يعرف غيرها من ناحية أخرى.
يقدم هذا الشاب نموذجًا للتنوع العرقي والثقافي الذي يمثل أحد أهم مظاهر تحول مدينة ميلانو إلى مدينة كوزموبوليتانية، كما أنه يجسد أهم التحديات التي تواجهها اليوم، ليس فقط على مستوى إدارة هذه التعددية في الفضاء العام، ولكن وهذا هو الأهم، على مستوى بناء الهوية الفردية والجماعية لسكان المدينة.
في السنوات الـ75 الماضية مرت ميلانو بتحولات عميقة كانت الهجرة خلالها فاعلًا رئيسًا في تشكيل هوية المدينة كما نعرفها اليوم، كانت ميلانو، المدينة الإيطالية التي تحملت النصيب الأكبر من الدمار في الحرب العالمية الثانية، تنهض من تحت الرماد لتكون القلب النابض لعملية التحديث في إيطاليا، ولتصبح العاصمة الاقتصادية للبلد العريق الذي كان يمر بتغيرات عميقة لم يعرفها منذ توحدت أقاليمه في القرن التاسع عشر، تفاوتت عمليات التحديث بشدة بين شماله وجنوبه وقد أدى ذلك إلى هجرات داخلية كبيرة نحو المثلث الصناعي الكبير في الشمال (ميلانو - تورينو - جنوة)، جاءت الهجرات من الشمال الشرقي أولاً، ثم من الجنوب ومن الجزر الإيطالية لاسيما صقلية وسردينيا. غيرت هذه الهجرات البنية الاجتماعية للمدينة، حيث هيمنت المصانع الكبيرة -لم يبق منها اليوم إلا أسماؤها التي تحملها بعض محطات المترو- على اقتصاد المدينة، وتشكلت طبقة برجوازية ذات توجه يميني وفي مواجهتها تعززت النقابات العمالية ذات الميول اليسارية التي ضمت المهاجرين من أبناء الجنوب. رغم هذا الانقسام الطبقي والسياسي، جمعت سكان المدينة سمات ثقافية وقيم أخلاقية متشابهة، فالبرجوازية تميزت بالبراجماتية، والتفاني في العمل، وتمتعت بأسلوب حياة مريح ولكن دون تفاخر بالثروة، فقد تميزت بالاعتدال، والاهتمام بالثقافة، كما تميزت أيضًا بالسلوكيات المحافظة والسلطوية والأبوية، على الجهة الأخرى كانت قيم الطبقة العاملة الأخلاقية تشبه قيم الطبقة البرجوازية خاصة أخلاقيات العمل والعلاقات الأسرية ذات الطبيعة البطريركية الاستبدادية، ويرجع هذا التقارب إلى أن أبطال الازدهار الاقتصادي لم يكونوا فقط «السادة» أصحاب المصانع، وإنما كذلك العلماء والفنانون، لقد لعبت جامعات المدينة مثل جامعة ميلانو وجامعة بوكوني والجامعة الكاثوليكية والبوليتكنيك دورًا حاسمًا في بناء نخبة المدينة الجديدة، نخبة توحدها اهتماماتها رغم صراعاتها الأيديولوجية، فنجد مثلًا أسقف ميلانو وبابا الفاتيكان فيما بعد بولس السادس يسند بناء الكنائس الجديدة لأعظم المعماريين الإيطاليين في ذلك الوقت حتى لا تصبح المدينة في لحظة التحول والنمو الاستثنائي «صحراء ترك فيها الناس لأنفسهم»، فالعمارة الليبرالية الحديثة تحتاج إلى روح ومضمون إنساني. والمضمون الإنساني أيضًا في حاجة إلى جماليات العمارة وغيرها من الفنون للظهور والحضور في الفضاء العام. ولعل هذا ما يفسر الازدهار الفني الكبير في الأدب والمسرح والسينما والموسيقى والعمارة في سنوات الستينيات، كانت الطبقة العاملة ترى في التعليم الذاتي وتربية أطفالهم وسيلة للصعود الاجتماعي. في المساء، بعد العمل، كان العمال يجتمعون لقراءة كتاب معًا أو لمشاهدة فيلم أو للذهاب إلى المسرح. وسيصبح أبناء هذا الجيل من العمال الطبقة الوسطى الجديدة.
وليس هذا الإيمان بالجمال غريبًا على مدينة ميلانو، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كانت ميلانو معقل الصناعات العسكرية، طال القصف المواقع الأثرية في ميلانو، ومنها كنيسة «السيدة مريم» التي تحتضن جدارية العشاء الأخير لدافنشي عندها خرج سكان المدينة من مخابئهم تحت القصف معرّضين حياتهم للخطر لوضع أكياس التراب والرمل حول الجدار الذي رسمت عليه اللوحة، هذا الإيمان بالجمال الذي وحدّ المتدينين والعلمانيين يمثل سمة من سمات شخصية ميلانو، لذلك نجد أنه بينما صوَّر الكتَّاب والشعراء خبرة العمل في مصنع فوردي -نسبة إلى فورد- بأنها الدافع وراء الشعور بالاغتراب عن المجتمع، نجد أن الاقتصاديين والنقابيين يؤكدون على وجه آخر لهذه الفترة، وهو الهوية الجماعية القوية، والشعور بالانتماء للمجتمع، والأمل في مستقبل أفضل ومجتمع منفتح على الجديد.
لهذا يعتقد الكثيرون أن حركة الطلاب عام 68 كانت ثورة على السلطوية، وعلاقات الاستبداد التي مثلت سمة مشتركة بين اليمين البرجوازي واليسار، لهذا كانت ثورة على الاستبداد ضد عدو لا أيديولوجي في الأسرة، في المدرسة، في مكان العمل، كانت ثورة على بطريركية العلاقة بين الجنسين، وبين الأجيال. وقد أدت هذه النضالات العمالية والثورات الطلابية في عام 68 وحركة تحرير المرأة والتي كان مركزها جامعات ميلانو إلى تحولات اجتماعية وثقافية عميقة ودائمة.
عندما تراجعت الدفعة التي قدمتها الهجرة الداخلية في الثمانينيات دخلت المدينة في سنوات من الأزمات العميقة: إرهاب يميني ويساري، وفساد سياسي، جعل من القضاة أبطال المرحلة الجديدة، حيث حاربوا الفساد والمافيا التي سيطرت على مجتمعات المهاجرين من الجنوب فيما يعرف بحركة «الأيدي النظيفة»، وهو ما أدى إلى نهاية «الجمهورية الأولى». انتهى نظام سياسي بالكامل كان يتسم بالفساد وبالتسامح مع التهرب الضريبي. وتغير النظام الحزبي جذريًا. انخفض عدد سكان المدينة بسبب الانتقال إلى المدن الصغيرة المجاورة والمحيطة بها. وتحول كثير من سكان المدينة الذين انتقلوا إلى خارجها إلى ما يعرف بـ«مستهلكي المدينة» حيث يستخدمون المدينة للعمل، والدراسة، والعلاج، والتسوق، ولكنهم لا يعيشون فيها، ولا ينتمون إليها. وقد أدى هذا إلى تحول ثقافي، حيث تراجعت هوية المدينة الثقافية أمام فردانية هدفها الأسمى المتعة الجامحة مع ضبابية الحس المدني وتراجع الإحساس بالشرعية والأخلاق. إنها مرحلة «ميلانو الحانة». هكذا دخلت ميلانو مرحلة ما بعد التصنيع، حيث اختفت المصانع تقريبًا، وانخفض عدد العمال والموظفين في الصناعة بشكل كبير، من ناحية أخرى، ازداد عدد الموظفين في قطاع الخدمات بشكل كبير، وتركت المصانع الكبيرة فجوات كبيرة وهي المراكز الصناعية الكبرى المهجورة التي حولتها المدينة إلى متاحف ومراكز ثقافية مثل متحف الثقافات «موديك» رغم كل هذا نجحت ميلانو في هذا التفاعل مع الشرط الجديد، على عكس مدن كبرى لم تنجح مثل تورينو، لأن ميلانو لم تكن أبدًا «مدينة شركة»، بينما تماهت تورينو مع شركة فيات.
دخلت ميلانو مع بداية الألفية الثالثة مرحلة التطور الرأسي للمدينة الكوزموبوليتانية التي يجسدها رمزيًا ناطحات السحاب التي بدأت في الانتشار في مركز المدينة وضواحيها، إنه عصر العولمة الذي يعني «موت المسافة» لكن إلغاء المسافة لا يعني أن جميع النقاط على سطح الأرض تصبح متساوية. على العكس من ذلك، هناك تركيز لآليات التحكم في النظام العالمي، في بعض الأماكن وهي المدن الكوزموبوليتانية التي أصبحت مراكز الترابط والتنسيق والتحكم في سلاسل الإنتاج، وخدمات الإنتاج، والسلاسل التجارية والمالية والمهنية، والأنشطة التعليمية والبحثية، والصحية، والثقافية، والفنية. وهي أيضًا مراكز للشبكات الاجتماعية والمجتمعات الافتراضية. لقد أكدت العولمة الدور الأساسي للمدن الكبرى، حيث البنية الاجتماعية لهذه المدن، مثل ميلانو، أكثر تعقيدًا. تضاعف عدد مستهلكي المدينة، وأصبحت الأنشطة الصناعية لا مركزية بينما تركزت أنشطة قطاع الخدمات في مكان واحد، وعدلت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة ظروف العمل والحياة الحضرية، وظهر نوع جديد من البروليتاريا التي تقدم الخدمات: عمال المنازل، ومقدمو الرعاية للمسنين، وعمال المطاعم، وهي وظائف شغلها المهاجرون الجدد من دول العالم النامي، تم ترسيخ أنشطة جديدة بناءً على العلاقة بين التعليم العالي والبحث والابتكار الاجتماعي والتكنولوجي والثقافة، تعرف هذه الأنشطة كيفية دمج الخدمات والتصنيع بطريقة مبدعة، عاملة في كل من القطاعات التقليدية والأكثر تقدمًا: علوم الحياة والأزياء والتصميم، ووسائل الإعلام والاتصالات، والكيمياء الصيدلانية والميكانيكا الدقيقة وميكانيكا الآلات. كل ذلك مع نزعة دولية قوية يدعمها نظام معارِض تجارية فعال للغاية.
تغيرت التركيبة الاجتماعية بشكل عميق، وتم تشكيل أنواع جديدة من الطبقة الوسطى العليا، وهي مثقفة وكوزموبوليتانية، ذات مهارات تقنية وتنظيمية تحكمها علائقية رمزية، كما تم تطوير نظام للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم المبتكرة، ذات الحرفية عالية الجودة. لقد حل هؤلاء الأبطال الجدد إلى حد كبير محل الطبقة الوسطى التقليدية من الحرفيين وأصحاب المتاجر، والطبقة العاملة في المصانع الكبيرة، والعائلات البرجوازية التاريخية، مما أوجد واقعًا اجتماعيًا أكثر انقسامًا وتنوعًا وتعددًا للثقافات. ومع ذلك، فإن قيم وسلوكيات وأنماط حياة هؤلاء الأبطال الجدد تشترك من ناحية في ثقافة المدن العالمية الأخرى ومن ناحية أخرى تعكس السمات الثقافية الخاصة للهوية الميلانية. نعم، ما زالت هناك هوية ميلانية. تختلف ميلانو اليوم كثيرًا عن الماضي، ولكن هناك عناصر واضحة لاستمرارية هويتها تساعد في تفسير قدرتها على الاستجابة لتحديات التغيير. أولا، لطالما كان لمدينة ميلانو ومنطقتها الحضرية مصفوفة إنتاج أكثر تعقيدًا من جميع المدن الإيطالية الأخرى. وتصاحب ذلك حيوية مكثفة للمقاولين، فكانت ميلانو قادرة على التغيير بشكل أسرع وأسهل من المدن الأخرى.
السمة المميزة الأخرى لميلانو هي أنها أكثر المدن الإيطالية تمتعًا بالطابع الأوروبي، والمقصود مدن شمال أوروبا، سواء من حيث موقعها الجغرافي أو مدى التبادل الاقتصادي والمالي بينها وبين مدن الشمال، وأيضًا فيما يتعلق بالمواقف الثقافية. فتقع ميلانو عند تقاطع محورين أساسيين: المحور الذي يربط شرق أوروبا بغربها، والمحور الذي يربط شمالها بجنوبها، هذا الموقع الجغرافي له ما يقابله في القيم والمواقف التي أصبحت، بمرور الوقت، مؤسسية وتوجه السلوكيات العامة والخاصة: وهي العالمية، والعقلانية العلمية والتقنية، والبراغماتية، وأخلاقيات العمل، وتعزيز التنوع والقدرة على إدماج المهاجرين. وأخيرًا العلاقة المتوازنة بين التنمية التنافسية والتضامن. وإذا أردنا التعبير عن نفس الفكرة من حيث الأيديولوجيتين العظيمتين للحداثة، الأفق المرجعي لمؤسسات مدينة ميلانو يأخذ في الاعتبار بشكل كبير كل من الليبرالية ونوع من الاشتراكية الإصلاحية. لإيجاد علاقة متوازنة بين الدولة والسوق والمجتمع.
لكن ميلانو كباقي مدن الشمال الأوروبي، ورغم كل ما سبق، تقسمها حواجز شفافة لا مرئية، لا تخلو مدينة أوروبية كبرى اليوم من «مجتمع موازي» يعيش فيه المهاجرون -خاصة المسلمون- فقد انتهت المحاولات الحثيثة لدمج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة إلى جعل الحدود الثقافية والدينية «لا مرئية» في الفضاء العام حيث ترسخ مفهوم وممارسة لـ«التعددية» يحول الفضاء العام من بوتقة للقاء والتفاعل الإيجابي بين المكونات الثقافية المختلفة في المجتمع الأوروبي المعاصر إلى «حدود» تفصل بينها، كما نجد في فرنسا التي أصدرت قانون يجرم ظهور الرموز الدينية في الفضاء العام لتصبح فرنسا دولة يحمي دستورها الاختلاف والتعدد الديني وتجرم قوانينها مظاهره.
ناضلت ما بعد الحداثة ضد «إقصاء» الحداثة للآخر «المختلِف» ولكنها لم تجد طريقا لهذا إلا «إقصاء» الاختلاف، حيث الاعتقاد السائد أن التعايش السلمي فيها بين المنتمين لأديان وتقاليد وثقافات مختلفة لا ينجح دون استبعاد التجربة الدينية والأخلاقية من الفضاء العام للمجتمع، وهو ما يعني إقصاء الاختلاف، فإذا كانت التجربة الدينية أهم مكونات الهوية، فإن هذا الإقصاء للاختلاف هو في حقيقته إقصاء (للذات).
إقصاء الاختلاف من الفضاء العام جعل «التكيف» وليس «التفاعل» هو الإطار الحاكم لعلاقة المهاجرين مع مجتمعهم الجديد وهو ما أدى -إلى جانب عوامل ذاتية أخرى خاصة بطبيعة ثقافة المهاجرين أنفسهم- إلى إيجاد هذه المجتمعات الموازية.
في سياق هذه الثقافة إذا سألت ما هي الحرية؟ ستكون الإجابة هي كل شيء، ولكن الحرية التي تعني كل شيء هي لاشيء، الحرية الحقيقية لها وجه واسم وحدود، هي الخبرة الإنسانية، التي لا يمكن أن تكون إنسانية إذا نزعت الشخص من هويته من تاريخه من معنى وجوده وغايته؛ لأنها في هذه الحالة ستكون شكلا يخلو من المعنى، هذا النوع من الحرية يحد بلا شك من قدرة المهاجرين على التفاعل مع مجتمعهم الجديد وإثرائه كما حدث في الخمسينيات والستينيات.
فالاندماج لا يكون بين قوالب جامدة، ليس حلًا وسطًا بين طرفين يرى كل منهم أن الآخر هو الذي يجب أن يتغير ليتلاءم معه، ليس الاندماج وسيلة لتجنب الصراع بين طرفين كل منهما في حاجة للآخر، فهذا النوع من الاندماج لا يمنع الصراع، ولكنه يؤجل انفجاره، فإذا كان الصراع بين الصور النمطية خطيرًا فالحوار بينها أشد خطرًا. في الصراع بين الصور النمطية ندرك أن هناك خطأ نبحث عن حل له. أما في الحوار بين الصور النمطية لا نشعر بالسرطان الذي ينتشر في الجسد إلا قبيل الانفجار أو الموت.
لقد فشل النموذج الإنجليزي في الاندماج رغم انفتاحه الشديد على الأديان وترحيبه بحضورها في الفضاء العام. كما فشل النموذج العلماني الفرنسي الذي يقصي الأديان، ويجرم حضورها في الفضاء العام؛ لأنهما رغم الاختلاف الكبير بينهما يشتركان في إقصاء الشخص لصالح القالب. النموذج الإنجليزي يدمج الإسلام كدين. وإدماج دين يعني إدماج مجموعة من الرموز والصور النمطية على حساب التعددية والتنوع بين المؤمنين به. أي أن الدين يحضر والشخص يغيب. أما في النموذج الفرنسي يعني الاندماج تخلي كثير من المواطنين عما يرونه مصدر كينونتهم وبالتالي فهو يؤدي أيضًا إلى غياب الشخص. وما زالت مدينة ميلانو حائرة بين النموذجين، ما زالت تبحث عن نموذجها الخاص بها، وبينما تعرقل مؤسسات المدينة منذ ثلاثين عامًا بناء المسجد الجامع لمدينة ميلانو، نجد بيوت أزيائها الشهيرة مثل Gucci تتسابق لصناعة موضة للأزياء الـ«إسلامية»، في النهاية وكما يقول الكاتب الإيطالي كارلو إميليو جادا «في ميلانو كل شيء موجود.. ميلانو هي خزانة كل احتمالات المستقبل، حيث يمكن لكل فكرة أن تصبح صناعة أو تجارة»!
المدينة حكاية يسرد وقائعها كل شيء إلا الكلمات، وحكاية ميلانو، ليس فيها «كان» فالمهاجر إلى المدينة يغادر ماضيه متطلعًا إلى المستقبل، فهل تنجح ميلانو اليوم في تجديد شبابها بشفاء نفوس المهاجرين من الحنين الذي يكبل خطاهم نحو المستقبل، هل تنجح ميلانو في ابتكار الصيغة التي تجعل من عناصر هويات المهاجرين عامل إثراء وتقدم نحو المستقبل.
يقول عالم الاجتماع روبرت بارك: «أصبحت المدينة هي العالم الذي حكم على الإنسان بالعيش فيه، بالتالي وعلى نحو غير مباشر ودون أي فهم واضح لطبيعة مهمته في تشكيل المدينة، يعيد الإنسان تشكيل ذاته..».
علق طالب من أصول أفريقية على حكاية زميله الصيني قائلًا: أنا إذن ثمرة جوز هند، من الخارج أسود ومن الداخل أبيض، رد ثالث: نحن فاكهة العالم الجديد، ليعلق آخر: نعم، ولكن حتى الفاكهة لها هوية، لها أصل. قلت للطلاب: لستم بلا هوية أنتم هوية العالم الجديد، فالهوية ليست شيئًا نرثه من الماضي، الهوية هي الحاضر في حالة فعل من أجل بناء المستقبل. الهوية هي حيث الماضي والمستقبل يلتقيان. وها نحن جميعًا في قاعة الجامعة العريقة التي كانت دائمًا (الدينامو) المحرك للمدينة نرسم ملامح مستقبلها.
وائل فاروق أستاذ الأدب العربي والدراسات الإسلامية في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو