يرسم العراقي نجم والي خريطة خاصة لمدينته الأحب «بغداد» التي لم يزرها بعد. يركب خياله ويطير إليها برفقة أمه من بيتهم في العمارة. «سيأتي اليوم الذي ترى فيه بغداد بعينيك» تقول أمه التي حلمت أيضا بالسفر إلى بغداد، وهي تقص القصص عليه فيما يتخيل هو المدينة راسمًا المزيد من الخرائط لها «لا أعرف كم يمنح الخيال قوة لتخيل المدينة التي لم تكن قدماي وطأتها حتى ذلك الحين لكي تبدو حقيقة»
في كتاب «بغداد سيرة مدينة» الصادر عن دار الساقي للطباعة والنشر في عام ٢٠١٥م يخترع نجم والي المدينة، حالمًا بالانتقال إليها ذات يوم، تغذيه القصص التي ترويها أمه إلى جانب عدته المتمثلة في البطاقات البريدية والمعايدات والمجلات والصور، وخيال أبيه المتجه إلى بغداد في سيارة شيفروليه، محاولا كل ما يقرّب إليها من عمل.
تناقضات تميز المدينة عن غيرها
على الرغم من أن بغداد ليست أقدم من مدن كالبصرة والموصل وأربيل إلا أن الخراب الذي شهدته يفوق تاريخها، يقول نجم صراحة عن المدينة التي يحب أنها: «لم تملك تاريخا قديما» و«أن كل ما نسب إليها من تاريخ له علاقة بالخيال».
بغداد مدينة دائرية. وعندما تبنى المدن على شكل دوائر، يكون من السهل جدا أن يتوه المرء فيها. هكذا كان طراز بناء بغداد، في الوقت الذي كانت تبنى فيه المدن الإسلامية مستطيلة ومربعة وبيضاوية. وهذا أحد أسباب تفردها وجمالها الذي عزاه والي إلى غربتها عن محيطها.
من التناقضات التي ما تزال تجعل المدينة -بغداد- عجيبة في نظر نجم والي بحيث لا يُعرف إن كانت ميزة أم لا، تمجيد الانتحار والاحتفاء به بنصب، فالانتحار في بغداد على حد قوله شجاعة ومثال، وأن كل من فكر في الانتحار نجح فيه في بغداد مسميًا إياها «عاصمة المنتحرين الاستثنائيين». وعلى النقيض تمامًا فهي مدينة بدأت في الترجمة فنقلت العدوى للمدن وانتشر العلم والفلسفة ابتداء منها.
وسائل مناسبة للوصول إلى بغداد
كانت البطاقات البريدية تستثير السرد. والسرد يقرب المكان/المدينة من الإنسان، والمدينة كانت كلها مختزلة ومكتنزة في البطاقات والمعايدات، وأين ما تكون وتوضع هذه البطاقات في البيت يكون هو ذاته مكان المدينة، سواء في دولاب الملابس أو تحت مخدة النوم أو بينهما. تصبح الجرائد كذلك طريق وصول إلى بغداد، الجرائد القادمة منها تقرب المكان/ المدينة من الإنسان أيضا، وهذا ما جعل نجم والي يعمل بائعًا للصحف ليظل قريبًا من بغداد، ويشعر أنه يعيش هناك. وبالنسبة له فإن إبعاده عن الصحف -عن بيعها بالأحرى- جعله يفكر في أن يكون صحفيًا، والصحافة كفكرة فتحت أمامه بوابة الدخول الكبيرة نحو الكتابة، «أن يكون المرء صحفيًا يعني أنه يعيش في بغداد».
صور باقية.. مدينة متحولة
بالنسبة لنجم فإن الصور هي «التأملات الأولى للعالم»، وعنده بغداد مدينة مولودة من الصور/ مدينة متخيلة.
لكل معلم من معالم بغداد يخترع له والي قصة، عدته في ذلك البطاقات البريدية والصور والمجلات. لكن لا شيء ثابت في بغداد، فحتى أسماء المعالم هذه كما قال تتغير باستمرار، وتصبح المدينة هي ما عليه في الصور فقط أما في الحقيقة فهي ما يحتاج إلى التأكد من أنه ما يزال باقيا كما روت عنه الصورة، مدينة كلها بنيت من خلال الصور والمجلات ولاحقًا الجرائد. حتى عندما وصف والي علاقته ببغداد وصفها «بالعلاقة التي شاعت في تلك الفترة بين هواة التعارف على صفحات المجلات القادمة من بغداد».
اختزال المدينة في شارع
عندما نصل إلى شارع الرشيد نشعر مع والي ألا شوارع في بغداد إلا شارع الرشيد، وهو الذي تخيل عوالم أكبر من محيطه يصف مدينته الحلم بمدينة الشارع الواحد، لدرجة أنه صدق مثل بقية العراقيين أنه رديف لبغداد، يقول «شارع الرشيد هو بغداد لا غير» و«لا يمكن لأحد أن يقول إنه زار بغداد إذا لم يزر شارع الرشيد»، و«من لا يسكن في الرشيد لا يسكن في بغداد».
استكشاف المكان هو الرابط
الذهاب إلى بغداد في رحلات استكشافية وإن كانت خيالية لم تجعل نجم والي يختلف عن كريستوفر كولومبوس في شيء، فكما يقول: «بدون أمريكا ليس هناك كولومبوس وبدون بغداد ليس هناك أنا». وإن كان كولومبوس قد استخدم الخرائط فنجم والي اخترع بغداد عن طريق الصور والبطاقات البريدية والمعايدات التي تصله منها. اكتشاف بغداد ومعرفتها ورؤيتها والتجول فيها بالنسبة إليه إنجاز وامتياز، وهذا ما ترسخ لديه من والده: «كي يصبح نجم ذا شأن لا بد أن يرى بغداد».
الزيارة الأولى لبغداد
زيارة نجم الأولى لبغداد كانت مرورًا بها لا قصدًا إليها، ولكنه استثمر المرور وحقق هدفه بزيارة المدينة الحلم. طفل في السادسة برفقة أبيه والفضول، يشاهد المدينة التي رسمها في خياله. قال عن النزهة بـ«الفتح الأول لي للعالم». سيتقدم نجم للدراسة في بغداد بعد ذلك بسنوات في جامعتها، وهذه المرة لن تكون الزيارة عابرة.
تحولات المدينة
عندما وقع نجم والي في الحب أصبحت بغداد مدينة أخرى، يستكشف أماكنها السرية من أجل الحب ومعه، «في الحب هناك بغداد أخرى بغداد العشق بغداد السرية»، لكنها سرعان ما تحولت إلى عكس ذلك عندما فشل الحب، فبغداد المساحة المتخيلة أصبحت مدينة ضيقة وغريبة لم يغادرها فصل الخريف الكئيب الطويل، والألفة التي بناها طوال سنوات إقامته أصبحت ذكرى تنتمي إلى الماضي. لم يكن الفشل في الحب وحده ما جعل المدينة تتحول، فـ»عندما تزداد المطاردات وتضيق المجالات تتحول حتى مدينة كبيرة مثل بغداد إلى حجر صغير».
البقاء في المدينة بالرحيل منها
عند اندلاع الحرب يصبح البقاء في المدينة الأحب طريقًا للموت. غادر نجم والي بغداد رغم معرفته بصعوبة فراقه لها، لم يحمل معه سوى ثلاثة كتب في كيس بلاستيكي كانت غنيمته من كل سنوات العيش في بغداد. وهو يخرج منها مستحضرًا كل ما رآه وهو طفل «بغداد الطفولة التي ما عادت هناك»، خارجًا من نفس الأماكن التي دخل إليها منها، ولأنه أراد أن يحتفظ بصورة بغداد الطفولة غادر مغمض العينين ليكمل اختراعه لها.
في كتاب «بغداد سيرة مدينة» الصادر عن دار الساقي للطباعة والنشر في عام ٢٠١٥م يخترع نجم والي المدينة، حالمًا بالانتقال إليها ذات يوم، تغذيه القصص التي ترويها أمه إلى جانب عدته المتمثلة في البطاقات البريدية والمعايدات والمجلات والصور، وخيال أبيه المتجه إلى بغداد في سيارة شيفروليه، محاولا كل ما يقرّب إليها من عمل.
تناقضات تميز المدينة عن غيرها
على الرغم من أن بغداد ليست أقدم من مدن كالبصرة والموصل وأربيل إلا أن الخراب الذي شهدته يفوق تاريخها، يقول نجم صراحة عن المدينة التي يحب أنها: «لم تملك تاريخا قديما» و«أن كل ما نسب إليها من تاريخ له علاقة بالخيال».
بغداد مدينة دائرية. وعندما تبنى المدن على شكل دوائر، يكون من السهل جدا أن يتوه المرء فيها. هكذا كان طراز بناء بغداد، في الوقت الذي كانت تبنى فيه المدن الإسلامية مستطيلة ومربعة وبيضاوية. وهذا أحد أسباب تفردها وجمالها الذي عزاه والي إلى غربتها عن محيطها.
من التناقضات التي ما تزال تجعل المدينة -بغداد- عجيبة في نظر نجم والي بحيث لا يُعرف إن كانت ميزة أم لا، تمجيد الانتحار والاحتفاء به بنصب، فالانتحار في بغداد على حد قوله شجاعة ومثال، وأن كل من فكر في الانتحار نجح فيه في بغداد مسميًا إياها «عاصمة المنتحرين الاستثنائيين». وعلى النقيض تمامًا فهي مدينة بدأت في الترجمة فنقلت العدوى للمدن وانتشر العلم والفلسفة ابتداء منها.
وسائل مناسبة للوصول إلى بغداد
كانت البطاقات البريدية تستثير السرد. والسرد يقرب المكان/المدينة من الإنسان، والمدينة كانت كلها مختزلة ومكتنزة في البطاقات والمعايدات، وأين ما تكون وتوضع هذه البطاقات في البيت يكون هو ذاته مكان المدينة، سواء في دولاب الملابس أو تحت مخدة النوم أو بينهما. تصبح الجرائد كذلك طريق وصول إلى بغداد، الجرائد القادمة منها تقرب المكان/ المدينة من الإنسان أيضا، وهذا ما جعل نجم والي يعمل بائعًا للصحف ليظل قريبًا من بغداد، ويشعر أنه يعيش هناك. وبالنسبة له فإن إبعاده عن الصحف -عن بيعها بالأحرى- جعله يفكر في أن يكون صحفيًا، والصحافة كفكرة فتحت أمامه بوابة الدخول الكبيرة نحو الكتابة، «أن يكون المرء صحفيًا يعني أنه يعيش في بغداد».
صور باقية.. مدينة متحولة
بالنسبة لنجم فإن الصور هي «التأملات الأولى للعالم»، وعنده بغداد مدينة مولودة من الصور/ مدينة متخيلة.
لكل معلم من معالم بغداد يخترع له والي قصة، عدته في ذلك البطاقات البريدية والصور والمجلات. لكن لا شيء ثابت في بغداد، فحتى أسماء المعالم هذه كما قال تتغير باستمرار، وتصبح المدينة هي ما عليه في الصور فقط أما في الحقيقة فهي ما يحتاج إلى التأكد من أنه ما يزال باقيا كما روت عنه الصورة، مدينة كلها بنيت من خلال الصور والمجلات ولاحقًا الجرائد. حتى عندما وصف والي علاقته ببغداد وصفها «بالعلاقة التي شاعت في تلك الفترة بين هواة التعارف على صفحات المجلات القادمة من بغداد».
اختزال المدينة في شارع
عندما نصل إلى شارع الرشيد نشعر مع والي ألا شوارع في بغداد إلا شارع الرشيد، وهو الذي تخيل عوالم أكبر من محيطه يصف مدينته الحلم بمدينة الشارع الواحد، لدرجة أنه صدق مثل بقية العراقيين أنه رديف لبغداد، يقول «شارع الرشيد هو بغداد لا غير» و«لا يمكن لأحد أن يقول إنه زار بغداد إذا لم يزر شارع الرشيد»، و«من لا يسكن في الرشيد لا يسكن في بغداد».
استكشاف المكان هو الرابط
الذهاب إلى بغداد في رحلات استكشافية وإن كانت خيالية لم تجعل نجم والي يختلف عن كريستوفر كولومبوس في شيء، فكما يقول: «بدون أمريكا ليس هناك كولومبوس وبدون بغداد ليس هناك أنا». وإن كان كولومبوس قد استخدم الخرائط فنجم والي اخترع بغداد عن طريق الصور والبطاقات البريدية والمعايدات التي تصله منها. اكتشاف بغداد ومعرفتها ورؤيتها والتجول فيها بالنسبة إليه إنجاز وامتياز، وهذا ما ترسخ لديه من والده: «كي يصبح نجم ذا شأن لا بد أن يرى بغداد».
الزيارة الأولى لبغداد
زيارة نجم الأولى لبغداد كانت مرورًا بها لا قصدًا إليها، ولكنه استثمر المرور وحقق هدفه بزيارة المدينة الحلم. طفل في السادسة برفقة أبيه والفضول، يشاهد المدينة التي رسمها في خياله. قال عن النزهة بـ«الفتح الأول لي للعالم». سيتقدم نجم للدراسة في بغداد بعد ذلك بسنوات في جامعتها، وهذه المرة لن تكون الزيارة عابرة.
تحولات المدينة
عندما وقع نجم والي في الحب أصبحت بغداد مدينة أخرى، يستكشف أماكنها السرية من أجل الحب ومعه، «في الحب هناك بغداد أخرى بغداد العشق بغداد السرية»، لكنها سرعان ما تحولت إلى عكس ذلك عندما فشل الحب، فبغداد المساحة المتخيلة أصبحت مدينة ضيقة وغريبة لم يغادرها فصل الخريف الكئيب الطويل، والألفة التي بناها طوال سنوات إقامته أصبحت ذكرى تنتمي إلى الماضي. لم يكن الفشل في الحب وحده ما جعل المدينة تتحول، فـ»عندما تزداد المطاردات وتضيق المجالات تتحول حتى مدينة كبيرة مثل بغداد إلى حجر صغير».
البقاء في المدينة بالرحيل منها
عند اندلاع الحرب يصبح البقاء في المدينة الأحب طريقًا للموت. غادر نجم والي بغداد رغم معرفته بصعوبة فراقه لها، لم يحمل معه سوى ثلاثة كتب في كيس بلاستيكي كانت غنيمته من كل سنوات العيش في بغداد. وهو يخرج منها مستحضرًا كل ما رآه وهو طفل «بغداد الطفولة التي ما عادت هناك»، خارجًا من نفس الأماكن التي دخل إليها منها، ولأنه أراد أن يحتفظ بصورة بغداد الطفولة غادر مغمض العينين ليكمل اختراعه لها.