منذ الأزل ومسألة الهوية تعاني انقسامات فلسفية الآراء، لتتسع وتشمل نقيضين من وجودية الهوية، لتكون الآراء ممتدة ما بين قطبين، جانب يرى أن هوية الإنسان في أناه المطلقة، بمعزل عن العالم الخارجي، بينما يرى آخرون بأن كل ما يعترض الإنسان من مراحل وذكريات ومعارف ومشاعر يعتبر ضمن دائرة الهوية.

وباعتبار هوية الشعوب تندرج فيها كل ما يخص تاريخها وحكاياتها وأمجادها وحضاراتها وتطلعاتها، فإن هذه الرواية «لا يُذكَرون في مَجاز» للكاتبة هدى حمد تفتح النوافذ مشرعة على جانب من جوانب الهوية العمانية، لكنها تحمل البعد الأسطوري باعتبارها تاريخًا مرجعيًا لجانب من حكاياتنا الشعبية، لذا جاءت هذه الرواية بحكايات مجازية، وبقصص لا تأتي إلا ومعها الخوف، يسير معها في تناص فجاءت جلّ الحكايات بثيمة الطفو والطيران.

كقراءة في الفكر الأسطوري، لاقتفاء الأثر والدلالات، والتعاطي معها عبر المتن الروائي القصصي.

ورغم غايات الأدب الكثيرة إلا أن التعبير الفني المشبع للنفس والروح، يظل الأفضل بالنسبة لتأثير الرواية، فرغم ما تقدمه من سير للماضي، وخيال نحو المستقبل، وما تتضمنه من معلومات وخبرات، أو كما يتفق عليه هايدغر «الفن هو تفعيل الحقيقة»، فهو يتيح للكاتب والقارئ مجالًا رحبًا لعبور رحلة تساؤلاته، فيظل انطباعك النفسي عنه، وانتشاء روحك كافيان بأن تضم صوتك للنظرية القائلة «الفنّ للفن».

لذا تجد نفسك تطرب لهذا النوع من القصص الأسطورية، فالروح ميل عجيب فطري نحو الحكاية، تجعله يطرب لها، وتروي بها ضمأ فضوله بمعرفة أخبار الغير، وكون الحكايات وسيلة لنقل الخبرات والحديث عن التاريخ والماضي، والتعبير عمّا يعتمل داخل النفس من مشاعر دفينة، فجاءت هذه الرواية تُرضي الذوق الكلاسيكي عند البعض.

فتنهل الرواية من البعد الأسطوري لإرث متخم من الحكايات الشعبية، فتقدمه على نحو يفوق دهشة كل ما قيل من حكايات، كونه شكلًا فنيًا من الأشكال الفنية للرواية، لنجد أن الكاتبة تتأرجح ما بين الخيال والواقع في سردها للحكاية المتخمة بالطقوس والأماكن والأسماء البعيدة كليًا عن العالم المادي.

لتقف أخيرًا على خطر المنتصف الشفاف ما بين عالمين، وعلى الصعيدين الأسطوري والمنطقي، «ماذا يختفي خلف تلك الطبقة الشفافة المحجوبة بالسحب الكثيفة»، لتستفيق مجددًا تلك الأسئلة الوجودية التي تطوف حول المجهول، فلا تجزم به حد اليقين، فقط على شكل حكايات مجازية من قرية «مجاز»، لنقف بها فقط على خط المنتصف، رغم أن بعض الحقيقة تبدّت وعلى نحو ربما يشرح ويفسر ويختصر الكثير من الأمور، «هنالك الكثير من القصص، وعليكِ أن تتصوري إحداهما، كل واحد منهم ذهب إلى القصة التي تصورها»، لتنقذه الكاتبة من مستنقع الخرافة، وبتحليل جوهري تبدّى كتفسير منطقي، لردم الهوة ما بين الأسطورة الخرافية والتفسير المنطقي الواقعي، وكيف لا تُنقذ هدى قراءها وهي تعرف أن منهم ممن يعدّون السلالم متخليين عن أساميهم، يركضون ويركضون كأبطال حكايات سندريلات مسقط، ولتقدم لنا الكاتبة في روايتها مزيجًا ما بين الأسطورة والخرافة والأحداث الواقعية.

حكايات تحفز هرمون الخوف، وتزيد من إفراز هرمون الأدرينالين، والذي يعتبره الأطباء مصدرًا للطاقة الفجائية، يقوي الجسم للحظة وجيزة، لذلك يعتبرونها إحدى الوسائل لإنعاش المريض عبر حقنها للقلب الذي توقف عن العمل.

قصص تزيد من ضخ الهرمون، فيكون الجسم متأهبًا للأحداث القادمة، ولتكون مشاعره ما بين فر وكر، وترقّب حذِر لمسار الأحداث، مولدا لديه ضغطًا نفسيًا يرغمه على تقليب الصفحات على نحو أسرع.

بدايات من تفاصيل الحياة العادية، إنه الإنسان يظل كائنًا ونسخة مكررة إلى أن تأتي الحكايات وتميزه، وتهبه حيوات تفوق الحياة الاعتيادية.

وعلى نحو يخالف السائد من الحكايات، بأن تبدأ بدهشة تتناقص وتخبو كلما تقادمت الأحداث، فإن بداية هذه الرواية بدأت كتلك الرحلات الطويلة، التي يبدأ التجهيز لها رويدا وبحذر تام، إلى أن تنطلق الرحلة، فتصادفك الدهشة تلو الأخرى عبر مطبات أحداث لا تنتهي إلا بالرسو على ميناء الوصول.

تبدأ بتفاصيل حياة عادية، تشابه حياة الكثيرين بروتينها وهواجسها، «امرأة كسولة وبائسة تنتظر قصة لا تحدث، ويعذبها عقلها اللاواعي بالأحلام ».

إلى أن طرق حلم عبر رؤيا المنام عتبة أبواب الحكاية، لندخل عوالم سردية تتراوح ما بين الأسطورية والحقيقية،«الحلم الذي يتكرر يقول شيء، شيء غير مجاني».

حلم ظنه الجميع حلمًا عابرًا؛ إلا أن الجدة سيدة الخرافات الكبرى أصرت على أنه إشارة من زمن ما، فكما وصفت تلك الرمة « بدت لي أجسادها الهشة والمتطايرة مضيئة كقناديل تدلني على سر مخبّأ»، ولتقول الجدة وعلى نحو تعرفه جيدًا من تاريخ عائلتها «لأكون الحفيدة المختارة من حفيدات بثنة الثائبة التي ظهرت عليها العلامة، فلا تظهر إلا قارئة واحدة كل مائة عام».

ومع تكرر حدوث الحلم؛ بات على صاحبة القصة أن تتتبّع خيوط ذلك الحلم، مرغمة بفعل الرمة التي باتت تقتات من عقلها، حتى أصبحت هواجسًا تؤرقها، ولا حل وخلاص منها سوى مواجهتها، فكما عرفت لاحقا من الجدة «إذا كنت تفكرين بالهرب، ستطاردك لعنة الرمة إلى الأبد».

فتصر على السفر إلى الجدة، رغم تحذيرات الجميع لها، « سافرتُ وفي قلبي خفقان آسر»، فسافرت أبعد وأسرع مما توقعت، واستقبلتها الجدة بحفاوة مبالغة، وكيف لا وهي أصبحت في غيبوبة، وهي في طريقها إلى قرية الجدة.

ومن هنا بدأت الحكاية مبتدأة من الحلم، ومنتهية به وغارقة في تفاصيل كالحلم والوهم الذي يكون ما بين الصحوة والنوم، ولتنتهي الحكاية بالبداية وكأن الرمة أكلت معها كل ما تم سرده من أقاصيص، لننطلق ونؤيد من ذات البقعة، هناك على الكنبة الصفراء لتكون في مهمة تفوق مهمات البشر من حولها، لقراءة كتاب بلغة بائدة، كتاب بثنة الثائبة «أصابتنا من موت محقق»، لا يفهم تلك اللغة إلا من حلّت عليه الإشارة، « في حين كانت أسئلتي تتصاعد بشراسة"، فقد أخبرتها الجدة » أنت لا تعرفين أي عذاب يراود الناس الذين لا تُحكى حكاياتهم، يتعذبون في الغيب، كل ما تبتغيه الجدة أن تُروى حكاية مجاز وحكايتها".

عن أساطير قرية مجاز التي حاقت بها الظروف، وحيث أن " كل شيء مجازا في مجاز"، والتي يحرم فيها ذكر المنسيين هناك، مجاز التي تقع "خلف زوابع الجن، والجبال الثلاثة العظيمة، تمكث كقرية يقطنها أناس معزولون عن الحياة"، " لا شيء يخدش اطمئنانهم سوى أن يكون بينهم إنسي آثم".

لتتوالد القصص تلو الأخرى عبر استنطاق لشخوص الرواية، للتعدد فيها الرواة، فخلف كل قصة أقاصيص وأسرار، ولكل قصة جانب آخر لا بدّ أن يُروى لتكتمل الحقيقة، إلا أن الحقيقة لا تكتمل إلا ببعدها الثالث.

تتبادل شخوص الرواية بسرد تفاصيل قصصهم، وكيف أصبحو من سكان مجاز، وعن أولئك المنسيين في الجبل، «رأسي يرتج ويرتج يمينا ويسارا، كمن يسمح لروحه أن تصعد منه إلى السماء، وبين الإغفاءة والإفاقة الأخيرة تعلقت يدي بيد لا أرى صاحبها»، لتعرف بعدها على لسان الضحّاك ستة فصول لستة حكايات وقعت في أزمان مختلفة، قصة حويضر معلم السحر الذي لا يُبتلى، وقصة نجيم المعلّق قلبه بصفحة السماء، وقصة بشير الغارق في زئبق النمل الأحمر، وقصة شنّان برفقة الخشن إلى الأبدية، وقصة العشب آكلات النذور والقرابين، وقصة الشاغي الدميم وقمل فتنة بائعة الأعشاب، ورغم ذلك فإنه «لا يعرف أحد على وجه الدقة عدد المنسيين الذين تم نفيهم إلى جبل الغائب».

لتنتهي قصص المنسيين، ولنكمل معها أحداث أخرى، وتتكشف ألغاز أكبر، في حين أن الحقيقة هناك على مبعدة هائلة، ولتواصل إغفاءاتها وبعمق، ما بين الجري خلف الحقيقة، وتلك المكاشفة التي تحصل عليها على نحو مجاني، ولتحاول بعدها المقاربة ما بين البعدين الأسطوري والمنطق العقلاني، فتتعثر سيرورة الأحداث تارة بالأسطورة والخرافة السائدة، في حين تقف في أحداث أخرى على برهانات من المنطق والتحليل العلمي، وفي لحظة بات فيها الوعي ضروريًا لفهم الحكاية بعوالمها السردية والتداعي الحر للأحداث.

فتقول بعدها هلاوس بمضامين كامنة في أعماق النفس: «كان قلبي يرجف ويرجف، وأمي تلصق وجهي بوجهها، بذلت كلّ ما أستطيع من قوة لأفتح عيني، لأحرّك إصبعا، إصبعا واحدا فقط، بدا لي الأمر كأنني أزيح خزانة غرفة النوم، وفي برهة غير محددة فتحت أخيرا عيني، وكل خلجة من جسدي تنبض برعب هائل، فوجدت جدتي تطبق رأسها برأسي، تراجعت إلى الوراء مصعوقة».

يتكرر توهمها وإغفاءاتها، وعدم تيقنها لتعرض الجانب الحقيقي من كل تلك القصص، فلا شيء مادي محض يمكن الإمساك به، كما أن تلك الأحداث توقعنا في جدلية تامة حول الزمن، حيث تكون الأحداث بترتيب زمني تبادلي، وكما يقول مسكوية في كتاب الهوامل والشوامل:« النفس فوق الزمن»، ولتنزاح الأحداث عبر بعد عمودي، وتقودنا إلى تساؤلات وجودية أعمق.

«ها قد سمعت قصص المنسيين، لكن ذلك لم يدلّني على طريقي، لم يمنحني إلا فهما ناقصا لما يدور هناك»، لنجد أن الكاتبة مع شخوص الرواية لم يزدادوا إلا تساؤلا وحيرة، مما يحفظ للمجهول قدسيته، فنجدها هناك تقف على خط المنتصف الذي يفصل بين العالمين، عالم مادي تراه بكل حواسها، وعالم تعرفه من خلال الوهم المحض، الذي يتبدّى كواقع حقيقي بأنه موجود، وعبر إشارات استدلالية رمزية رمادية اللون وضبابية، وبدون أدنى قدرة وعلم منها بأن تذيب أو تقلل المسافة ما بين الأسطورة والحقيقة، رغم ما قالته الخبابة في أحد الفصول: «أنا أرى مالا ترونه، وأعرف مالا تعرفونه، أعرف نصف الحكاية الناقصة من كل شيء»، حيث إنها من البداية كانت تضمر في نفسها، وعبر أحداث دلالية أن يكون القارئ هو المقصود.

فيقرأ القارئ ما بين السطور، من الأسطورة المهيمنة على النص ما قد يلهب مخيلته، إلى أن يجد بينها ما يشبهه، ويتقاطع مع بعض أفكاره، فيجفل خوفًا ويحاول البحث عن تفسيرات يأنس بها «لفتتني تلك الأعين الجافلة وكأن ثمة ما يروعها».

تعدد الرواة وكثرت الحياة في أقاصيص بمضامين كونية عميقة، تشي بامتلاك البعض وحكمهم لقوى الطبيعة مما يعمل على اعتلال الموازين الكونية، فيتضرر أولئك من لا علم لهم، ولا حكم لهم بتلك القوى الخفية التي تحكم السنن الكونية، فكما قالت الكاتبة عن أحد شخوص الرواية صفيراء مقلبة القلوب: « تحرك يديها بينما تركز عقلها على ما عساه يكون الرابط بين القلبين، تغوص في تأملاتها حتى تلتقط الجامع بينهما بإحساس عميق».

ولتكون ظروف معينة في مجاز؛ كفيلة أن تكون كشاهد مجازي؛ لأن يكون أحدهم قد تنطبق عليه العلامة، كأن يكون منسيا ولا بد أن يُنفى إلى جبل الغائب، حيث إن الذاهبين هناك يفقدون الرغبات الثلاث: الجوع، العطش، الشهوة، لينتظرون بعدها عودتك، لكن كقصة تُروى فقط، ولا أثر لك سوى أن تكون قصة من قصص المنسيين، حيث «ترتاح أرواحنا الضالة من رحلة شقائها الأبدي»، وليكون وصولك إلى ذلك الجبل بثيمة الطفو والطيران والتلاشي، بعد أن يصل صاحب القصة إلى مرحلة اللاجدوى من العيش، بمزيد من الأيام المتكررة، فلا أحد يعرف بعدها عنك شيئًا، كنجيم الذي تبدد فور وصوله، «يرتفع لصفحة السماء التي شاهدها أول ما أبصر الدنيا كعشية ميلاده».

وكشنّان الذي تلاشى نحو أبدية الآبدين، برفقة ثوره الذي اعتبره دائما مصدر قوته ونجاته، «ما أن أصبح جسده ملتصقا بجسد صاحبه، وانفتح بينهما من الدفء ما يكفي لحياة كاملة».

وإن كانت اللغة البائدة هي ما كتبت به كتاب الجدة الثالثة والثمانين، فإن كاتبة الرواية كتبت السطور بمداد قوامه الدهشة، لتتشكل الكلمات بفعل الرمة، إلى أن تجعل الأحداث تنخر في رأسك وأفكارك رويدًا، متخلية عن مدائن اللغة الشاعرية، حيث لا مكان لمزيد من العاطفة المترفة، فقط شذرات من تعبيرات الخوف والالتفاتات المفاجأة، والنقلات التي تدفعك لأن تجفل وترتعب مرة بعد مرة التي تتجلّى في أن جميع الأحداث تفوق ما قد سمعته يومًا من كل المرويات الشعبية، تتبدّى في حكايات ترغب في أن تتعامل معها كتأويل الحلم، لا شيء أكيد يمكن تطويقه وتحديده على وجه الدقة، رغم كثرة الحكايات لكنها تعيدك إلى ذات النقطة، «أقول لك شيئا وانت تقولين شيئا، سر مقابل سر».

ولتعلو لغة اللاشعور، عبر تضمين النص للتساؤلات والغفوات، وتلك الأحداث المتأرجحة ما بين الصحوة والنوم، «تبدو كالمأخوذة، وكأنها تتجول في عالم آخر غير مرئي»، بتماسك تام ورصانة لغوية، ووحدة بنائية وتجاه نسقي سلس، وتواتر حيوي لخط سير الأحداث رغم تكرار سيرة الموت ضمن الأحداث، وانتقال بؤرة السرد عبر الرواة المتعددين في الرواية، ولتأخذك عبر مسميات شخوص الرواية إلى أزمان بعيدة، بدون وثوقية جازمة لتحقيقها، «جاءت جدتي من فراغها الأزلي»، زمن تعاظم فيه تشيؤ الوهم، أو ربما تكون أزمنة تخيلية «نعبر مجاز بمخيلتنا المجنحة، لنسافر لأماكن لا يفكر بها غيرنا، أو هكذا نظن على الأقل"، وتبدّى الوهم والفكرة كيانا واضحا حيث» تجلّت لي هشاشة العالم، عبر امتداد زمني كثرت فيه الخرافة، وأصبحت فيها الأسطورة المادة الأم لكل الحكايات المروية، والنسخة المشوهة عن الحقيقة، عبر أزمان تختصر وتطيل لتمتد للوصول عبر نهايات القصص، إلى الخلود المحض والأبدية المطلقة، «كان التراب يضيء ليلا كنجم هوى على الأرض، بعد أن تسرّب سرهما القديم لروح الفتى».

كل ذلك حدث وأكثر وهي ممدة هناك على الكنبة الصفراء