نجحت زيارة بايدن نسبيًا في التمهيد لإدماج إسرائيل (بشكل غير علني، متدرج في خطوات صغيرة، ومع بعض الأطراف العربية وليست كلها) في الشرق الأوسط.
لكنها أخفقت نسبيًا في حل مشكلتين أصبحتا مزمنتين في علاقات واشنطن مع دول المنطقة، المشكلة الأولى إلى فشل بايدن في حلها أثناء زيارته، هي كسر كامل الحاجز النفسي الذي نشأ بين الولايات المتحدة وبين عدد من النظم السياسية في المنطقة منذ عهد أوباما. هي مشكلة نتجت في جزء منها عن 3 أسباب: الأول موجود لدى ثلاث دول رأت في توقيع إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران 2015 دون التنسيق معها إهدارًا لمصالحها الأمنية، واستهتارًا بمخاوفها من البرنامج، وأيضًا من التمدد الإقليمي الإيراني، وفي الأخير تعاملًا فوقيًا من واشنطن مع هذه الدول بصورة تحمل تجاهلا وربما إهانة.
السبب الثاني هو عودة إدارة بايدن إلى التركيز على انتقاد حالة حقوق الإنسان في العالم العربي بعد انقطاع في عهد ترامب، ورغم ما بدا أنه تراجع أمريكي عن سياسة النبذ، وعدم الاعتراف بشرعيات سياسية قائمة بحكم الأمر الواقع، إلا أن بايدن واصل لغته المرتبكة، وأعاد تحت ضغط وأسئلة الإعلام الأمريكي وضغط الجناح اليساري في حزبه الديمقراطي التذكير في مباحثات جدة بجزء غير قليل من انتقاداته لحالة حقوق الإنسان العربية، فاستمر الحاجز النفسي قائمًا بينه وبين نظرائه العرب، بل ربما زاده مواقف بروتوكولية وسياسية متحدية قابلته بها أطراف خليجية.
السبب الثالث هو ما يمكن وصفه بلغة استعلاء مستمرة من كل الإدارات الأمريكية تجاه النظم العربية ويراها محللون لغة تتسم بالغطرسة.. لغة تنفي عن العرب ملمحًا من ملامح التحضر والمشاركة في الحضارة الإنسانية.
هذه اللغة مع لغة تدليل وتباه ترفع باستمرار من شأن إسرائيل وتقدمها التقني، خلقت مرارة هائلة لدى النظم العربية بعد أن كانت المرارة من السياسة الأمريكية مكانها في الشوارع العربية سواء بغزو العراق والمشاركة في تفتيت ليبيا وسوريا، وما نتج عنه من كارثة تأجيج الحروب الطائفية، وتفتيت الدولة الوطنية العربية، وأيضا ما نتج عنه من كارثة تهيئة كل الظروف لنشأة داعش.الخ التي ثبت بكلام ترامب نفسه أن واشنطن في عهد أوباما وهيلاري كلينتون قد دعمت في البداية نشأتها. المشكلة الأخرى التي أخفق بايدن في حلها هي مشكلة تراجع الثقة في التعهدات الأمريكية تجاه حلفائها العرب، وهي مشكلة نتجت من خذلان واشنطن لعدد من دول المنطقة في نجدتها في صراعات وأزمات كبرى، وفي الامتناع عن تزويدها بأسلحة، وأحيانًا وقعت فعلًا على اتفاقياتها الأولى، ولم تنفذ واشنطن هذه العقود ولم تستجب لهذه الطلبات. ولهذا فشل مسعى أمريكي مضمر في زيارة بايدن حاول إقناع هذه الدول. إن حاجة هذه الدول إلى الحماية الأمريكية هي أكبر من حاجة أمريكا إلى نفطها وغازها وموقعها الجيوسياسي الفريد.
ما الذي يمكن أن يستفيده العرب من وصولهم لمستوى نسبي في إمكانية أن يقولوا (لا أو نصف لا ) للامبراطورية الأمريكية ؟ ما الذي يمكنهم أن يستفيدوا فيه من إدراك أن العالم تغير، وأن هناك أفولًا في النفوذ الأمريكي على العالم، بل أفول أوسع للحضارة الغربية المسيطرة على العالم في الـ400 عام الأخيرة من التاريخ الإنساني؟ إن هناك قوى عالمية أخرى بازغة ستشارك واشنطن آجلا أو عاجلا في تسيير النظام العام للعلاقات الدولية، وأن نظامًا متعدد الأقطاب سينهي هيمنة القطب الواحد مهما ازدادت شراسة الولايات المتحدة في حرب الجميع؛ لكي تبقى قطبًا واحدًا متحكمًا في مصير العالم.
الدرس الأساسي هو العودة لخبرة حركة التحرر الوطني من الاستعمار القديم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي وجدت فيه شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وحتى بعض الدول الصغيرة في أوروبا نفسها، مخيرة بالتبعية إما إلى المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا أو التبعية للمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق.
فنجت من هذا الفخ الدول التي أنتجت هذه الخبرة، إذ كانت تحتاج عملية التنمية فيها إلى أن تتعاون مع المعسكرين، كما كانت عملية التنمية تفرض عليها عدم التورط في استنزاف هذه التنمية الناشئة في صراعات المعسكرين وحروبهم المحدودة، وبالوكالة على أراضي العالم الثالث والجنوب بعد أن كان توازن الرعب والردع النووي، وتواجه حلفي وارسو والأطلسي قد تكفل بعدم حدوث حروب مباشرة بينهما.
هنا نشأت حركة الحياد الإيجابي، وحركة عدم الانحياز، واستطاعت توفير بيئة مناسبة لدول مثل الهند والصين ومصر ويوغسلافيا السابقة (صربيا الحالية )؛ لتحقيق معدلات تنمية مستقلة، وعلاقات متكافئين مع الغرب والشرق على السواء، فكانت مصر تحصل على دعم للتصنيع الثقيل الذي بدأته من ألمانيا الغربية وقتها بيد ومن الاتحاد السوفييتي باليد الأخرى.
إن تكرار هذه الحركة مستحيل مع اختلاف السياق الحالي عن سياق الخمسينيات والستينيات، واختفاء قيادات وآباء الاستقلال التاريخيين مثل: تيتو ونهرو، وناصر شواين لاي وسوكارنو ونكروما، ولكن يبقى منها مضمونها الحقيقي وهو جعل المصلحة الوطنية، وليس التبعية لقوة دولية هو المحرك للعلاقات تعاونًا وصراعًا.
وإذا كان أحد أكبر غلاة الهيمنة في التفكير الاستراتيجي الغربي مثل: توني بلير وكيسنجر، وقيادات رسمية غربية مثل ماكرون الفرنسي، وشولتز الألماني يقرؤون جميعا أن عهد القطب الواحد في طريقه للانتهاء. وإن العملاق الصيني أصبح بحكم الأمر الواقع قطبًا دوليًا منافسًا لواشنطن، وأن روسيا تستجمع شتات قوتها، وأن الهند وأندونيسيا والبرازيل هي قوى صاعدة بقوة على سلم النمو الاقتصادي بسرعة هائلة.. فإنه لا معنى بعد ذلك لاستمرار إلقاء البيض في سلة واحدة خاصة وأن عروض الصين وروسيا مثلًا في توفير المعدات العسكرية المتقدمة للعرب والجنوب عمومًا لا تحتوي على الشروط المجحفة التي تفرضها الولايات المتحدة عليهما. وهي أرخص سعرا وأسرع تسليمًا وخالية من المشروطية السياسية الغربية المعتادة، وإنما صفقات تجارية خالصة تتحقق فيها مصالح البائع والمشتري. لقد ثبت مثلًا أن صيغة أوبك بلس التي تضم أوبك وروسيا قد لعبت دورًا في استقرار سوق النفط العالمية، وارتفاع أسعاره بما ينقذ الدول العربية المنتجة للنفط من التراجع الخطير في اقتصاداتها بعد أزمة كوفيد- 19، وتعقيدات حرب أوكرانيا، بينما تبدو الضغوط الأمريكية عليها لزيادة الإنتاج مضرة باستقرار السوق النفطية، وتوقعات الطلب عليه، وأيضًا وصفة مؤكدة لانهيار أسعاره والإضرار بمستوى النمو الجيد الحالي في إيرادات الدول النفطية. من المؤشرات التي يمكن قياسها على وجود بوادر وعي سياسي بضرورة الخروج من معسكر التبعية المطلقة لواشنطن الذي دخلته المنطقة بعد جولات كيسنجر المكوكية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، والحاجة إلى توازن في السياسة الخارجية العربية مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من ناحية، ومع الصين والقوى الصاعدة الأخرى من ناحية أخرى:
1- الارتياح الذي حدث في العالم العربي للتصريح الصيني الرسمي بأن العالم العربي ليس منطقة فراغ استراتيجي، قال بايدن: إن أمريكا مصممة على أن تملأه حتى لا تملأه بكين وموسكو، وتشديد الصين على أن المنطقة مملوءة بشعوبها ودولها، وهي ليست تحت وصاية أحد.
2- استئناف الاتصالات الروسية العربية بعد أيام فقط من زيارة بايدن، والتأكيد على أن هذه الزيارة لم تستطع أن تغير من استمرار علاقات قائمة على المصالح مع موسكو في سوق النفط وجولة لافروف العربية، وحديثه إلى مندوبي الدول العربية في الجامعة العربية، وتأكيده أن بلدًا عربيًا مثل مصر هي الشريك الاستراتيجي رقم واحد لروسيا في
أفريقيا.
3- زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى صربيا يوغسلافيا السابقة، واستحضار ميراث تيتو وناصر اللذين شاركا مع نهرو في تأسيس حركة الحياد الإيجابي وحركة عدم الانحياز.
من السابق لأوانه الحديث عن إمكانية تحول بوادر هذا الوعي نحو حياد وتوازن المصالح مع القوى الدولية إلى سياسة عربية مستقلة، إذ تحتاج إلى إرادة سياسية صلبة، وقدرة على تحمل ضغوط هائلة من واشنطن، لابد أنها ستمارس على العواصم العربية لإبقاء الشرق الأوسط منطقة نفوذ أمريكي مطلقة.. ولكن من المؤكد أن التغيرات الحاصلة في النظام الدولي من تراجع في النفوذ الغربي وصعود في النفوذ الصيني والآسيوي والأوراسي يمنح العالم العربي فرصة لتحقيق مصالحه مع الجميع، وتحقيق تنمية تصنيع وتصدير بمعدلات نمو عالية متواصلة دون انقطاع لمدة عقدين على الأقل كالتي نجحت فيها النمور الآسيوية والبرازيلية، وأخفقت الدول العربية حتى الآن في تحقيقها فبقي معظمها لا هو متقدم ولا هو متأخر محتجز في نهاية نفق التخلف يرى ضوء التقدم أمام عينيه ولكنه لا يصل إليه بعد.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب صحفي من مصر
لكنها أخفقت نسبيًا في حل مشكلتين أصبحتا مزمنتين في علاقات واشنطن مع دول المنطقة، المشكلة الأولى إلى فشل بايدن في حلها أثناء زيارته، هي كسر كامل الحاجز النفسي الذي نشأ بين الولايات المتحدة وبين عدد من النظم السياسية في المنطقة منذ عهد أوباما. هي مشكلة نتجت في جزء منها عن 3 أسباب: الأول موجود لدى ثلاث دول رأت في توقيع إدارة أوباما الاتفاق النووي مع إيران 2015 دون التنسيق معها إهدارًا لمصالحها الأمنية، واستهتارًا بمخاوفها من البرنامج، وأيضًا من التمدد الإقليمي الإيراني، وفي الأخير تعاملًا فوقيًا من واشنطن مع هذه الدول بصورة تحمل تجاهلا وربما إهانة.
السبب الثاني هو عودة إدارة بايدن إلى التركيز على انتقاد حالة حقوق الإنسان في العالم العربي بعد انقطاع في عهد ترامب، ورغم ما بدا أنه تراجع أمريكي عن سياسة النبذ، وعدم الاعتراف بشرعيات سياسية قائمة بحكم الأمر الواقع، إلا أن بايدن واصل لغته المرتبكة، وأعاد تحت ضغط وأسئلة الإعلام الأمريكي وضغط الجناح اليساري في حزبه الديمقراطي التذكير في مباحثات جدة بجزء غير قليل من انتقاداته لحالة حقوق الإنسان العربية، فاستمر الحاجز النفسي قائمًا بينه وبين نظرائه العرب، بل ربما زاده مواقف بروتوكولية وسياسية متحدية قابلته بها أطراف خليجية.
السبب الثالث هو ما يمكن وصفه بلغة استعلاء مستمرة من كل الإدارات الأمريكية تجاه النظم العربية ويراها محللون لغة تتسم بالغطرسة.. لغة تنفي عن العرب ملمحًا من ملامح التحضر والمشاركة في الحضارة الإنسانية.
هذه اللغة مع لغة تدليل وتباه ترفع باستمرار من شأن إسرائيل وتقدمها التقني، خلقت مرارة هائلة لدى النظم العربية بعد أن كانت المرارة من السياسة الأمريكية مكانها في الشوارع العربية سواء بغزو العراق والمشاركة في تفتيت ليبيا وسوريا، وما نتج عنه من كارثة تأجيج الحروب الطائفية، وتفتيت الدولة الوطنية العربية، وأيضا ما نتج عنه من كارثة تهيئة كل الظروف لنشأة داعش.الخ التي ثبت بكلام ترامب نفسه أن واشنطن في عهد أوباما وهيلاري كلينتون قد دعمت في البداية نشأتها. المشكلة الأخرى التي أخفق بايدن في حلها هي مشكلة تراجع الثقة في التعهدات الأمريكية تجاه حلفائها العرب، وهي مشكلة نتجت من خذلان واشنطن لعدد من دول المنطقة في نجدتها في صراعات وأزمات كبرى، وفي الامتناع عن تزويدها بأسلحة، وأحيانًا وقعت فعلًا على اتفاقياتها الأولى، ولم تنفذ واشنطن هذه العقود ولم تستجب لهذه الطلبات. ولهذا فشل مسعى أمريكي مضمر في زيارة بايدن حاول إقناع هذه الدول. إن حاجة هذه الدول إلى الحماية الأمريكية هي أكبر من حاجة أمريكا إلى نفطها وغازها وموقعها الجيوسياسي الفريد.
ما الذي يمكن أن يستفيده العرب من وصولهم لمستوى نسبي في إمكانية أن يقولوا (لا أو نصف لا ) للامبراطورية الأمريكية ؟ ما الذي يمكنهم أن يستفيدوا فيه من إدراك أن العالم تغير، وأن هناك أفولًا في النفوذ الأمريكي على العالم، بل أفول أوسع للحضارة الغربية المسيطرة على العالم في الـ400 عام الأخيرة من التاريخ الإنساني؟ إن هناك قوى عالمية أخرى بازغة ستشارك واشنطن آجلا أو عاجلا في تسيير النظام العام للعلاقات الدولية، وأن نظامًا متعدد الأقطاب سينهي هيمنة القطب الواحد مهما ازدادت شراسة الولايات المتحدة في حرب الجميع؛ لكي تبقى قطبًا واحدًا متحكمًا في مصير العالم.
الدرس الأساسي هو العودة لخبرة حركة التحرر الوطني من الاستعمار القديم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي وجدت فيه شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وحتى بعض الدول الصغيرة في أوروبا نفسها، مخيرة بالتبعية إما إلى المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا أو التبعية للمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق.
فنجت من هذا الفخ الدول التي أنتجت هذه الخبرة، إذ كانت تحتاج عملية التنمية فيها إلى أن تتعاون مع المعسكرين، كما كانت عملية التنمية تفرض عليها عدم التورط في استنزاف هذه التنمية الناشئة في صراعات المعسكرين وحروبهم المحدودة، وبالوكالة على أراضي العالم الثالث والجنوب بعد أن كان توازن الرعب والردع النووي، وتواجه حلفي وارسو والأطلسي قد تكفل بعدم حدوث حروب مباشرة بينهما.
هنا نشأت حركة الحياد الإيجابي، وحركة عدم الانحياز، واستطاعت توفير بيئة مناسبة لدول مثل الهند والصين ومصر ويوغسلافيا السابقة (صربيا الحالية )؛ لتحقيق معدلات تنمية مستقلة، وعلاقات متكافئين مع الغرب والشرق على السواء، فكانت مصر تحصل على دعم للتصنيع الثقيل الذي بدأته من ألمانيا الغربية وقتها بيد ومن الاتحاد السوفييتي باليد الأخرى.
إن تكرار هذه الحركة مستحيل مع اختلاف السياق الحالي عن سياق الخمسينيات والستينيات، واختفاء قيادات وآباء الاستقلال التاريخيين مثل: تيتو ونهرو، وناصر شواين لاي وسوكارنو ونكروما، ولكن يبقى منها مضمونها الحقيقي وهو جعل المصلحة الوطنية، وليس التبعية لقوة دولية هو المحرك للعلاقات تعاونًا وصراعًا.
وإذا كان أحد أكبر غلاة الهيمنة في التفكير الاستراتيجي الغربي مثل: توني بلير وكيسنجر، وقيادات رسمية غربية مثل ماكرون الفرنسي، وشولتز الألماني يقرؤون جميعا أن عهد القطب الواحد في طريقه للانتهاء. وإن العملاق الصيني أصبح بحكم الأمر الواقع قطبًا دوليًا منافسًا لواشنطن، وأن روسيا تستجمع شتات قوتها، وأن الهند وأندونيسيا والبرازيل هي قوى صاعدة بقوة على سلم النمو الاقتصادي بسرعة هائلة.. فإنه لا معنى بعد ذلك لاستمرار إلقاء البيض في سلة واحدة خاصة وأن عروض الصين وروسيا مثلًا في توفير المعدات العسكرية المتقدمة للعرب والجنوب عمومًا لا تحتوي على الشروط المجحفة التي تفرضها الولايات المتحدة عليهما. وهي أرخص سعرا وأسرع تسليمًا وخالية من المشروطية السياسية الغربية المعتادة، وإنما صفقات تجارية خالصة تتحقق فيها مصالح البائع والمشتري. لقد ثبت مثلًا أن صيغة أوبك بلس التي تضم أوبك وروسيا قد لعبت دورًا في استقرار سوق النفط العالمية، وارتفاع أسعاره بما ينقذ الدول العربية المنتجة للنفط من التراجع الخطير في اقتصاداتها بعد أزمة كوفيد- 19، وتعقيدات حرب أوكرانيا، بينما تبدو الضغوط الأمريكية عليها لزيادة الإنتاج مضرة باستقرار السوق النفطية، وتوقعات الطلب عليه، وأيضًا وصفة مؤكدة لانهيار أسعاره والإضرار بمستوى النمو الجيد الحالي في إيرادات الدول النفطية. من المؤشرات التي يمكن قياسها على وجود بوادر وعي سياسي بضرورة الخروج من معسكر التبعية المطلقة لواشنطن الذي دخلته المنطقة بعد جولات كيسنجر المكوكية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، والحاجة إلى توازن في السياسة الخارجية العربية مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من ناحية، ومع الصين والقوى الصاعدة الأخرى من ناحية أخرى:
1- الارتياح الذي حدث في العالم العربي للتصريح الصيني الرسمي بأن العالم العربي ليس منطقة فراغ استراتيجي، قال بايدن: إن أمريكا مصممة على أن تملأه حتى لا تملأه بكين وموسكو، وتشديد الصين على أن المنطقة مملوءة بشعوبها ودولها، وهي ليست تحت وصاية أحد.
2- استئناف الاتصالات الروسية العربية بعد أيام فقط من زيارة بايدن، والتأكيد على أن هذه الزيارة لم تستطع أن تغير من استمرار علاقات قائمة على المصالح مع موسكو في سوق النفط وجولة لافروف العربية، وحديثه إلى مندوبي الدول العربية في الجامعة العربية، وتأكيده أن بلدًا عربيًا مثل مصر هي الشريك الاستراتيجي رقم واحد لروسيا في
أفريقيا.
3- زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى صربيا يوغسلافيا السابقة، واستحضار ميراث تيتو وناصر اللذين شاركا مع نهرو في تأسيس حركة الحياد الإيجابي وحركة عدم الانحياز.
من السابق لأوانه الحديث عن إمكانية تحول بوادر هذا الوعي نحو حياد وتوازن المصالح مع القوى الدولية إلى سياسة عربية مستقلة، إذ تحتاج إلى إرادة سياسية صلبة، وقدرة على تحمل ضغوط هائلة من واشنطن، لابد أنها ستمارس على العواصم العربية لإبقاء الشرق الأوسط منطقة نفوذ أمريكي مطلقة.. ولكن من المؤكد أن التغيرات الحاصلة في النظام الدولي من تراجع في النفوذ الغربي وصعود في النفوذ الصيني والآسيوي والأوراسي يمنح العالم العربي فرصة لتحقيق مصالحه مع الجميع، وتحقيق تنمية تصنيع وتصدير بمعدلات نمو عالية متواصلة دون انقطاع لمدة عقدين على الأقل كالتي نجحت فيها النمور الآسيوية والبرازيلية، وأخفقت الدول العربية حتى الآن في تحقيقها فبقي معظمها لا هو متقدم ولا هو متأخر محتجز في نهاية نفق التخلف يرى ضوء التقدم أمام عينيه ولكنه لا يصل إليه بعد.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب صحفي من مصر