أتأمل في التزامن بين الحدثين الذي يعبر عنه العنوان أعلاه من عمقين لافتين، أحدهما تاريخي، والآخر مستقبلي، وبدأت لي نتائج هذا التأمل أنه يتم صياغة المستقبل الفكري للمنطقة من منظور تاريخي متطور، ومن المهم نجاح تطبيق العلمانية في الغرب، ثم بقية الدول الأخرى التابعة له، والمخطط الآن يستهدف منطقتنا ليس بالتبعية، وإنما بصورة مباشرة، وبصورة علنية، فهل ينجح؟ بمعنى هل الشروط الموضوعية متوفرة الآن لنجاح تطبيق فكرة الاستهداف الجديدة؟ سنحاول في هذا المقال قيادة الحذر من محاولات نشر الإلحاد في المنطقة بعد قرار وزارة الخارجية الأمريكية.

ففي الأسبوع الماضي، قررت وزارة الخارجية الأمريكية دعم الإلحاد في المجتمعات الإسلامية والعربية بصورة مباشرة من خلال برنامج المنح الذي يستخدم أموال الضرائب الأمريكي، وذلك عشية زيارة الرئيس الأمريكي بايدن للمنطقة. تطوران متزامنان، ويستهدفان منطقة واحدة فقط، في توقيت زمني واحد، وفي مرحلة معقدة جدا، فهل تدرك ذلك دول المنطقة؟ وهل تعلم أبعاده ومآلاته وخلفياته؟.

للإجابة على تلكم التساؤلات، لجأت للتاريخ لفهم الحاضر، وسريعا، وجدت مصادر تتحدث عن مساهمة اليهود في نشر العلمانية خاصة في القرن السابق، من خلال نشر نظريات ماركس في الاقتصاد والتفسير المادي، ونظريات فرويد وغيرها.. مستغلين محاربة الكنيسة للعلم واضطهادها له، وقد قادتني هذه المعلومة إلى تبني مقاربة الاستقراء والاستنباط لفك شفرة الخلفية التي تقف وراء التدخل المباشر للخارجية الأمريكية لنشر الإلحاد الذي يتعارض شكلا وجوهرا مع طبيعة الأيديولوجية لشعوب المنطقة، فوجدت الدور اليهودي وراء التاريخ والحاضر لتأسيس المستقبل الفكري للمنطقة لغايات سياسية، فلهم مصلحة استراتيجية مباشرة في ذلك، لأنه سيخدم وجودهم الجديد في المنطقة، وهو -أي هذا الوجود- يأخذ الآن أشكالا قانونية وسياسية يؤصل ثقافتهم وهويتهم ومصالحهم، وتفتح لهم الكثير من الأبواب بوجود عددي ونوعي، في المنطقة.

لكنهم يرون أن هناك صخرة ستتحطم فوقها طموحاتهم العميقة، وهي أيديولوجية شعوب هذه المنطقة، وهذه الأيديولوجية تعتبر إسرائيل كيانا محتلا لفلسطين، ويدنس القدس الشريف، ثالث الحرمين الشريفين، ويسعى إلى تهويدها، ويمارس ضد أشقائهم في فلسطين مختلف أنواع الإرهاب، وتؤمن هذه الشعوب من خلال أيديولوجيتها بالواجب المقدس لتحريرها، وأن الانتصار على المحتلين سيكون حتميا لا محالة، وهذه حيثيات مهمة تضعنا في قلب استهدافها بالإلحاد الآن.

لذلك، أصنف قرار الخارجية الأمريكية بالحرب الناعمة التي لا تقل شأنا عن الحرب المادية، بل أخطر، كونها تمس منطقة الاستقرار الاجتماعي مباشرة، وبصورة علنية، ومن أموال الشعب الأمريكي، والجدير بلفت الانتباه إليه كذلك أن قرار الخارجية الأمريكية يأتي بعد ما برزت ظاهرة الإلحاد عربيا وخليجيا بجرأة غير مسبوقة فوق السطح، لم يتوقعها بهذا الحجم حتى أكبر الراصدين للتحولات الفكرية والأيديولوجية في المنطقة، من هنا يأتي التوقيت الأمريكي متناغما مع سياق ظهور الظاهرة في منطقة الخليج بشكل خاص، فهل توقيت الخارجية الأمريكية هو حصيلة خطة ممنهجة توجت به قرارها، أم ضمن سياق التفاعل بعد بروز الظاهرة نتيجة الانفتاح الديموغرافي والجغرافي؟ كل من يتابع تاريخيا الاختراقات الأمريكية في العالم عامة، ومنطقة الخليج تحديدا، فلن يسقط الاحتمال الأول من التساؤل الأخير.

وقد رصدت الاختراقات القديمة في عدة مقالات في حينها، وكذلك من خلال حوارات في التلفزيون العماني عندما كانت تستضيفني المذيعة حنان الكندية في برنامج «حوار مع الشباب» قبل أن تنتقل إلى واشنطن للعمل كملحقة إعلامية في السفارة العمانية، وكشفت من خلالها دور الحزب الديمقراطي في الاختراقات عندما يستلم الحكم على عكس الحزب الجمهوري، وهو ما يتكرر الآن مع الحزب في عهد بايدن، وهذا يعني أن الاختراقات نهج قديم جديد للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الديمقراطيين الذين يؤمنون بالقوة الناعمة في ضمانة حصولهم على مصالح جديدة، بخلاف الجمهوريين الذين يحصلونها بالقوة الخشنة.

ففي عهود الحزب الديمقراطي اخترقت المجتمعات الخليجية مع التفاوت من خلال نخبها المختلفة أو مؤسساتها العديدة، وبالأخص المجتمع المدني، وصل بحالة الاختراق إلى جمعيات المرأة التي أغرقتها بالأموال وبزيارات عناصرها لواشنطن دون أن يكون هناك تشريع رادع، وشهدنا حقبة استقواء النخب بواشنطن، ومن كان توجه له دعوات مجانية لزيارة واشنطن، كان يصنف كصديق لها، وهذه مكانة معنوية كانت الحكومات تحسب لها الحسابات، وتلجأ إلى اتباع معها سياسة الاحتواء المتعدد الأشكال.

أما الآن، فإن مسار الاختراق الأمريكي أخذ منحى مختلفا من حيث الماهيات التي يستهدفها، فعوضا عن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، تحول الاهتمام الآن إلى نشر الإلحاد في المجتمعات الإسلامية والعربية في تحول غائي خطير في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الديمقراطيين، ينقل ميكانيزماتها من صناعة أدوات الضغط لتحقيق النتائج، إلى تحقيق هذه الأخيرة مباشرة، والطريق أمامها الآن سهل، وأبسط مما يتصور، ما لم تعمل الدول فكرها في قضايا التحصين التشريعي.

فلو أمعنا التفكير في النماذج المتوقعة للدعم السياسي للخارجية الأمريكية، فسنجد أنها ستدعم وتمول شبكات الإلحاد -باعتراف من مصادر أمريكية رسمية- وما هي ساحات هذه الشبكات الآن؟ سنجدها غالبا، مواقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك وتويتر ويوتيوب» والمدونات، وهي أكثر وسائل الإعلام التي تستخدم لمساهمتها في إيصال الأفكار والمعتقدات المستهدفة بدون رقابة مجتمعية أو من الدولة، ونجدها في نخب هذه الشبكات، وكذلك في النخب وأصحاب الأيديولوجيات والمعتقدات التي لها مع الأيديولوجية الاجتماعية الخليجية تحديات وجودية.

وقد يتقاطع معها دعما من أطراف أخرى، قد أصبحت لها شرعية سياسية وقانونية في بعض العواصم الخليجية، ومن خلالها أسست لها مؤسسات أيديولوجية وثقافية واقتصادية، ليس لتثبيت وجودها السياسي، وإنما لإزاحة كل ما يعتقد أنه سيؤثر على ديمومتها، فكيف إذا ما نجحت في إقامة المظلة الأمنية والعسكرية لحماية الخليج العربي من جارتهم طهران؟ وقد يلتقي الفاعلون الجدد في الخليج حتى دون اتفاق فيما بينهم، بهدف مناهضة الحالة الدينية في الخليج لتعويمها، ثم جعلها في إطار الشكل دون الجوهر، ومنصهرة في الوجوديات الأيديولوجية الجديدة، وهذا سياق لا يمكن استبعاده أو تجاهله إذا ما أردنا أن نلم بكل جوانب ملف الاختراق الأمريكي الأيديولوجي الجديد.

وهو كما قلنا أخطر من كل أنواع الاختراقات الأمريكية السابقة، ومن المؤكد أنها ستستغل الأوضاع المالية والاقتصادية الجديدة للمجتمعات الخليجية والإسلامية، وسيكون لها من السهولة اختراق ذهنيات الشباب الذين يشكلون الأغلبية في مجتمعاتهم، وأدخلوا في ضغوطات سيكولوجية على مستقبلهم في مرحلة انكسار الصمت على الإلحاد، وستدخل المنطقة في دورة الشد والجذب حسب إدارة وقتية تدخل دولهم لمواجهة هذا الاختراق الجديد، ودون تدخل الدولة –بالمفهوم المجرد- ستبرز أصولية جديدة غير مسيطر عليها، وستؤثر على توجهات الخليج الاقتصادية وبالذات الاستثمارية، وستجد الدعم ممن يلتقون معها إقليميا ودوليا خاصة بعد نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا، وصناعة عالم متعدد الأقطاب، لن تكون لواشنطن الهيمنة المطلقة فيه.

من المؤكد أن واشنطن لن تكون القوة المطلقة فيه، فذلك عهد قد ولى، وهذه الحقيقة الساطعة الآن التي تخرج من تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، تقوي من هامش الاستقلالية للدول الخليجية التي لم تطبع أو تربط أمنها بأمن الصهاينة، وتقوي موقفها في تحصين مجتمعاتها، وتجعلها تشارك القمة الأمريكية الخليجية العربية غدا في الرياض بحجة القوة، وهي القوة التي جعلت بايدن ينحني للرياض بعد مواقفه ضدها أثناء وبعد فوزه بالرئاسة الأمريكية، فأولويات الرياض ومسقط على وجه الخصوص الآن مختلفة كثيرا عن الأولويات الأمريكية، ومن مصلحتها المستقبلية العليا، ألا تدخل مع واشنطن ولا الكيان المحتل ضد روسيا أو الصين أو إيران، أو العكس، ولا الصمت كذلك على استهداف أيديولوجية المنطقة، وأمامهم الآن فرصة تشكيل محور لقيادة الإكراهات الأمريكية والصهيونية لدول المنطقة، وبالذات الأيديولوجية والفكرية، لذلك نتوقع أن تكون القمة غدا مختلفة عن بقية القمم التي يكون طرفها واشنطن رغم كل ما يقال عن أجندات أمريكية وصهيونية.

عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه