عندما يعرب معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية العماني عن خشيته من العام المقبل 2023 في قضيتين أساسيتين هما: قضية القمح، وقضية أمن الطاقة، فإن هذا يعني أن السياسة والدبلوماسية العمانية قد أصبحت تقود المخاوف على أمن الغذاء وأمن الطاقة معا بصورة متزامنة، صحيح تصريحاته قيلت في سياق عربي عام، فقد دعا إلى تكاتف دول المنطقة في تأمين الغذاء وأمن الطاقة من خلال الاستثمارات المشتركة في مشاريع استراتيجية ذات استدامة وجدوى وفوائد متبادلة بين مختلف الدول العربية، وهذه التصريحات تحمل الكثير من الدلالات والرسائل، كما يجعلنا نعمل الفكر في تصويب مسارات بعضها، بغية إحداث الأثر الزمني والجغرافي والاجتماعي لبلورة دعوته من منظور التصويب.

ولا يمكن الرهان على بلورة دعوة معاليه عربيًا، ولا حتى خليجيًا، ولن نجد الآن هناك سوى مسقط والرياض معنيتين بها، ويحتم عليهما عاملا الزمن وضغوطات السياسة الإقليمية والدولية الإسراع في بلورة ملف الأمن الغذائي عاجلا، لكي يشكل نموذجا لبقية الأشقاء في الخليج، ويظل مفتوحًا عربيًا، ويعزز المعنويات العربية والإسلامية بوجود إرادة مشتركة تخرج من أكبر دولتين في الخليج رغم الإحباطات.

سأتناول هذا الموضوع من ثلاثة محاور أساسية:

أولا: عدم الرهان على المنظومتين الخليجية والعربية.

للأسف الشديد، الدول العربية منشغلة أو شغلت بدواخلها في صراعات داخلية وبينية أو بهواجس أمنية مصطنعة كالخليج، ولن ترفع رأسها إلا على وقع كارثة غذائية مقبلة -لا قدر الله- وقد لا تنفعها استثماراتها الزراعية في الخارج إذا ما نشبت المجاعة، فقد يمنع التصدير أو تقرصن في البحار أو تحول التوترات والحروب أو الأنواء المناخية من وصولها للخليج أو ترتفع أسعارها بصورة جنونية، وأصبحنا على يقين أنه يتعذر الآن حمل الكل على مفهوم أو اتفاق استراتيجي بعد أن استحكمت التدخلات الخارجية في سياسات واختيارات الكثير منها.

هذا واقع ينبغي الاعتراف به الآن، وقبوله كمسلمة من المسلمات التي تفرضها الإكراهات الإقليمية والدولية، وإذا سلمنا بذلك، فإن قطار المسيرة الوحدوية في الخليج ينبغي أن يمضي قدمًا بالدول المؤمنة به، وعدم الإحباط من تعذر تحقيق نتائج قمتي العلا والرياض 2020 في آجالها الزمنية، وهي 2025، وهنا نجد أكبر دولتين «مساحة وتعدادًا وجيوستراتيجيا وتاريخيا» وهما سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، يمكن أن تقودان هذه المسيرة بصورة ثنائية ومثالية، رغم أن اتجاهات أشقائهما تؤسس مرحلة مليئة بالإكراهات على الكل عبر تحالفها مع فاعلين من خارج المنطقة الخليجية، مما تجد نفسها مسقط والرياض مضطرتين للمناورة والمسايرة والمساومة لتمطيط الزمن، لاحتمالات تغيير التحولات وتلاشي الإكراهات.

ثانيا: نضوج حجج الشراكة بين مسقط والرياض وانعكاساتها على الأمن الغذائي.

هنا يستوجب أن نوضح طبيعة هذه الحجج الناضجة التي ينبغي أن تنطلق منها الشراكة بين مسقط والرياض، التي من خلالها نراهن على استدامتها، ونقترح من البوابة الغذائية أولا، كقاطرة لشراكة شاملة ومفتوحة لاستيعاب بقية الشركاء الخليجيين لاحقا، وفيها سأوضح لماذا ينبغي التركيز أولا على الأمن الغذائي، وسأبرزها في النقاط التالية:

- ترسيم الحدود بين البلدين، وهنا ينبغي أن نعيد الذاكرة بمقولة خالدة للمؤسس الأول الراحل السلطان قابوس، فالآن زمانها، والآن إذا لم نبلور غاياتها، فستخسر البلدان فرص الشراكة التكاملية والتضامنية، ولن تتكرر بمثاليتها وبشخوصها، قالها الراحل السلطان قابوس في مارس 1990 في الرياض عندما تم التوقيع على وثيقة ترسيم الحدود بين البلدين، فقد قال: «إن التاريخ بين البلدين سيذكر هذا اليوم بأحرف من نور «ونحن الآن في هذا اليوم الذي يفتح أبواب الشراكة «الحقيقية» بين البلدين باتجاه التوأمة في الاستراتيجيات المصيرية، ومن منظور مصداقية مصالح كل بلد، ومن على قاعدة إدماج الشعبين الشقيقين في النفع وليس حكرًا على رجال الأعمال فقط.

- التوافق بين النظامين السياسيين في كلا البلدين بمفهومه المعاصر.

- من نتائج الأزمة الروسية الأوكرانية، حتمية تعزيز قدرات الدول المتناغمة والمنسجمة والمتماثلة، وذات الأهمية الجيواستراتيجية التكاملية، وهنا نجد كل هذه المقومات تتوفر في مسقط والرياض الآن بصورة مدهشة وغير مسبوقة تاريخيا، مع إضافة بعد الجوار الجغرافي، وكونهما مع اليمن أقدم كيانات في التاريخ، وتمثل ثقلا ديموغرافيا وطنيا خالصا على عكس بقية الدول التي ذابت ديموغرافيتها الوطنية في الديموغرافيات الوافدة، وأصبحت لهذه الأخيرة مؤسساتها الأيديولوجية والاقتصادية والثقافية الخاصة بها.

وقد نضجت هذه الحجج الكاملة بوجود قيادة سياسية في كلا البلدين متحررة من المعوقات التي صنعت في الماضي لعرقلة تقاربهما، ومن الاستفادة من أكبر اقتصاد عربي مجاور لمسقط، والقيادتان على وعي سياسي بحجم المخاطر المعاصرة لكلا البلدين، وقد اختارتا أطرا وكوادر سياسية ودبلوماسية جديدة لترجمة توجهاتهما الشاملة، وإذا لم تسارع بتطوير علاقات البلدين في استغلال الظروف المواتية الآن، والآجال الزمنية المستحقة، فقد تفوت على البلدين صناعة التاريخ الحديث، ليس للبلدين فقط، وإنما للمنطقة خاصة، والشرق الأوسط عامة، وبالتالي فإنَّ دعوة وزير الخارجية العماني إلى استثمارات مشتركة في مشروعات استراتيجية مستدامة وفق مصالح متبادلة بين الدول العربية، معنية بها مسقط والرياض حصريًا.

فكلاهما يستوردان القمح، وكلاهما يتوجهان الآن نحو تأمينه داخليًا وخارجيًا، وكلاهما قد بدأ في إنتاج القمح بصورة متفائلة، فلماذا لا يشتركان في الإنتاج باستراتيجيات موحدة، وآليات دعم مشتركة؟ وتتوفر لديهما الأراضي الزراعية الشاسعة، وانتقال الإنتاج بينهما، سيكون آمنًا ومستدامًا مهما كانت الأزمات الإقليمية والدولية، عسكرية أو مناخية أو صحية.. إلخ، ومن خلال الشراكة الحقيقية في ضمانة الأمن الغذائي، سيكون ذلك باكورة الشراكة الشاملة، وهي باكورة ستحمل معها كل الأبعاد الاجتماعية، وستؤسس روابط عميقة أساسية ذات اعتماد متبادل، وجدوى في الأزمات والتوترات الجيوسياسية – والجيواستراتيجية.

ولن نبالغ إذا ما قلنا إنها ستكون عامل قوة للحفاظ على استقلالية ووحدة البلدين، فمن سيتحكم في قضية الغذاء سيكون له الريادة والقيادة والسيادة؛ لأن الجوع مخاطره متعددة لكل دولة، منها أمنية وسياسية وجغرافية.. إلخ. وتاريخيا تم اقتطاع جغرافيات استغلالا لاختلالات بنيوية في وحدتها الوطنية، ويكون وراءها الجوع، ولا يخفى على الكل حجم الأطماع في جغرافيات البلدين.

ثالثا: من أين يبدأ مسار التكامل الغذائي ؟

يبدأ من تشجيع صغار المزارعين في كلا البلدين عبر تمويل زراعة القمح والمنتوجات الأخرى ذات الأولوية الزمنية للأمن الغذائي العماني السعودي، وذلك عبر إطلاق مؤسسة ائتمانية «صندوق مشترك» متخصصة في تمويل النشاط الزراعي في كلا البلدين، ولماذا صغار المزارعين دون الشركات الكبيرة؟ لأسباب موضوعية، أبرزها -هنا رأي خبير زراعي- أن الشركات الكبيرة تستهلك كميات هائلة من المياه، على عكس صغار المزارعين الذين يعتمدون على الري العادي بالرشاشات المحورية لزراعة المساحات التي تقل عن 100 هكتار.

كما أن استهداف صغار المزارعين سيكون انعكاساته على المجتمع بصورة بنيوية، فهو سيكون وسيلة لتعزيز البقاء على الطبقة الوسطى المهددة بالانقراض بسبب التحولات المالية والتضخم الذي يهدد العالم، ولأن عموم المنافع ستكون أفقية وليست رأسية، وهذا النوع من الاستفادة ينبغي أن تكون مخططة في كل المشاريع الاقتصادية التكاملية بين البلدين؛ لأن رهانات الديمومة، والتمسك بها، بل والدفاع عنها وقت الحاجة من قبل القوة الناعمة –الشعوب هنا– وهذا النوع من القوة هو الذي سيصنع الفارق في الانتصار في الأزمات والحروب المقبلة، وليس القوة العسكرية بما فيها النووية.

مما تقدم، نرى أن دعوة معالي وزير الخارجية العماني سالفة الذكر ينبغي أن يلتقطها حصريًا المجلس التنسيقي العماني السعودي الذي يرأسه وزيرا خارجية البلدين في ظل ما أوضحناه سابقا من استحالة أن تلقى آذانا مصغية الآن على المستويين الخليجي والعربي، ويجعلها المجلس التنسيقي ذات أولوية سياسية ثنائية، وتشكل لها لجنة عاجلة، ويكون طموحها واسع المدى، باتجاه حتمية إقامة قطار بين البلدين ليعزز من تعدد وتنوع التواصل بينهما في مختلف الاحتمالات.. فالقطار سيعزز توجه ربط البلدين جويًا وبحريًا وبريًا، وهو ما تحقق حتى الآن في طريق بري بينهما مباشرة، وفي افتتاح الأسبوع الماضي خط جوي مباشر بين ظفار والرياض، وقريبًا سيتم افتتاح خط بحري يربط موانئ البلدين.

والقطار بين البلدين سيجعل من ديناميكية الجسور المفتوحة بينهما تستوعب مخاطر البحر والجو من جهة، وسيعزز الاتصال البري وتعدده من جهة ثانية، وعندما يتم إقامة طريق بري ثان بين البلدين من جهة المزيونة العمانية، فإن ذلك سيفتح كل أبواب التوأمة الاستراتيجية بين البلدين، ويجعل من كلا الشعبين الشقيقين أكبر المدافعين عنها في وقت الأزمات، وقد تفتح الفكر السياسي الثنائي الطموح بضم اليمن في الأمن الغذائي المشترك مما تشكل دعمًا لوجستيًا أو شريكًا للبلدين على قدم المساواة.

عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه