أكتبُ هذه المقالة وأنا ما زلت مستمتعًا بوجودي في مومباي أو بومباي قديما، بوابة الهند على بحر العرب، وعاصمة ولاية ماهاراشترا التّجاريّة الأولى، وأنا أتأمل الإنسان في هذه المدينة الّتي يتجاوز سكانها –كما يذكر بعضهم– العشرين مليونا، محاولا الاقتراب منه في سوقه وزقاقه، وفي مساجده ومعابده، وفي مطاعمه وساحل بحره، لعلي أجد رابطا بين مومباي ومسقط، بل وبين مومباي وعمان، فكانت عشق العمانيين، ومحطّ سفرهم وتجارتهم، ومينائهم التّجاريّ الآخر في بحر العرب تصديرًا واستيرادًا، وإذا كانت مسقط عروس بحر العرب من زاويته الغربيّة للبحر؛ فإنّ مومباي عروس بحر العرب من زاويته الشّرقيّة.
تضمّ مومباي تأريخًا مهمًا للعلاقات العمانيّة الهنديّة قديمًا وحديثًا، ما زال في غالبه لم يكشف ويدوّن، وما زالت العديد من الوثائق لم تحلل وتخرج؛ فلم تكن مومباي محطّ أنظار البّحارة والتّجار فحسب؛ بل كانت محطّ أنظار بعض السّلاطين، ومنهم السّلطان تيمور بن فيصل [ت 1932م]، والّذي اطمأن بالاستقرار فيها، ودفن في ترابها، فضلا عن الذّاكرة الشّفويّة الّتي يحملها العديد من البّحارة والتّجار ومحبّي السّفر، والّتي لم توثق غالبها، لتغادرنا بمغادرة أصحابها إلى العالم الآخر.
دخلت مسجدا للأحناف في زقاق أنديري القديمة، وكأنّ الزّمان رجع بي إلى مساجد عمان القديمة، من حيث فرشة المسجد وتشابهها مع (بساط) المسجد في عُمان، والمحراب البسيط غير المتكلف فيه، وأرى كبار السّن يتوافدون بوقارهم وهيئتهم وكأنني أرى مشهدًا مصوّرًا يرجعني إلى مساجدنا القديمة، مع بساطة الصّلاة، وعدم التّكلف فيها لحنا وتطويلا.
جئت وفي مخيلتي مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالإنسان والوجود، والّتي لا تراوح تفكيري بين حين وآخر، لعلي أجد شيئا من الإجابة عنها، والهند بلا شك كنز للبحث عن العديد من التّساؤلات، والوقوف عند الكثير من التّأمل والنّظر، فهي بلاد العجائب والتّناقضات معا، فتشاهد في مومباي جميع التّناقضات، فضلا عن الأديان المختلفة والمتباينة، تسودها خمسة أديان رئيسة، الهندوس ثمّ المسلمون ثمّ البوذيون ثمّ المسيحيون ثمّ الجينيون وسادسها بنسبة ضئيلة جدّا السّيخ، مع تشعب الهندوسية، وتعدد طرقها وتصوّراتها للآلهة، ووجود التّيارات اليساريّة المعاصرة، والتّوجهات اللّبراليّة، إلا أنّك بخروجك من المعبد أو الكنيسة أو المسجد، أو حتّى في الجانب الآخر من الملهى أو البار لن تجد أحدًا يصادفك غير الإنسان، فقد تجد بعض الملامح تميزه بها؛ لكن في الجملة لا تكاد تفرق بين أحد، فسوقهم واحد، وعالمهم واحد، وطرقهم واحدة.
إنّ مومباي بهذه التّعدديّة آية في الجمال الإنسانيّ، فتخرج في أيّ ساعة من ليل أو نهار، في الشّاطئ أو السّوق أو الزّقاق، فلا تشعر أأنت في ليل أو نهار، والكل يسبح في عالمه، لترى المتأملين والرّهبان عند البحر، وفي أجواء الطّبيعة الجميلة، يعيشون عالمهم الآخر بأجسادهم النّحيلة، وملابسهم البسيطة.
ليس من السّهل أن تجتمع التّعدديّة مع الأمن، وإن كانت هي من حيث الأصل، إلا أنّها قد تكون فتيلا أيضا يشتعل في أيّ وقت إذا تولّد خطاب طائفيّ، يقود هذه المجتمعات الآمنة والمتسالمة إلى الصّراع والعنف، وإن كنت أرى أنّ الطّبيعة الهنديّة لا تختلف كثيرًا عن طبيعة سكان الخليج واليمن مثلا، فهذه مجتمعات من داخلها متسالمة ومتصالحة، لا تنظر بريبة كبيرة إلى المختلف، عدا خطابات دينية سلبيّة بين حين وآخر، غالبها مصدّرة من أجواء مظلمة من التّأريخ، أو أحداث ظرفيّة فيه، يحاولون استنساخها، أو القياس عليها، وتزداد سوءًا إذا غذيت سياسيّا، وتحولت إلى تظاهرة اجتماعيّة.
لهذا أرى لاستقرار المجتمعات عقليّا وأمنيا ضرورة الخطاب الإنسانيّ، وربطه بالجمال الإلهيّ في التّعدديّة الطّبيعيّة في المجتمعات الإنسانيّة، فالأديان وسيلة للوصول إلى الإشباع الرّوحيّ، وتحقق الجمال الإلهيّ، أمّا الإنسان فهو دائرة المشترك في التّعامل الإنسانيّ، فلا يمكن حصر (الإنسان) بماهيّته الواسعة، في زوايا ضيقة، فإذا نظرنا إلى الواسع من خلال الضّيق ضاق الأفق، وأخرجت النّفوس ما في أضغانها من احتقار للمختلف، وتقزيم وتشويه له، أمّا إذا نظرنا إلى الضّيق من خلال الواسع فهنا يتسع الأفق، وتتصالح الذّات، وتتسالم مع الآخر، لتتوسع دائرة البناء، وتضيق دائرة الصّراع.
سابقا عاش العديد من آبائنا في مجتمعات شبه متشابهة، وأحيانا ليس على مستوى الدّين، بل على مستوى المذهب، فهو يعيش في بقعة جغرافيّة يسودها مذهب واحد فقط، وقلّ ما يسافر وينظر إلى المجتمعات المتعددة، فيستنكر حتّى الصّلاة خلف الآخر؛ لاختلاف بعض هيئاتها، فكيف باختلاف التّصوّرات العقديّة بين المذاهب الإسلاميّة نفسها، فنظر إلى الإسلام من خلال مذهبه، فضاق أفقه، وأخرج أحكامًا ضيّقة في الحكم والتّعامل مع المختلف، كتبت في ظرفيّة زمنيّة، لا علاقة لها بزماننا، فيحاول البعض اليوم استنساخها، أو العيش في أجوائها، ولهذا لمّا خرج الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ [ت 1395هـ/ 1985م] من مسقط رأسه في الدّاخليّة، وكانت إباضيّة المذهب؛ فلمّا سكن في مسقط، ورأى تعدديّة المذاهب والتّوجهات، أدرك أنّ مشكلة المسلمين في صراعهم يتمثل في عدم الخلطة مع الآخر، أي بمعنى ينظرون إلى الآخر من خلال الدّائرة الضّيقة، وليس من خلال الدّائرة الواسعة.
واليوم اتّسع العالم من جهة، وأصبحنا نعيش في قرية واحدة من جهة ثانية، فجُمع العالم في مدينة واحدة، فالخلطة لم تعد محصورة بين أبناء مذهب أو دين واحد؛ بل الخلطة اليوم داخل أمّة الجنس البشريّ الواحدة، ولم يعد ذلك محصورًا بسبب سفر؛ بل أصبحت المجتمعات اليوم مفتوحة على بعضها، بسبب السّياحة العلميّة أو الترفيهيّة من جهة، وبسبب الانفتاح الاستثماريّ من جهة مقابلة، فيفد إلى الدّولة القطريّة الواحدة آلاف البشر في العام الواحد، يختلفون في أديانهم وتوجهاتهم وأفكارهم، منهم من يذهب سريعا، ومنهم من يستقر لفترة أطول لدراسة أو عمل، ومنهم من يتجنس ويستقر لاطمئنانه، لتتشكل دوائر مختلفة في المجتمع الواحد؛ لهذا لكون العالم اليوم على هذه الصّورة، لا يمكن قراءته والتّعامل معه، إلا من الدّائرة الأوسع وهي الإنسان، وهي ضرورة في قراءتنا للآخر اليوم، يلزم به نتاج فقه جديد يتلاءم مع هذه المرحلة.
لعل مومباي خصوصا تجاوزت هذه المرحلة تأريخيّا، كما تجاوزت مصر وبلاد الشّام الخلطة داخل الأديان الإبراهيمية، فاختلطوا بشكل واسع مع اليهود والمسيحيين، ومع التّيارات الإسلاميّة الأخرى كالنّصيريّة والدّروز، فلم تعد أعياد المسيحيين تشكل حساسيّة للمسلمين، ولا أعياد المسلمين تشكل حساسيّة لدى المسيحيين، يشتركون في تراب واحد، يشاركون بعضهم في أفراحهم وأتراحهم، إلا أنّك تجد هنا في مومباي خصوصًا، والهند عمومًا؛ الصّورة أكثر اتّساعًا، ما يشبه ذلك في العراق، وإن كانت قريبة من بلاد الشّام، إلا أنّ العراق أكثر تعدديّة دينيّة وعرقيّة.
الشّيء الأهم بعد النّظرة الواسعة، والتّسالم مع الآخر، كيف نسهم في رقيّ هذا الإنسان ذاته، بعيدًا عن هوّياته واختلاف أديانه وتوجهاته، من المؤسف حقًّا أن يفشل المجتمع الإنسانيّ في تحقيق العدالة الإنسانيّة بين الجميع ولو بنسبة متقاربة، ولعل هذا هو الأهم الّذي ينبغي أن يشتغل عليه المفكرون والمنظرون، فتحقيق كرامة الإنسان من حيث ماهيته هي الغاية الّتي لا ينبغي إهمالها في المجتمع الإنساني، فموارد الطّبيعة كافية لتحقق الكرامة الإنسانيّة، ولكن الأهواء السّياسيّة والأيديولوجيّة تحول دون تحقق ذلك.
ومن المؤسف أن تجد هذا الفقر في مومباي، وهي بلاد غنية بالطّبيعة، وبالقوّة البشريّة والعقليّة، ولكن ترى المجتمع هنا متماسكا، ويحاول أن يحقق كرامته بذاته، مستغلا قدراته وطاقاته، محافظًا على أمنه واستقراره، لعل القادم أجمل إذا ما أدركت البشريّة أننا أمّة واحدة، ماهيتنا واحدة، وتحقيق كرامة الجميع غاية إنسانيّة واحدة.
بدر العبري كاتب عماني مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
تضمّ مومباي تأريخًا مهمًا للعلاقات العمانيّة الهنديّة قديمًا وحديثًا، ما زال في غالبه لم يكشف ويدوّن، وما زالت العديد من الوثائق لم تحلل وتخرج؛ فلم تكن مومباي محطّ أنظار البّحارة والتّجار فحسب؛ بل كانت محطّ أنظار بعض السّلاطين، ومنهم السّلطان تيمور بن فيصل [ت 1932م]، والّذي اطمأن بالاستقرار فيها، ودفن في ترابها، فضلا عن الذّاكرة الشّفويّة الّتي يحملها العديد من البّحارة والتّجار ومحبّي السّفر، والّتي لم توثق غالبها، لتغادرنا بمغادرة أصحابها إلى العالم الآخر.
دخلت مسجدا للأحناف في زقاق أنديري القديمة، وكأنّ الزّمان رجع بي إلى مساجد عمان القديمة، من حيث فرشة المسجد وتشابهها مع (بساط) المسجد في عُمان، والمحراب البسيط غير المتكلف فيه، وأرى كبار السّن يتوافدون بوقارهم وهيئتهم وكأنني أرى مشهدًا مصوّرًا يرجعني إلى مساجدنا القديمة، مع بساطة الصّلاة، وعدم التّكلف فيها لحنا وتطويلا.
جئت وفي مخيلتي مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالإنسان والوجود، والّتي لا تراوح تفكيري بين حين وآخر، لعلي أجد شيئا من الإجابة عنها، والهند بلا شك كنز للبحث عن العديد من التّساؤلات، والوقوف عند الكثير من التّأمل والنّظر، فهي بلاد العجائب والتّناقضات معا، فتشاهد في مومباي جميع التّناقضات، فضلا عن الأديان المختلفة والمتباينة، تسودها خمسة أديان رئيسة، الهندوس ثمّ المسلمون ثمّ البوذيون ثمّ المسيحيون ثمّ الجينيون وسادسها بنسبة ضئيلة جدّا السّيخ، مع تشعب الهندوسية، وتعدد طرقها وتصوّراتها للآلهة، ووجود التّيارات اليساريّة المعاصرة، والتّوجهات اللّبراليّة، إلا أنّك بخروجك من المعبد أو الكنيسة أو المسجد، أو حتّى في الجانب الآخر من الملهى أو البار لن تجد أحدًا يصادفك غير الإنسان، فقد تجد بعض الملامح تميزه بها؛ لكن في الجملة لا تكاد تفرق بين أحد، فسوقهم واحد، وعالمهم واحد، وطرقهم واحدة.
إنّ مومباي بهذه التّعدديّة آية في الجمال الإنسانيّ، فتخرج في أيّ ساعة من ليل أو نهار، في الشّاطئ أو السّوق أو الزّقاق، فلا تشعر أأنت في ليل أو نهار، والكل يسبح في عالمه، لترى المتأملين والرّهبان عند البحر، وفي أجواء الطّبيعة الجميلة، يعيشون عالمهم الآخر بأجسادهم النّحيلة، وملابسهم البسيطة.
ليس من السّهل أن تجتمع التّعدديّة مع الأمن، وإن كانت هي من حيث الأصل، إلا أنّها قد تكون فتيلا أيضا يشتعل في أيّ وقت إذا تولّد خطاب طائفيّ، يقود هذه المجتمعات الآمنة والمتسالمة إلى الصّراع والعنف، وإن كنت أرى أنّ الطّبيعة الهنديّة لا تختلف كثيرًا عن طبيعة سكان الخليج واليمن مثلا، فهذه مجتمعات من داخلها متسالمة ومتصالحة، لا تنظر بريبة كبيرة إلى المختلف، عدا خطابات دينية سلبيّة بين حين وآخر، غالبها مصدّرة من أجواء مظلمة من التّأريخ، أو أحداث ظرفيّة فيه، يحاولون استنساخها، أو القياس عليها، وتزداد سوءًا إذا غذيت سياسيّا، وتحولت إلى تظاهرة اجتماعيّة.
لهذا أرى لاستقرار المجتمعات عقليّا وأمنيا ضرورة الخطاب الإنسانيّ، وربطه بالجمال الإلهيّ في التّعدديّة الطّبيعيّة في المجتمعات الإنسانيّة، فالأديان وسيلة للوصول إلى الإشباع الرّوحيّ، وتحقق الجمال الإلهيّ، أمّا الإنسان فهو دائرة المشترك في التّعامل الإنسانيّ، فلا يمكن حصر (الإنسان) بماهيّته الواسعة، في زوايا ضيقة، فإذا نظرنا إلى الواسع من خلال الضّيق ضاق الأفق، وأخرجت النّفوس ما في أضغانها من احتقار للمختلف، وتقزيم وتشويه له، أمّا إذا نظرنا إلى الضّيق من خلال الواسع فهنا يتسع الأفق، وتتصالح الذّات، وتتسالم مع الآخر، لتتوسع دائرة البناء، وتضيق دائرة الصّراع.
سابقا عاش العديد من آبائنا في مجتمعات شبه متشابهة، وأحيانا ليس على مستوى الدّين، بل على مستوى المذهب، فهو يعيش في بقعة جغرافيّة يسودها مذهب واحد فقط، وقلّ ما يسافر وينظر إلى المجتمعات المتعددة، فيستنكر حتّى الصّلاة خلف الآخر؛ لاختلاف بعض هيئاتها، فكيف باختلاف التّصوّرات العقديّة بين المذاهب الإسلاميّة نفسها، فنظر إلى الإسلام من خلال مذهبه، فضاق أفقه، وأخرج أحكامًا ضيّقة في الحكم والتّعامل مع المختلف، كتبت في ظرفيّة زمنيّة، لا علاقة لها بزماننا، فيحاول البعض اليوم استنساخها، أو العيش في أجوائها، ولهذا لمّا خرج الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ [ت 1395هـ/ 1985م] من مسقط رأسه في الدّاخليّة، وكانت إباضيّة المذهب؛ فلمّا سكن في مسقط، ورأى تعدديّة المذاهب والتّوجهات، أدرك أنّ مشكلة المسلمين في صراعهم يتمثل في عدم الخلطة مع الآخر، أي بمعنى ينظرون إلى الآخر من خلال الدّائرة الضّيقة، وليس من خلال الدّائرة الواسعة.
واليوم اتّسع العالم من جهة، وأصبحنا نعيش في قرية واحدة من جهة ثانية، فجُمع العالم في مدينة واحدة، فالخلطة لم تعد محصورة بين أبناء مذهب أو دين واحد؛ بل الخلطة اليوم داخل أمّة الجنس البشريّ الواحدة، ولم يعد ذلك محصورًا بسبب سفر؛ بل أصبحت المجتمعات اليوم مفتوحة على بعضها، بسبب السّياحة العلميّة أو الترفيهيّة من جهة، وبسبب الانفتاح الاستثماريّ من جهة مقابلة، فيفد إلى الدّولة القطريّة الواحدة آلاف البشر في العام الواحد، يختلفون في أديانهم وتوجهاتهم وأفكارهم، منهم من يذهب سريعا، ومنهم من يستقر لفترة أطول لدراسة أو عمل، ومنهم من يتجنس ويستقر لاطمئنانه، لتتشكل دوائر مختلفة في المجتمع الواحد؛ لهذا لكون العالم اليوم على هذه الصّورة، لا يمكن قراءته والتّعامل معه، إلا من الدّائرة الأوسع وهي الإنسان، وهي ضرورة في قراءتنا للآخر اليوم، يلزم به نتاج فقه جديد يتلاءم مع هذه المرحلة.
لعل مومباي خصوصا تجاوزت هذه المرحلة تأريخيّا، كما تجاوزت مصر وبلاد الشّام الخلطة داخل الأديان الإبراهيمية، فاختلطوا بشكل واسع مع اليهود والمسيحيين، ومع التّيارات الإسلاميّة الأخرى كالنّصيريّة والدّروز، فلم تعد أعياد المسيحيين تشكل حساسيّة للمسلمين، ولا أعياد المسلمين تشكل حساسيّة لدى المسيحيين، يشتركون في تراب واحد، يشاركون بعضهم في أفراحهم وأتراحهم، إلا أنّك تجد هنا في مومباي خصوصًا، والهند عمومًا؛ الصّورة أكثر اتّساعًا، ما يشبه ذلك في العراق، وإن كانت قريبة من بلاد الشّام، إلا أنّ العراق أكثر تعدديّة دينيّة وعرقيّة.
الشّيء الأهم بعد النّظرة الواسعة، والتّسالم مع الآخر، كيف نسهم في رقيّ هذا الإنسان ذاته، بعيدًا عن هوّياته واختلاف أديانه وتوجهاته، من المؤسف حقًّا أن يفشل المجتمع الإنسانيّ في تحقيق العدالة الإنسانيّة بين الجميع ولو بنسبة متقاربة، ولعل هذا هو الأهم الّذي ينبغي أن يشتغل عليه المفكرون والمنظرون، فتحقيق كرامة الإنسان من حيث ماهيته هي الغاية الّتي لا ينبغي إهمالها في المجتمع الإنساني، فموارد الطّبيعة كافية لتحقق الكرامة الإنسانيّة، ولكن الأهواء السّياسيّة والأيديولوجيّة تحول دون تحقق ذلك.
ومن المؤسف أن تجد هذا الفقر في مومباي، وهي بلاد غنية بالطّبيعة، وبالقوّة البشريّة والعقليّة، ولكن ترى المجتمع هنا متماسكا، ويحاول أن يحقق كرامته بذاته، مستغلا قدراته وطاقاته، محافظًا على أمنه واستقراره، لعل القادم أجمل إذا ما أدركت البشريّة أننا أمّة واحدة، ماهيتنا واحدة، وتحقيق كرامة الجميع غاية إنسانيّة واحدة.
بدر العبري كاتب عماني مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»