المنطلق اللغوي للكتابة هو «الجمع». هناك شيء ما مُبعثر يتطلب الجمع. هذا الشيء المبعثر هو مجموع الخواطر الشريدة التي تتردَّد على الذهن في تدافع وتزاحم وتسارع، تنتظر الانتقاء ثم التنظيم وأخيرًا الترتيب في رؤية معقولة تكشف عن فكرة ناظمة. في الأصل، الكتابة هي إذًا تنظيم مجرى الخواطر والأفكار، مثلما يُنظِّم قانون المرور مسرى المركبات والمُشاة. هناك تماثلٌ بين بنية الكتابة وبنية الحاضرة، حيث تقوم علامات الوقف من نقطة وفاصلة ونقطة-فاصلة مقام قانون المرور؛ لأن الكتابة التي تُجسِّد الأفكار، تُثبِّت كذلك قوانين انتظامها وتسلسلها من كل الوجوه النحوية والأسلوبية والمنطقية، تمامًا مثلما أن النظام الحَضَري للمدينة لا يستقيم ما لم تكن الشارات هي الدليل والمرشد في تنظيم الحركة ودرء الحوادث. الكتابة هي الشارة الأساسية في تفادي حوادث المعنى. ليست علامات الوقف والعلامات اللغوية موضوعة ترفًا أو جماليًا، بل تؤدِّي بالفعل قيمة دلالية، لأن وضعها في المكان المناسب لها هو التدليل على فكرةٍ من وجه التدعيم أو التفنيد، من وجه الإثبات أو الإقناع، إلخ.
عندما باشر الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو ترجمة كتاب الفيلسوف الألماني هانس جادامير «الحَقِيقَة والمنْهَج» توقف عند عبارة أساسية من فلسفة هذا الأخير في مقالة عنوانها «قصَّة فاصلة: جادامير ومعنى الوجود». احتار فاتيمو كيف يُترجم العبارة إلى الإيطالية. العبارة الألمانية «الوُجُود الممْكِنُ فَهْمُه، هُوَ لُغَة» (1)، ترجمها فاتيمو بالصيغة التالية: «الوجود، الذي يمكن فهمه، هو لغة». إذا قمنا بإعادة ترتيب الصيغتين، فإن الذي ينطبق على اللسان العربي هو النكرة والمعرفة، من جهة «الوجود الممكن فهمه، هو لغة»، ومن جهة أخرى «الوجود الممكن فهمه، هو [الـ]ـلغة». في الحالة الأولى الوجود هو لغة، وفي الحالة الثانية اللغة هي وجود. تكشف هذه الصيغة كيف أن «فاصلة» في عبارة جادامير، عندما تُرجمت إلى اللغات الأخرى (خصوصًا الإيطالية والفرنسية) طرحت مشكلات معرفية وتأويلية، وفي اللسان العربي تطرح مشكلة التبديل بين اللغة والوجود، إذا أخذنا الوجود على أنه لغة، تُقرأ حروفه وكلماته في كتاب الطبيعة وقرطاس الكون أو إذا أخذنا اللغة على أنها وجود أو كينونة لغوية تكشف عن نمط العلاقة بين الإنسان والعالم وطريقة التعبير عن هذا العالم.
نظام الكتابة
سواء أكانت نثرًا أم نظمًا، الكتابة هي «الجمع»؛ تجمع ما تناثر من أفكار، وتُنظِّم ما تقفَّى من كلام. ولهذا الجمع مسمَّيات التنسيق والتنظيم والترتيب، كتلك الممكن الوقوف عليها لدى «كتيبة» الجيش. وكأن النظام الذي يسري في الكتيبة هو نظير التَّراص الذي يُميِّز الكتابة، يُكسبها حُلَّة جمالية في الأسلوب والتعبير، ومتانة معرفية في العرض النظري. قليلةٌ هي الكتابات التي تتراصُّ فيها الكلمات ككتائب الجيش لأداء مهمَّة نظرية ما، حيث يأتي العرض في غاية الدقَّة والإحكام، لو نُزع منه لفظ فلا يفي بالمطلوب، ولو أضيف إليه لفظ لزاد عن اللزوم. كتابات من نمط «مُقَدِّمَة ابْن خَلْدُون» و«رسَالة مَنْطِقيَّة فَلْسَفيَّة» للفيلسوف النمساوي فتغنشتاين، هي من قبيل هذا التدبير البارع في مواقع الألفاظ وسياسة الأفكار. كان للإغريق القدامى كلمة تقول فحوى هذه الهندسة المحكمة للكتابة وهي «كَايْرُوس» (Kairos). ترجمتها هي «الفرصة الملائمة»، و«الزمن المواتِ»، و«الميزان السديد»، إلخ. معناها هو استغلال الفرصة المناسبة في الزمن المناسب وفي المكان الملائم. رمزها في الأسطورة الإغريقية هو إنسان ذو جناحين يحمل على ظهره خيرات جمَّة وفُرص لا تُعوَّض، يتنقَّل بسرعة فائقة، ولا يُعرف وقت اجتيازه سوى بنوعٍ من الفراسة. عندما يُقبض من النَّاصية، فتلك هي الفرصة المواتية لانتزاع الخيرات التي يحملها والفُرَص التي يختزن عليها.
إذا كان «كايروس» هو زمن الفُرص المواتية التي ينبغي اغتنامها في حينها، هو كذلك ميزان الأمور ومقادير الأشياء. يُصدِّق ذلك قول المؤرخ الإغريقي بوليبيوس «يَحْكُم الكَايْرُوس الصَّنَائِعَ البَشَريَّة كُلَّهَا». فهو يترأس الأعمال البشرية في الخطاب (السياسة والفصاحة) والصناعة (الطب والملاحة) وغيرهما؛ لأنه يقوم على فكرة الميزان والاعتدال، بدرء الإفراط والتفريط، بنفي الزائد من القول (الثرثرة) أو التعبير غير المستوفى (الذي لا يُفهم مقصده)، بعزل الجرعات الزائدة التي فيها هلاك المريض أو الجرعات غير المستوفية بإضافتها للحصول على الاعتدال في الأخلاط. غرضه هو إذًا التوسُّط بين حالتين متفاقمتين، هو الاعتدال، وبشكل أوسع العدل والاستيفاء. ينعته الفيلسوف الإغريقي المعاصر موتسوبولوس على أنه «اختزال الأدنى في الأمثل»، أي تحقيق مكاسب جزيلة بوسائل بسيطة. يعرف البلغاء قصَّة هذا الكايروس في التعبير، فكانت الحِكَم والأمثال الشعبية التي تقول في كلام موزون ومسجوع خُلاصة ما يمكن الاسترسال في الحديث عنه ويكون زائدًا عن اللزوم. الشفهي هو عفوي مثل عفوية الكايروس ويكتفي فيه القائل بالنَّظْم والأمثال لإصابة الهدف في الصَّميم بالتأثير على الجمهور. غير أن الكتابي من طبيعة مختلفة. وإن كانت الكتابة تلتزم بهذا الميزان في التعبير حتى تكون هادفة، فهي ليست عفوية مثل الشفهي، بل تتطلَّب الجُهد في قنص الأفكار وتنظيمها في الكلمات ثم ترتيبها في النصوص والإقناع بها بالبرهنة والمحاجَّة.
ماذا نكتب؟
بما هي جمع المتناثر وتنظيم المتجمِّع، لا تطرح الكتابة فحسب الأشكال من حيث الأساليب والمسالك، بل تطرح كذلك مضامين التأليف من حيث الأفكار، وإن لم يكن بالإمكان عزل الشكل عن المحتوى، أو بنيان الكتابة عمَّا يُعمِّره من خواطر وأطر نظرية. لأن أحدهما لا يستقيم دون الآخر. فلا نظرية منتجة أو فكرة فاعلة دون أسلوب جذَّاب وقويم، ولا أسلوب مزخرف أو بنيان مُحكم دون فكرة نبيهة أو نظر حي. القائل بأن المبنى لا يهمُّ في التعبير عن المعنى، إنَّما يُخلُّ بالعلاقة بينهما التي يمكن أخذها بالقياس مع الرابطة بين الجسد والروح. بل إن جمال المبنى من حُسن المعنى، وعُمق النظر، وانسجام الرؤية. السؤال الذي يُضاف على سؤال «ماذا نكتب؟» من فصيلة الكتابة الهادفة: هل يمكن أن نكتب في كل شيء؟ منذ تقسيم العمل وتوزيع الوظائف، تخلَّت الكتابة العالمة عن الموسوعية التي كانت تُميِّز القدماء، واستقلت العلوم عن بعضها بعضًا، وأصبح التخصُّص هو السياسة المنتهجة في إنتاج المعرفة وتوزيعها. ومن ثمَّ، كل كتابة عالمة، بما في ذلك الكتابة العلمية المبنية على الملاحظة والتجريب، إنما تُلبِّي شروط العصر التقني بالكتابة في مجالٍ بعينه. بهذا المعنى، تعدَّدت الكتابات العالمة التي تشتغل في محيطها وداخل أسوارها: في الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والديمجرافيا، زيادةً على العلوم التقنية والدقيقة التي كانت أوَّل معرفة علمية فتحت باب التخصُّص على مصراعيه.
لكن هناك كتابات عالمة لا يمكنها أن تكتفي بالتخصُّص اتَّقاءً لتَذْرية الحقول المعرفية، أي تحويلها إلى ذرَّات منعزلة عن بعضها. يمكن ذكر الكتابة الأدبية والفلسفية والفنيَّة. وإن استسلمت هذه الكتابات لمنطق التخصُّص حسب العصور التاريخية أو المجالات المعرفية، إلا أن الحاجة إلى رؤية شاملة أو «هُلِسْتية» (Holism) من شأنها أن تقيم الروابط بين العصور أو المجالات لفهم الحيثيات والعلاقات ووضع الوقائع الحاسمة في سياق انبثاقها وتطوُّرها وتأثيرها. بدون هذه الروابط، لا يمكن الحصول على صورة ناصعة عن حركة الأدب أو الفلسفة أو الفن في تاريخ الإنسانية. إذا كانت العلوم التقنية والدقيقة تقوم على إجراءات في «التفسير» وهي برهانية في أسِّها وأساسها، وتبتغي نتائج يقينية، فإن العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والفنون والفلسفة تنبني على قضايا في «الفهم» وهي حجاجية في منطقها ومنطلقها، وليست لها مزاعم اليقين الذي لا جَمْجَمة فيه. إنما هي معارف قابلة للنقاش بالإثراء والأخذ والرد؛ لأنها تقوم على الرأي والحجَّة. ومن ثمَّ، فإن الكتابة في موضوعات مختلفة ليس المراد منها التحذلق والموسوعية، بل امتحان الفكرة الناظمة للمذهب في مجالات تطبيقية متنوِّعة.
كانت أوَّل فلسفة نسقية في تاريخ الفكر البشري هي المدرسة الإغريقية «الرواقية» بجعل الفلسفة تقوم على ثلاثة أعمدة رئيسة وهي المعرفة والوجود والأخلاق. والعلاقة بينها هي علاقة «مرآوية»، حيث ما ينطبق على المعرفة ينطبق كذلك على الوجود وعلى الأخلاق. لذا، كان دأب الفيلسوف أن يُشكِّل فكرة ناظمة لمذهبه وهادية لمسالك خواطره (مثلًا: المثالية، المادية، الواقعية، إلخ)، ثم يقرأ بها مختلف الحقول التطبيقية في نظرية المعرفة، ثم في نظرية الوجود، وأخيرًا في نظرية الأخلاق والسياسة. وعليه، عندما يكتب الفيلسوف في عدَّة موضوعات من مختلف الحقول المعرفية، فهو لا يتيه أو يتبعثر في المادَّة، بل يجعل الكتابة الفلسفية اسمًا على مسمَّى: «الجمع». تصبح الكتابة الفلسفية جمعًا لمختلف الخواطر والانطباعات تحت فكرة هادية تُلمُّها وتُضفي عليها المعقولية لتصير أفكارًا ذات سندٍ منهجي وحجاجي. لحدِّ اليوم، لا يزال دأب الفلاسفة الكتابة في موضوعات مختلفة وفق إطار منهجي بعينه (مثلًا: الكتابة التأويلية أو التفكيكية أو النقدية أو التداولية).
لماذا نكتب؟
قد تكون الكتابة علاجًا للكآبة. المفاعيل العلاجية للكتابة موثَّقة تاريخيًا. إنها تنفيس عن هم أو كرب؛ مداواة للكلوم بالكلام. غير أن الكتابة لا تُختزَل فقط في طب روحاني يعالج ما اختلَّ في نظام الذات أو ما اعتلَّ في نظام العالم. في نص موجز عنوانه «كتَابَات»(2)، يقول ميشال دو سارتو: «لماذا نكتب؟ لتفادي الانقراض». تُوفِّر الكتابة شيئًا من الخلود بما يتبقَّى من الأثر أو الروح المتجسِّد في النص والكتاب. ما وصل إلينا من كتابات، وما نكتشفه من مخطوطات، هو تجلٍّ من تجليَّات هذا الانقراض المؤجَّل. الكتابة هي اقتناص للحظة العابرة (لحظة الكايروس؟) في شكل فكرة نبيهة أو عبقرية نافذة، تُغلِّفها بالعبارة، وتسجنها في نسيج النص (النص في الاشتقاق اللاتيني هو «نسيج» textus) كالفريسة في حبائك العنكبوت، وتُجمِّدها في متاحف الذاكرة. بتعبير دو سارتو الكتابة هي «استراتيجية» ثابتة، تجمع المتناثر، وتُنظِّم الحروف، وتسوس المعنى، بينما الفكرة الشريدة هي «تكتيكية» فارَّة وسائلة، تجري مجرى القصديات الواثبة والوقائع المتحوِّلة. جاء احتراس أفلاطون من الكتابة في محاورة «فيدروس» من حيث أنها تُجمِّد ما هو حي، بأن تسجن الصوت في الحرف، وتأسر الفكرة في الكلمة. ومن ثمَّ فإن الفكرة الجامدة في الكلمة المدوَّنة هي على غرار التمثال، تُعبِّر عن الشيء نفسه لأنها تصلَّبت نهائيًا بفعل التدوين. هكذا تمَّ النظر إلى الكتابة على أنها الجانب المتدهور من الروح، على شاكلة العُملة الصدئة التي فقدت من رونقها وقيمتها في سوق التداول.
الكتابة هي «زائدة» مضادَّة لحيوية الكايروس، «أكثر من اللازم» أو «إضافة» على صفاء الروح أو نصاعة الفكرة؛ عُنصر غير جوهري في نظر أفلاطون، يتلقَّفه السُّفسطائي من أجل زخرف القول وزوائد الحشو والإطناب، وهو نظير الفنَّان المقلِّد للأشياء والمولِّد للتفاصيل الثانوية. تعيير أفلاطون للسُّفسطائي والفنَّان هو تشنيع للكتابة التي عندما تخطُّ شيئًا من قبيل كلمة أو صورة، إنما تحجب الفكرة وتحل محلَّها، تُغيِّبها وتُسهم في قتل ذاكرتها. هذا ما ينعته أفلاطون بـ«سُم» الكتابة. أما «ترياق» الكتابة (إذا سلَّمنا بفكرة جاك دريدا في «صيدلية أفلاطون»)، فإنه لولا الكلمة لما كانت الفكرة؛ ولولا الخط واللون لما تجلَّت الأشياء تجليًّا جماليًا. أن نغادر «أيْقُنُكْلَسْتِيَّة» أفلاطون (أي رُهابه من الكتابة والصورة والزوائد البيانية والأسلوبية)، هو ألا نرى فيها سجن الأفكار الحيَّة والحرَّة. بل إن الأفكار المسافرة، إنما تجد مستقرَّا لها في الكتابة، ولا تستغني عن الحرف الذي هو مركبها وسياحتها.
كيف نكتب؟
أخيرًا، شكل الكتابة مرهون برؤية الكاتب للحياة. يمكن للكتابة أن تكون موجزة ومستوفية، زاهدة في الصورة البيانية والزخرفة الأسلوبية، وزهيدة في الوسائل المؤدية إليها، مثل كتابة الشذرات ذات الأبعاد الأخلاقية على شاكلة الفلاسفة الرواقيين (ماركوس أورليوس، أبكتيتوس)؛ ويمكنها أن تكون مسترسلة ومسهبة، تهوى القصص الطويلة والخيالات المصاحبة لها، تتفنَّن في الأساليب البيانية وتستعملها بإسراف. إذا كانت الكتابة لها «غايتها في ذاتها»، بوصفها ترفًا نظريًا مثل الكتابات الفلسفية المعقَّدة أو الروايات الإيحائية، فإنها غالبًا ما تأتي حافلة بالصور البيانية (الأدب) وبالمفاهيم المركَّبة (الفلسفة)، وإذا كانت الكتابة لها «غايتها في غيرها»، أي لحاجة عملية أو أخلاقية، فإنها غالبًا ما تأتي زاهدة في التنميق الأسلوبي، تكتفي بالعبارات الهادفة لغايات تطبيقية، مثل الأحكام والمواعظ التي تأتي خالية من الصور والإيحاءات؛ لأن غرضها التأثير على المتلقي وحمله على الفعل. ليس المتلقِّي هنا في مقام «التأمُّل» لكي يُلبس الكلمات لباسًا بلاغيًا وجماليًا، بل هو في مقام «الفعل»، يفعل ما يُقال له من باب الواجب أو الفريضة.
كذلك، تختلف طبيعة الكتابة باختلاف الموضوعات التي تعالجها، وباختلاف الأقاليم التي تحتضنها. يُمكن الوقوف اليوم على ما يُسمَّى بالفلسفة التحليلية التي تُشكِّل عَصَب الفلسفة الأنجلوسكسونية، وهي في أكثر الأحيان كتابة منطقية، تُركز على العبارة أو الفلسفة اللغوية، وتعمد إلى ربطها بالسياق التداولي لامتحان مصداقيتها ومطابقتها للواقع. على العكس من ذلك، هناك فلسفات متعدِّدة (نقدية، تأويلية، تفكيكية) تُميّز ما بات يُعرف بالفلسفة القارية (بمعنى الفلسفة الأوروبية) وهي متجذِّرة في النقاشات الطويلة (اللاهوتية، الميتافيزيقية، المعرفية) التي ميَّزت الفلسفات المتعاقبة إلى غاية الحداثة وظهور النقد بوصفه قيمة في امتحان العقل لذاته وقُدُراته، وأخيرًا ترجمات النقد في الفلسفات اللاحقة: الفلسفة الاجتماعية (ماركس، أوغست كونت)، والفلسفة الأنطولوجية ذات الأبعاد التأويلية والهيرمينوطيقية (هايدجر، جادامير)، والفلسفة التفكيكية وفلسفات ما بعد الحداثة (دريدا، دولوز، بودريار، ليوتار). ستكون «كيفية» الكتابة هنا حبيسة الاتجاه المذهبي العام، وتأتي معقَّدة بتعقيد الموضوع وتعقيد الواقع الذي يتشكَّل فيه، مركَّبة مفهوميًا واصطلاحيًا لدراسة الموضوع من كل الزوايا الممكنة.
نخلص في الأخير إلى أن الكتابة التي تُجيب عن أسئلة «ماذا»، و«لماذا»، و«كيف»، إنما هي كتابة لها دوافع ومحفِّزات، وتسير وفق منطق داخلي يقول في العُمق علاقتها بنمط التعبير عن الموضوعات التي تعالجها: هل هي كتابة «نظرية» غارقة في التأمُّل والتجريد، ومن ثمَّ تنزع نحو نوعٍ من البلاغة والكثافة المفهومية، أم هي كتابة «عملية» ذات غايات ذرائعية، ولا تهمها العبارة المنمَّقة أو جمالية الأسلوب؟ لا يمكن الفصل بشأن الخيارات، لأنها مسألة أذواق ونوازع ذاتية. هناك الحاجة في التحسين بإلباس الكتابة ألوان مزركشة من التعبير لاستهواء القارئ وشدِّ انتباهه والحصول على انضمامه، كما هناك الحاجة في الاقتصاد، نوع من الزُّهد في الكتابة، لأن المبتغى هو الفعل بناءً على القول، وليس البقاء في لُعبة الإحالات بين الدلالات وجماليات الصياغة. وعليه، لا يمكن التخيير بين النزوعين، بل يمكن القول بأنهما يترأسان الكتابة الفلسفية منذ بداياتها التاريخية، بين الرغبة في التوسيع والإطناب لأن موضوعات العالم لا تنبري سوى في شبكة معقَّدة من الشروح والتأويلات، وبين الرغبة في الاقتصار على القليل من المبنى مع تحقيق الجزيل من المعنى، وهنا بالضبط كانت الكتابة الفلسفية تبحث عن «كايروس» العبارة: أن نقول شيئًا كثيرًا بالكلام اليسير. بين التوسيع والاختصار، تبقى الكتابة الفلسفية هي مسألة الدوافع وسؤال الأغراض.
هوامش:
1- “Sein das verstanden werden kann, ist Sprache”
2- Michel de Certeau, « Ecritures », in : Michel de Certeau, sous la direction de Luce Giard, « Cahiers pour un temps », Centre Georges Pompidou, 1987, p. 13-16.
محمد شوقي الزين كاتب وفيلسوف من الجزائر
عندما باشر الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو ترجمة كتاب الفيلسوف الألماني هانس جادامير «الحَقِيقَة والمنْهَج» توقف عند عبارة أساسية من فلسفة هذا الأخير في مقالة عنوانها «قصَّة فاصلة: جادامير ومعنى الوجود». احتار فاتيمو كيف يُترجم العبارة إلى الإيطالية. العبارة الألمانية «الوُجُود الممْكِنُ فَهْمُه، هُوَ لُغَة» (1)، ترجمها فاتيمو بالصيغة التالية: «الوجود، الذي يمكن فهمه، هو لغة». إذا قمنا بإعادة ترتيب الصيغتين، فإن الذي ينطبق على اللسان العربي هو النكرة والمعرفة، من جهة «الوجود الممكن فهمه، هو لغة»، ومن جهة أخرى «الوجود الممكن فهمه، هو [الـ]ـلغة». في الحالة الأولى الوجود هو لغة، وفي الحالة الثانية اللغة هي وجود. تكشف هذه الصيغة كيف أن «فاصلة» في عبارة جادامير، عندما تُرجمت إلى اللغات الأخرى (خصوصًا الإيطالية والفرنسية) طرحت مشكلات معرفية وتأويلية، وفي اللسان العربي تطرح مشكلة التبديل بين اللغة والوجود، إذا أخذنا الوجود على أنه لغة، تُقرأ حروفه وكلماته في كتاب الطبيعة وقرطاس الكون أو إذا أخذنا اللغة على أنها وجود أو كينونة لغوية تكشف عن نمط العلاقة بين الإنسان والعالم وطريقة التعبير عن هذا العالم.
نظام الكتابة
سواء أكانت نثرًا أم نظمًا، الكتابة هي «الجمع»؛ تجمع ما تناثر من أفكار، وتُنظِّم ما تقفَّى من كلام. ولهذا الجمع مسمَّيات التنسيق والتنظيم والترتيب، كتلك الممكن الوقوف عليها لدى «كتيبة» الجيش. وكأن النظام الذي يسري في الكتيبة هو نظير التَّراص الذي يُميِّز الكتابة، يُكسبها حُلَّة جمالية في الأسلوب والتعبير، ومتانة معرفية في العرض النظري. قليلةٌ هي الكتابات التي تتراصُّ فيها الكلمات ككتائب الجيش لأداء مهمَّة نظرية ما، حيث يأتي العرض في غاية الدقَّة والإحكام، لو نُزع منه لفظ فلا يفي بالمطلوب، ولو أضيف إليه لفظ لزاد عن اللزوم. كتابات من نمط «مُقَدِّمَة ابْن خَلْدُون» و«رسَالة مَنْطِقيَّة فَلْسَفيَّة» للفيلسوف النمساوي فتغنشتاين، هي من قبيل هذا التدبير البارع في مواقع الألفاظ وسياسة الأفكار. كان للإغريق القدامى كلمة تقول فحوى هذه الهندسة المحكمة للكتابة وهي «كَايْرُوس» (Kairos). ترجمتها هي «الفرصة الملائمة»، و«الزمن المواتِ»، و«الميزان السديد»، إلخ. معناها هو استغلال الفرصة المناسبة في الزمن المناسب وفي المكان الملائم. رمزها في الأسطورة الإغريقية هو إنسان ذو جناحين يحمل على ظهره خيرات جمَّة وفُرص لا تُعوَّض، يتنقَّل بسرعة فائقة، ولا يُعرف وقت اجتيازه سوى بنوعٍ من الفراسة. عندما يُقبض من النَّاصية، فتلك هي الفرصة المواتية لانتزاع الخيرات التي يحملها والفُرَص التي يختزن عليها.
إذا كان «كايروس» هو زمن الفُرص المواتية التي ينبغي اغتنامها في حينها، هو كذلك ميزان الأمور ومقادير الأشياء. يُصدِّق ذلك قول المؤرخ الإغريقي بوليبيوس «يَحْكُم الكَايْرُوس الصَّنَائِعَ البَشَريَّة كُلَّهَا». فهو يترأس الأعمال البشرية في الخطاب (السياسة والفصاحة) والصناعة (الطب والملاحة) وغيرهما؛ لأنه يقوم على فكرة الميزان والاعتدال، بدرء الإفراط والتفريط، بنفي الزائد من القول (الثرثرة) أو التعبير غير المستوفى (الذي لا يُفهم مقصده)، بعزل الجرعات الزائدة التي فيها هلاك المريض أو الجرعات غير المستوفية بإضافتها للحصول على الاعتدال في الأخلاط. غرضه هو إذًا التوسُّط بين حالتين متفاقمتين، هو الاعتدال، وبشكل أوسع العدل والاستيفاء. ينعته الفيلسوف الإغريقي المعاصر موتسوبولوس على أنه «اختزال الأدنى في الأمثل»، أي تحقيق مكاسب جزيلة بوسائل بسيطة. يعرف البلغاء قصَّة هذا الكايروس في التعبير، فكانت الحِكَم والأمثال الشعبية التي تقول في كلام موزون ومسجوع خُلاصة ما يمكن الاسترسال في الحديث عنه ويكون زائدًا عن اللزوم. الشفهي هو عفوي مثل عفوية الكايروس ويكتفي فيه القائل بالنَّظْم والأمثال لإصابة الهدف في الصَّميم بالتأثير على الجمهور. غير أن الكتابي من طبيعة مختلفة. وإن كانت الكتابة تلتزم بهذا الميزان في التعبير حتى تكون هادفة، فهي ليست عفوية مثل الشفهي، بل تتطلَّب الجُهد في قنص الأفكار وتنظيمها في الكلمات ثم ترتيبها في النصوص والإقناع بها بالبرهنة والمحاجَّة.
ماذا نكتب؟
بما هي جمع المتناثر وتنظيم المتجمِّع، لا تطرح الكتابة فحسب الأشكال من حيث الأساليب والمسالك، بل تطرح كذلك مضامين التأليف من حيث الأفكار، وإن لم يكن بالإمكان عزل الشكل عن المحتوى، أو بنيان الكتابة عمَّا يُعمِّره من خواطر وأطر نظرية. لأن أحدهما لا يستقيم دون الآخر. فلا نظرية منتجة أو فكرة فاعلة دون أسلوب جذَّاب وقويم، ولا أسلوب مزخرف أو بنيان مُحكم دون فكرة نبيهة أو نظر حي. القائل بأن المبنى لا يهمُّ في التعبير عن المعنى، إنَّما يُخلُّ بالعلاقة بينهما التي يمكن أخذها بالقياس مع الرابطة بين الجسد والروح. بل إن جمال المبنى من حُسن المعنى، وعُمق النظر، وانسجام الرؤية. السؤال الذي يُضاف على سؤال «ماذا نكتب؟» من فصيلة الكتابة الهادفة: هل يمكن أن نكتب في كل شيء؟ منذ تقسيم العمل وتوزيع الوظائف، تخلَّت الكتابة العالمة عن الموسوعية التي كانت تُميِّز القدماء، واستقلت العلوم عن بعضها بعضًا، وأصبح التخصُّص هو السياسة المنتهجة في إنتاج المعرفة وتوزيعها. ومن ثمَّ، كل كتابة عالمة، بما في ذلك الكتابة العلمية المبنية على الملاحظة والتجريب، إنما تُلبِّي شروط العصر التقني بالكتابة في مجالٍ بعينه. بهذا المعنى، تعدَّدت الكتابات العالمة التي تشتغل في محيطها وداخل أسوارها: في الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والديمجرافيا، زيادةً على العلوم التقنية والدقيقة التي كانت أوَّل معرفة علمية فتحت باب التخصُّص على مصراعيه.
لكن هناك كتابات عالمة لا يمكنها أن تكتفي بالتخصُّص اتَّقاءً لتَذْرية الحقول المعرفية، أي تحويلها إلى ذرَّات منعزلة عن بعضها. يمكن ذكر الكتابة الأدبية والفلسفية والفنيَّة. وإن استسلمت هذه الكتابات لمنطق التخصُّص حسب العصور التاريخية أو المجالات المعرفية، إلا أن الحاجة إلى رؤية شاملة أو «هُلِسْتية» (Holism) من شأنها أن تقيم الروابط بين العصور أو المجالات لفهم الحيثيات والعلاقات ووضع الوقائع الحاسمة في سياق انبثاقها وتطوُّرها وتأثيرها. بدون هذه الروابط، لا يمكن الحصول على صورة ناصعة عن حركة الأدب أو الفلسفة أو الفن في تاريخ الإنسانية. إذا كانت العلوم التقنية والدقيقة تقوم على إجراءات في «التفسير» وهي برهانية في أسِّها وأساسها، وتبتغي نتائج يقينية، فإن العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والفنون والفلسفة تنبني على قضايا في «الفهم» وهي حجاجية في منطقها ومنطلقها، وليست لها مزاعم اليقين الذي لا جَمْجَمة فيه. إنما هي معارف قابلة للنقاش بالإثراء والأخذ والرد؛ لأنها تقوم على الرأي والحجَّة. ومن ثمَّ، فإن الكتابة في موضوعات مختلفة ليس المراد منها التحذلق والموسوعية، بل امتحان الفكرة الناظمة للمذهب في مجالات تطبيقية متنوِّعة.
كانت أوَّل فلسفة نسقية في تاريخ الفكر البشري هي المدرسة الإغريقية «الرواقية» بجعل الفلسفة تقوم على ثلاثة أعمدة رئيسة وهي المعرفة والوجود والأخلاق. والعلاقة بينها هي علاقة «مرآوية»، حيث ما ينطبق على المعرفة ينطبق كذلك على الوجود وعلى الأخلاق. لذا، كان دأب الفيلسوف أن يُشكِّل فكرة ناظمة لمذهبه وهادية لمسالك خواطره (مثلًا: المثالية، المادية، الواقعية، إلخ)، ثم يقرأ بها مختلف الحقول التطبيقية في نظرية المعرفة، ثم في نظرية الوجود، وأخيرًا في نظرية الأخلاق والسياسة. وعليه، عندما يكتب الفيلسوف في عدَّة موضوعات من مختلف الحقول المعرفية، فهو لا يتيه أو يتبعثر في المادَّة، بل يجعل الكتابة الفلسفية اسمًا على مسمَّى: «الجمع». تصبح الكتابة الفلسفية جمعًا لمختلف الخواطر والانطباعات تحت فكرة هادية تُلمُّها وتُضفي عليها المعقولية لتصير أفكارًا ذات سندٍ منهجي وحجاجي. لحدِّ اليوم، لا يزال دأب الفلاسفة الكتابة في موضوعات مختلفة وفق إطار منهجي بعينه (مثلًا: الكتابة التأويلية أو التفكيكية أو النقدية أو التداولية).
لماذا نكتب؟
قد تكون الكتابة علاجًا للكآبة. المفاعيل العلاجية للكتابة موثَّقة تاريخيًا. إنها تنفيس عن هم أو كرب؛ مداواة للكلوم بالكلام. غير أن الكتابة لا تُختزَل فقط في طب روحاني يعالج ما اختلَّ في نظام الذات أو ما اعتلَّ في نظام العالم. في نص موجز عنوانه «كتَابَات»(2)، يقول ميشال دو سارتو: «لماذا نكتب؟ لتفادي الانقراض». تُوفِّر الكتابة شيئًا من الخلود بما يتبقَّى من الأثر أو الروح المتجسِّد في النص والكتاب. ما وصل إلينا من كتابات، وما نكتشفه من مخطوطات، هو تجلٍّ من تجليَّات هذا الانقراض المؤجَّل. الكتابة هي اقتناص للحظة العابرة (لحظة الكايروس؟) في شكل فكرة نبيهة أو عبقرية نافذة، تُغلِّفها بالعبارة، وتسجنها في نسيج النص (النص في الاشتقاق اللاتيني هو «نسيج» textus) كالفريسة في حبائك العنكبوت، وتُجمِّدها في متاحف الذاكرة. بتعبير دو سارتو الكتابة هي «استراتيجية» ثابتة، تجمع المتناثر، وتُنظِّم الحروف، وتسوس المعنى، بينما الفكرة الشريدة هي «تكتيكية» فارَّة وسائلة، تجري مجرى القصديات الواثبة والوقائع المتحوِّلة. جاء احتراس أفلاطون من الكتابة في محاورة «فيدروس» من حيث أنها تُجمِّد ما هو حي، بأن تسجن الصوت في الحرف، وتأسر الفكرة في الكلمة. ومن ثمَّ فإن الفكرة الجامدة في الكلمة المدوَّنة هي على غرار التمثال، تُعبِّر عن الشيء نفسه لأنها تصلَّبت نهائيًا بفعل التدوين. هكذا تمَّ النظر إلى الكتابة على أنها الجانب المتدهور من الروح، على شاكلة العُملة الصدئة التي فقدت من رونقها وقيمتها في سوق التداول.
الكتابة هي «زائدة» مضادَّة لحيوية الكايروس، «أكثر من اللازم» أو «إضافة» على صفاء الروح أو نصاعة الفكرة؛ عُنصر غير جوهري في نظر أفلاطون، يتلقَّفه السُّفسطائي من أجل زخرف القول وزوائد الحشو والإطناب، وهو نظير الفنَّان المقلِّد للأشياء والمولِّد للتفاصيل الثانوية. تعيير أفلاطون للسُّفسطائي والفنَّان هو تشنيع للكتابة التي عندما تخطُّ شيئًا من قبيل كلمة أو صورة، إنما تحجب الفكرة وتحل محلَّها، تُغيِّبها وتُسهم في قتل ذاكرتها. هذا ما ينعته أفلاطون بـ«سُم» الكتابة. أما «ترياق» الكتابة (إذا سلَّمنا بفكرة جاك دريدا في «صيدلية أفلاطون»)، فإنه لولا الكلمة لما كانت الفكرة؛ ولولا الخط واللون لما تجلَّت الأشياء تجليًّا جماليًا. أن نغادر «أيْقُنُكْلَسْتِيَّة» أفلاطون (أي رُهابه من الكتابة والصورة والزوائد البيانية والأسلوبية)، هو ألا نرى فيها سجن الأفكار الحيَّة والحرَّة. بل إن الأفكار المسافرة، إنما تجد مستقرَّا لها في الكتابة، ولا تستغني عن الحرف الذي هو مركبها وسياحتها.
كيف نكتب؟
أخيرًا، شكل الكتابة مرهون برؤية الكاتب للحياة. يمكن للكتابة أن تكون موجزة ومستوفية، زاهدة في الصورة البيانية والزخرفة الأسلوبية، وزهيدة في الوسائل المؤدية إليها، مثل كتابة الشذرات ذات الأبعاد الأخلاقية على شاكلة الفلاسفة الرواقيين (ماركوس أورليوس، أبكتيتوس)؛ ويمكنها أن تكون مسترسلة ومسهبة، تهوى القصص الطويلة والخيالات المصاحبة لها، تتفنَّن في الأساليب البيانية وتستعملها بإسراف. إذا كانت الكتابة لها «غايتها في ذاتها»، بوصفها ترفًا نظريًا مثل الكتابات الفلسفية المعقَّدة أو الروايات الإيحائية، فإنها غالبًا ما تأتي حافلة بالصور البيانية (الأدب) وبالمفاهيم المركَّبة (الفلسفة)، وإذا كانت الكتابة لها «غايتها في غيرها»، أي لحاجة عملية أو أخلاقية، فإنها غالبًا ما تأتي زاهدة في التنميق الأسلوبي، تكتفي بالعبارات الهادفة لغايات تطبيقية، مثل الأحكام والمواعظ التي تأتي خالية من الصور والإيحاءات؛ لأن غرضها التأثير على المتلقي وحمله على الفعل. ليس المتلقِّي هنا في مقام «التأمُّل» لكي يُلبس الكلمات لباسًا بلاغيًا وجماليًا، بل هو في مقام «الفعل»، يفعل ما يُقال له من باب الواجب أو الفريضة.
كذلك، تختلف طبيعة الكتابة باختلاف الموضوعات التي تعالجها، وباختلاف الأقاليم التي تحتضنها. يُمكن الوقوف اليوم على ما يُسمَّى بالفلسفة التحليلية التي تُشكِّل عَصَب الفلسفة الأنجلوسكسونية، وهي في أكثر الأحيان كتابة منطقية، تُركز على العبارة أو الفلسفة اللغوية، وتعمد إلى ربطها بالسياق التداولي لامتحان مصداقيتها ومطابقتها للواقع. على العكس من ذلك، هناك فلسفات متعدِّدة (نقدية، تأويلية، تفكيكية) تُميّز ما بات يُعرف بالفلسفة القارية (بمعنى الفلسفة الأوروبية) وهي متجذِّرة في النقاشات الطويلة (اللاهوتية، الميتافيزيقية، المعرفية) التي ميَّزت الفلسفات المتعاقبة إلى غاية الحداثة وظهور النقد بوصفه قيمة في امتحان العقل لذاته وقُدُراته، وأخيرًا ترجمات النقد في الفلسفات اللاحقة: الفلسفة الاجتماعية (ماركس، أوغست كونت)، والفلسفة الأنطولوجية ذات الأبعاد التأويلية والهيرمينوطيقية (هايدجر، جادامير)، والفلسفة التفكيكية وفلسفات ما بعد الحداثة (دريدا، دولوز، بودريار، ليوتار). ستكون «كيفية» الكتابة هنا حبيسة الاتجاه المذهبي العام، وتأتي معقَّدة بتعقيد الموضوع وتعقيد الواقع الذي يتشكَّل فيه، مركَّبة مفهوميًا واصطلاحيًا لدراسة الموضوع من كل الزوايا الممكنة.
نخلص في الأخير إلى أن الكتابة التي تُجيب عن أسئلة «ماذا»، و«لماذا»، و«كيف»، إنما هي كتابة لها دوافع ومحفِّزات، وتسير وفق منطق داخلي يقول في العُمق علاقتها بنمط التعبير عن الموضوعات التي تعالجها: هل هي كتابة «نظرية» غارقة في التأمُّل والتجريد، ومن ثمَّ تنزع نحو نوعٍ من البلاغة والكثافة المفهومية، أم هي كتابة «عملية» ذات غايات ذرائعية، ولا تهمها العبارة المنمَّقة أو جمالية الأسلوب؟ لا يمكن الفصل بشأن الخيارات، لأنها مسألة أذواق ونوازع ذاتية. هناك الحاجة في التحسين بإلباس الكتابة ألوان مزركشة من التعبير لاستهواء القارئ وشدِّ انتباهه والحصول على انضمامه، كما هناك الحاجة في الاقتصاد، نوع من الزُّهد في الكتابة، لأن المبتغى هو الفعل بناءً على القول، وليس البقاء في لُعبة الإحالات بين الدلالات وجماليات الصياغة. وعليه، لا يمكن التخيير بين النزوعين، بل يمكن القول بأنهما يترأسان الكتابة الفلسفية منذ بداياتها التاريخية، بين الرغبة في التوسيع والإطناب لأن موضوعات العالم لا تنبري سوى في شبكة معقَّدة من الشروح والتأويلات، وبين الرغبة في الاقتصار على القليل من المبنى مع تحقيق الجزيل من المعنى، وهنا بالضبط كانت الكتابة الفلسفية تبحث عن «كايروس» العبارة: أن نقول شيئًا كثيرًا بالكلام اليسير. بين التوسيع والاختصار، تبقى الكتابة الفلسفية هي مسألة الدوافع وسؤال الأغراض.
هوامش:
1- “Sein das verstanden werden kann, ist Sprache”
2- Michel de Certeau, « Ecritures », in : Michel de Certeau, sous la direction de Luce Giard, « Cahiers pour un temps », Centre Georges Pompidou, 1987, p. 13-16.
محمد شوقي الزين كاتب وفيلسوف من الجزائر