ضجّ الأهالي من البكاء المتواصل لأطفالهم، فما يكاد أحدهم يهدأ حتى يبدأ طفل آخر، فتراهم ينظرون تجاه المسافرين باعتذار، أو لعله طلب التضامن معهم. لعلي كنت أعابث هؤلاء الأطفال من خلال عيوني وأصابعي، فأثير اهتمامهم، فمنهم من يهدأ قليلا، ومنهم من يستمر ناظرا تجاه والديه أنّ هناك غريبا اقتحم بكائي.
ثلاث محطات انتظار في بضع كيلو مترات، لثلاث سلطات، تزداد فيها المسافة طولا في المكان والزمان؛ فالرحلة التي تستغرق من القدس إلى عمّان ساعة من الزمن، على جانبي وادي الأردن، صارت منذ هزيمة عام 1967 تستغرق ساعات؛ فمهما بكرنا في السفر، فإن نهارا أو بعضه سيضيع؛ فكيف سيتفهم الأطفال أثر صراع امتد على قرن من الزمان، وليست فقط 55 عاما، هي عمر احتلال باقي ما تبقى من فلسطين عام 1967، وهو عام مولدي، وهو ما يجعلني أتندر قائلا لأصدقائي: الاحتلال عمري!
لا أزيز رصاص هنا، لكن هنا يتجلى أثر أزيز الرصاص وانفجارات المدافع والصواريخ والطائرات؛ فما بين أزيز رصاص وآخر، نعيش هنا على حرف، كما قال أبو الطيب:
أرق على أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
هو قلق البقاء هنا، وقلق الوجود، وهو توتر دائم؛ وهو يستمر حتى في الهدوء، وها سنجد أنفسنا، في خطين متوازيين أو متقاطعين، إذ سيصعب الوصف بدقة، فماذا يعني العيش في ظل أزيز الرصاص لكاتب مثلي؟ وهل سيقودنا ذلك إلى حديث عن السردية الفلسطينية، وسردية كل واحد فينا؟
سيصعب الوصف كما يصعب العيش والكتابة ليست استثناء هنا، لكن ربما سنحسن البقاء الذكي المقاوم؛ حيث ما إن انطلقت رصاصات جنود الاحتلال في نهار مقدسي، حتى فرّ الحمام مذعورا من أسطح البيوت والشجر، كما فرّ من على أعلى المآذن والقباب في ساحة المسجد الأقصى. لقد فرّ من مكان إلى آخر لكنه عاد؛ فهل نحن ذلك الحمام؟ ثمة رمزية عميقة هنا، ربما نفرّ، لكن نبقى، فليس لنا إلا البقاء هنا.
لي الآن، كغيري، أن أتذكر أول أزيز رصاص حقيقي أصابني بالذعر، وعليّ أن أتذكر تأثيره عليّ كإنسان طفل ومراهق وشاب وخمسيني سطا الأبيض على ما تبقى من شعر رأسه. وعليّ أن أعبر عن شعوري وأفكاري بدقة، ليس فقط عما نتأثر به وما نعاني منه صوتا مزعجا وأثرا سيئا على تفاصيل عيشنا، بل كيف تصبح الكتابة والإبداع أدبا وفنا روافع لنا؛ فليس لنا إلا هذا الوطن، حتى ولو أحببنا بلادا أخرى، فلن نستقر واقعيا ووجوديا إلا بالاطمئنان هنا أولا، ذلك حتى ولو لجأنا إلى بلاد أخرى، فسنظل نحمل معنى قلقنا. وهنا تصبح الأفعال المعنوية من نص ورسم وغناء أفعالا مادية تقوينا في رحلة الحرية، بل وهذا الأهم، فإنها تكون محفزات جمالية، فلسان حالنا نحب الحياة:
وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ
وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً ’ أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ ’ أَوْضِحْ قَلِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا...
الكتابة كفعل حياة تحت أزيز الرصاص، هي التقاط النفس، استراحة من وقعت عليه الحرب فقاوم، وليس المحارب لأجل الحرب؛ ذلك سيطول شعر محمود درويش حين عبّر عن تلك الحياة، ما بين الأزيز والأزيز:
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
إنه تعبير شعري معمق عما يعيشه من يسطو عليهم الغزاة، خصوصا من كان أجدادهم الكنعانيون وهم يحترفون لا الزراعة فقط، بل وتقديس الخصوبة؛ فماذا على اللاجئين مثلا أن يفعلوا وهم يتنقلون من لجوء إلى لجوء آخر، غير تأمين قوت أبنائهم عبر حصد ثمر نبات سريع النمو، حيث لم يأمن اللاجئون الفلسطينيون مثلا في لبنان من سطو جديد من الغزاة أنفسهم مرة أخرى وهكذا.
فحين يقع شهيد، نشيعه هاتفين، زارعين للذكرى، ونقدر ما دقّ من خيط دودة القزّ، يصير مساحات رحبة، ونهدي الفضاء العام عطرا من فضائنا الخاص:
«وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ»
وليس ذلك، إلا بسبب أننا:
«نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ»!
شعر درويش هو اقتراح وجود جمالي واقعي مقاوم وأخلاقي وعملي واستراتيجي، حيث يصير الشعر فعلا تعبيرا عن هذه الحالة المعلقة، بين الأزيز والأزيز الآخر.
لربما ولدت وسط هذا الأزيز وهدير القنابل، ونتابع الحياة، فعلى مدار أعمار معظم الفلسطينيين، وهم-ونحن مضطرون لاجتراح الحياة وسط الحروب المتتابعة، وخلال ذلك لا تعكس الكتابة ما نعيشه، ولكنها وسيلة نحو جعل الحياة جميلة لأننا نحبها. وهنا نحن إزاء جماليات النشيد والأغاني عن حياة بشر عاديين، وانفعالات الرثاء، وإزاء الوعي على الممكنات بين أيدينا، نحو الخلاص المنشود، حيث يصير للكتابة والأدب والفن، معنى عظيم، تماما كعظمة التحرر، حيث يصير البقاء هو الشرط الأكثر قوة للتحرر.
الكتابة بين الشخصي الذاتي والوطني العام
ماديا، وهذه المرة على المستوى الصوتي والبصري ومستوى الشم أيضا، حيث سأعتصر الذهن باحثا عن البدايات، ولما كان يصعب البدء بكل ذلك قبل مولدي، ببضع أسابيع، حيث كانت أمي تحمل بي باحثا عن مأوى تلجأ له في كهوف جبال القرية، ثم لتلدني أمي في صيف 1967، ذلك الصيف الحار، فما أن يخطو الطفل ويتعلم الكلام، لا القراءة ولا الكتابة، حتى يصبح وجوده دوما مجال تذكير بتلك الحرب، والتي لم أكن أعرف عنها شيئا. وعام إثر عام، سأسمع تلك الروايات الشفوية، عن جيوش وطائرات، وبنادق، غبطت نفسي أنني كنت في «بطن أمي»، لكن بالنسبة لقروي لا تجري في قريته إلا أحداث بسيطة، فإن ثمة شوقا تسلل إليّ يوما، جعلني أعيد الأسئلة وأجددها وأغيرها، طالبا تفاصيل كثيرة ليبني الطفل الذي كنته خيالاته.
حين كان يمر جنود الاحتلال من قريتنا كنت ابن 4 سنوات، وأمكنني مشاهدة الجيش الغريب اللكنة، أما عيني فراحت تستجلي «البواريد»، جمع بارودة، أي بندقية؛ فهمست لنفسي هذه «الحديدة» هي التي تطلق الرصاص بصوت عال. لكن لم يطلق الجنود «المنتصرون» رصاصهم، وهكذا بقيت في تشوق لهذا «الأزيز»، الذي لم أسمعه إلا من رسوم الكرتون من تلفزيون دار خالي فخري إسماعيل، الذي اغترب إلى أمريكا بعد نكبة عام 1948، ليعود قبل هزيمة عام 1967، وليقتني «تلفزيونا» يشغله من خلال «ماتور»، صار كالسينما في قريتنا الصغيرة، أعرف فيما بعد أن خالي فخري كان أحد قادة المناضلين في القدس برفقة المناضل عبد القادر الحسيني، ما جعل كل هذا مدار حديث بيننا في سنواته الأخيرة، حيث رفض أن يدلنا على مكان سلاحه حتى بعد مرور 30 عاما على حرب عام 1967 لأنه لم يسلمه لجنود الاحتلال.
كانت المرة الأولى لسماع صوت الرصاص صدفة للقروي الصغير، وهو متجه لكروم العنب شرق القرية، فقد كان جنود الاحتلال يتدربون على إطلاق الرصاص في معسكر أردني شمال القرية تم احتلاله. خفت فركضت باتجاه والدي الذي كان يرعى شجر العنب. طمأنينة سرت إلى قلبي فلم أشأ أن أعلمه، لربما قدرت أن كذلك يسمع الرصاص.
ذلك هو أزيز الرصاص، لكن يبدو أن الحرب لم تنته بعد؛ فالجنود يتدربون، كذلك فقد تمت اعتقالات مبكرة طالت بضع شباب من القرية، حيث كانوا هم أيضا يتدربون، لكن بالسرّ.
خيمّ مضمون أزيز الرصاص، على أذهان جيلنا، فصرنا نعيش الحرب التي يبدو أنها لن تنتهي، إلا بزوال الغرباء، فصار مشروع شعبنا، بمن فيه الأطفال هو عمل أي شيء للتخلص منهم، ولو حتى مشار كبار السن «بالدعاء عليهم» عقب الصلوات.
القرية غير المدينة، لربما سمعنا بعض أصوات الرصاص المتفرق، لكن مع توسع المظاهرات لتصل إلى القرى، صرنا نشاهد ونسمع هذا كله، إذن ذلك هو «أزيز الرصاص»، الذي يقتل الشباب ويصيبهم، كما كان من زمن سمعنا عنه، وصرنا نقرأ عنه.
سطو أزيز الرصاص على الكلمات: غسان كنفاني والقائمة تطول
في المدرسة، لم نكن ندرس بعد هزيمة عام 1967 أي شيء يتعلق بفلسطين، حيث محت سلطات الاحتلال كل ما هو وطني. وفي يوم من أوائل الثمانينيات وقع في يدي أحد كتب غسان كنفاني، لعله «عائد إلى حيفا»، وعرفت وقتها أنه شهيد، قتلته وحدة استخبارية بتفخيخ سيارته، في بيروت 8 تموز سنة 1972، كنت وقتها ابن 5 سنوات.
بالرغم من تأثري المتأخر بمقتل كنفاني وابنة أخته الطفلة لميس، إلا أنني صرت واعيا منذ طفولتي على دور الكلمة الحرة والمقاومة للاحتلال. وسأعرف لاحقا حتى استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة كوكبة من شهداء الكلمة: وائل زعيتر قتل في روما بعد أشهر من اغتيال كنفاني، ثم بعد عام تم اغتيال: كمال عدوان، كمال ناصر، محمد يوسف النجار. ثم محاولة اغتيال الصحفي بسام أبو شريف، وكذلك محاولة اغتيال المفكر الفلسطيني أنيس صايغ مدير مركز الدراسات الفلسطينية، والتي أحدثت تشوّها في وجهه وجسده أيضاً.
القراءة، تعني الكتابة أيضا..
هنا، مع بداية قراءتي ما تيسّر من تاريخ، وسماعي الروايات الشفوية لما كان، ومشاهدتي على ما يكون، وجدت نفسي أخط أولى الكلمات التي ليس لها علاقة بكتب المدرسة.
ماذا يعني أن تكون كاتبا يعيش تحت الاحتلال؟
ربما هو بيت القصيد هنا وفي الملف الذي يديره الكاتب عاصم الشيدي، وهو يشكل مضمون عيشنا وأفعالنا وأقوالنا (فكرنا)؛ فنحن شعب عادي يريد أن يمارس العيش، وفي الوقت نفسه فإن هذا العيش مستلب أو مهدد بالاستلاب زمانا ومكانا.
هنا، باختصار، في ظل رحلة الوعي، سنجد أن الكتابة هنا هي لأجل التعبير عن كل هذا، أي كونها فعل تحرر، وبقاء، خلال ذلك فإنها تقوينا جميعا من خلال وعيها الجمالي المعبر لا عن توقنا للحرية، بل وتمسكنا بالحياة الإنسانية، حين نغني للأرض والشجر والحب والأطفال والجمال.
وعليه، سأستطيع أن أزعم أن مجمل كتاباتي على مدار 3 عقود، ما هي غير تعبير عما أعيشه وأنشده من خلاص جمعي وفردي معي، من جهة، يحتفي بكل ما يتعلق بفلسطين والعروبة في مجالات اهتمام قلمي، خاصة في النقد الأدبي والفني، ففلسطين التي تعاني من الاحتلال-وأزيز الرصاص حاضرة لأنها فلسطين أولا، ولأن هذا الفعل الأدبي منها وإليها، رواية ومسرحا وشعرا وفنونا تشكيلية.
صحيح أن كتاباتنا الأولى كانت انفعالات جمالية ذاتية تجاه الحب والوطن، لكن مع تطور الكتابة، تبلور شكل الكتابة ومضمونها، وظل الوطن فيها ومنها ولها.
الكتابة في ظل أزيز الرصاص، تعني الوجود كأسمى ما يكون وأكثر نبلا مما يكون، فكم كتبنا وحررنا مواد للصحف والمجلات ونحن في ظل القصف، والاجتياحات، حيث لم يسلم يوم زواجي من اقتحام البلدة، فكيف لا يتجلى كل هذا وأكثر في الكتابة؟
في ظل اختصاصي بالنقد الأدبي والفني والثقافة، فقد وجدت أن دور القلم سيكون ناقصا إذا لم نواكب آلام شعبنا في الانتفاضة الثانية كمحرر وكاتب معا، فصارت موادي عن الأدب والشهداء والجرحى والمعتقلين.
ثم رحت أكتب عن جدار الفصل العنصري، ومع وجود الفنانين المناهضين للجدار، رحت أواكب ذلك، فكانت ثمرة ذلك كتابي «فنون جميلة وجدار قبيح». ومع صعوبة التنقل ووصول القدس، كان كتابي «القدس تجوال العين والروح».
هديل الحمام هل يبقى؟
لم تكن جوليا بطرس تغني يا حمام القدس حين لجأت رفوف الحمام إلى سماء المدينة...
كان لجوؤها إلى السماء من الأرض سريعا مذعورا..
رفوف من الحمام الخائف المذعور رسمت صورة لسماء القدس، فلم يكن أمام الحمام أمام زخات رصاص جنود الاحتلال إلا الذعر والطيران بعيدا عن صوت البارود.
أزيز الرصاص يسطو على هديل الحمام!
بعد قليل طافت طوافة حديدية تبحث عن فتية رموا الغرباء، هدير طائرة مروحية أفسد عليّ هذا الصباح الجميل.
كنت ألجأ إلى القدس دائما حين يتكدر خاطري، كنت أحتمي بها أهبط إلى البلدة القديمة إلى برودة السوق وماء الوضوء إلى قبة الصخرة إلى المغارة، هنا أخلد للعبادة وقراءة القرآن، هنا أحس أنني أقترب من الله أكثر، هناك كنت أطيل الدعاء والرجاء فيهرب كدر الخاطر وأعود ممتلئا اطمئنانا وسلاما. لم يعد المكان سالما لا من اقتحامات المستوطنين ولا من أزيز الرصاص، فكيف سنحيا حياة روحية كاملة بما يليق وقدسية المكان!
هي بقاء وجودي ..الكتابة، ومقاومة إبداعية، أو إبداع المقاومة؛ هنا يصبح لما نتحدث عنه معنى؛ فالخلاص الجمعي وحده الضامن للخلاص الفردي، وهو لا يشكل شهادتي هنا، بل يشكل تجليات حياتنا ككتاب ومواطنين من فلسطين المحتلة.
تحسين يقين كاتب من فلسطين
ثلاث محطات انتظار في بضع كيلو مترات، لثلاث سلطات، تزداد فيها المسافة طولا في المكان والزمان؛ فالرحلة التي تستغرق من القدس إلى عمّان ساعة من الزمن، على جانبي وادي الأردن، صارت منذ هزيمة عام 1967 تستغرق ساعات؛ فمهما بكرنا في السفر، فإن نهارا أو بعضه سيضيع؛ فكيف سيتفهم الأطفال أثر صراع امتد على قرن من الزمان، وليست فقط 55 عاما، هي عمر احتلال باقي ما تبقى من فلسطين عام 1967، وهو عام مولدي، وهو ما يجعلني أتندر قائلا لأصدقائي: الاحتلال عمري!
لا أزيز رصاص هنا، لكن هنا يتجلى أثر أزيز الرصاص وانفجارات المدافع والصواريخ والطائرات؛ فما بين أزيز رصاص وآخر، نعيش هنا على حرف، كما قال أبو الطيب:
أرق على أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
هو قلق البقاء هنا، وقلق الوجود، وهو توتر دائم؛ وهو يستمر حتى في الهدوء، وها سنجد أنفسنا، في خطين متوازيين أو متقاطعين، إذ سيصعب الوصف بدقة، فماذا يعني العيش في ظل أزيز الرصاص لكاتب مثلي؟ وهل سيقودنا ذلك إلى حديث عن السردية الفلسطينية، وسردية كل واحد فينا؟
سيصعب الوصف كما يصعب العيش والكتابة ليست استثناء هنا، لكن ربما سنحسن البقاء الذكي المقاوم؛ حيث ما إن انطلقت رصاصات جنود الاحتلال في نهار مقدسي، حتى فرّ الحمام مذعورا من أسطح البيوت والشجر، كما فرّ من على أعلى المآذن والقباب في ساحة المسجد الأقصى. لقد فرّ من مكان إلى آخر لكنه عاد؛ فهل نحن ذلك الحمام؟ ثمة رمزية عميقة هنا، ربما نفرّ، لكن نبقى، فليس لنا إلا البقاء هنا.
لي الآن، كغيري، أن أتذكر أول أزيز رصاص حقيقي أصابني بالذعر، وعليّ أن أتذكر تأثيره عليّ كإنسان طفل ومراهق وشاب وخمسيني سطا الأبيض على ما تبقى من شعر رأسه. وعليّ أن أعبر عن شعوري وأفكاري بدقة، ليس فقط عما نتأثر به وما نعاني منه صوتا مزعجا وأثرا سيئا على تفاصيل عيشنا، بل كيف تصبح الكتابة والإبداع أدبا وفنا روافع لنا؛ فليس لنا إلا هذا الوطن، حتى ولو أحببنا بلادا أخرى، فلن نستقر واقعيا ووجوديا إلا بالاطمئنان هنا أولا، ذلك حتى ولو لجأنا إلى بلاد أخرى، فسنظل نحمل معنى قلقنا. وهنا تصبح الأفعال المعنوية من نص ورسم وغناء أفعالا مادية تقوينا في رحلة الحرية، بل وهذا الأهم، فإنها تكون محفزات جمالية، فلسان حالنا نحب الحياة:
وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ
وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً ’ أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ ’ أَوْضِحْ قَلِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا...
الكتابة كفعل حياة تحت أزيز الرصاص، هي التقاط النفس، استراحة من وقعت عليه الحرب فقاوم، وليس المحارب لأجل الحرب؛ ذلك سيطول شعر محمود درويش حين عبّر عن تلك الحياة، ما بين الأزيز والأزيز:
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
إنه تعبير شعري معمق عما يعيشه من يسطو عليهم الغزاة، خصوصا من كان أجدادهم الكنعانيون وهم يحترفون لا الزراعة فقط، بل وتقديس الخصوبة؛ فماذا على اللاجئين مثلا أن يفعلوا وهم يتنقلون من لجوء إلى لجوء آخر، غير تأمين قوت أبنائهم عبر حصد ثمر نبات سريع النمو، حيث لم يأمن اللاجئون الفلسطينيون مثلا في لبنان من سطو جديد من الغزاة أنفسهم مرة أخرى وهكذا.
فحين يقع شهيد، نشيعه هاتفين، زارعين للذكرى، ونقدر ما دقّ من خيط دودة القزّ، يصير مساحات رحبة، ونهدي الفضاء العام عطرا من فضائنا الخاص:
«وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ»
وليس ذلك، إلا بسبب أننا:
«نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ»!
شعر درويش هو اقتراح وجود جمالي واقعي مقاوم وأخلاقي وعملي واستراتيجي، حيث يصير الشعر فعلا تعبيرا عن هذه الحالة المعلقة، بين الأزيز والأزيز الآخر.
لربما ولدت وسط هذا الأزيز وهدير القنابل، ونتابع الحياة، فعلى مدار أعمار معظم الفلسطينيين، وهم-ونحن مضطرون لاجتراح الحياة وسط الحروب المتتابعة، وخلال ذلك لا تعكس الكتابة ما نعيشه، ولكنها وسيلة نحو جعل الحياة جميلة لأننا نحبها. وهنا نحن إزاء جماليات النشيد والأغاني عن حياة بشر عاديين، وانفعالات الرثاء، وإزاء الوعي على الممكنات بين أيدينا، نحو الخلاص المنشود، حيث يصير للكتابة والأدب والفن، معنى عظيم، تماما كعظمة التحرر، حيث يصير البقاء هو الشرط الأكثر قوة للتحرر.
الكتابة بين الشخصي الذاتي والوطني العام
ماديا، وهذه المرة على المستوى الصوتي والبصري ومستوى الشم أيضا، حيث سأعتصر الذهن باحثا عن البدايات، ولما كان يصعب البدء بكل ذلك قبل مولدي، ببضع أسابيع، حيث كانت أمي تحمل بي باحثا عن مأوى تلجأ له في كهوف جبال القرية، ثم لتلدني أمي في صيف 1967، ذلك الصيف الحار، فما أن يخطو الطفل ويتعلم الكلام، لا القراءة ولا الكتابة، حتى يصبح وجوده دوما مجال تذكير بتلك الحرب، والتي لم أكن أعرف عنها شيئا. وعام إثر عام، سأسمع تلك الروايات الشفوية، عن جيوش وطائرات، وبنادق، غبطت نفسي أنني كنت في «بطن أمي»، لكن بالنسبة لقروي لا تجري في قريته إلا أحداث بسيطة، فإن ثمة شوقا تسلل إليّ يوما، جعلني أعيد الأسئلة وأجددها وأغيرها، طالبا تفاصيل كثيرة ليبني الطفل الذي كنته خيالاته.
حين كان يمر جنود الاحتلال من قريتنا كنت ابن 4 سنوات، وأمكنني مشاهدة الجيش الغريب اللكنة، أما عيني فراحت تستجلي «البواريد»، جمع بارودة، أي بندقية؛ فهمست لنفسي هذه «الحديدة» هي التي تطلق الرصاص بصوت عال. لكن لم يطلق الجنود «المنتصرون» رصاصهم، وهكذا بقيت في تشوق لهذا «الأزيز»، الذي لم أسمعه إلا من رسوم الكرتون من تلفزيون دار خالي فخري إسماعيل، الذي اغترب إلى أمريكا بعد نكبة عام 1948، ليعود قبل هزيمة عام 1967، وليقتني «تلفزيونا» يشغله من خلال «ماتور»، صار كالسينما في قريتنا الصغيرة، أعرف فيما بعد أن خالي فخري كان أحد قادة المناضلين في القدس برفقة المناضل عبد القادر الحسيني، ما جعل كل هذا مدار حديث بيننا في سنواته الأخيرة، حيث رفض أن يدلنا على مكان سلاحه حتى بعد مرور 30 عاما على حرب عام 1967 لأنه لم يسلمه لجنود الاحتلال.
كانت المرة الأولى لسماع صوت الرصاص صدفة للقروي الصغير، وهو متجه لكروم العنب شرق القرية، فقد كان جنود الاحتلال يتدربون على إطلاق الرصاص في معسكر أردني شمال القرية تم احتلاله. خفت فركضت باتجاه والدي الذي كان يرعى شجر العنب. طمأنينة سرت إلى قلبي فلم أشأ أن أعلمه، لربما قدرت أن كذلك يسمع الرصاص.
ذلك هو أزيز الرصاص، لكن يبدو أن الحرب لم تنته بعد؛ فالجنود يتدربون، كذلك فقد تمت اعتقالات مبكرة طالت بضع شباب من القرية، حيث كانوا هم أيضا يتدربون، لكن بالسرّ.
خيمّ مضمون أزيز الرصاص، على أذهان جيلنا، فصرنا نعيش الحرب التي يبدو أنها لن تنتهي، إلا بزوال الغرباء، فصار مشروع شعبنا، بمن فيه الأطفال هو عمل أي شيء للتخلص منهم، ولو حتى مشار كبار السن «بالدعاء عليهم» عقب الصلوات.
القرية غير المدينة، لربما سمعنا بعض أصوات الرصاص المتفرق، لكن مع توسع المظاهرات لتصل إلى القرى، صرنا نشاهد ونسمع هذا كله، إذن ذلك هو «أزيز الرصاص»، الذي يقتل الشباب ويصيبهم، كما كان من زمن سمعنا عنه، وصرنا نقرأ عنه.
سطو أزيز الرصاص على الكلمات: غسان كنفاني والقائمة تطول
في المدرسة، لم نكن ندرس بعد هزيمة عام 1967 أي شيء يتعلق بفلسطين، حيث محت سلطات الاحتلال كل ما هو وطني. وفي يوم من أوائل الثمانينيات وقع في يدي أحد كتب غسان كنفاني، لعله «عائد إلى حيفا»، وعرفت وقتها أنه شهيد، قتلته وحدة استخبارية بتفخيخ سيارته، في بيروت 8 تموز سنة 1972، كنت وقتها ابن 5 سنوات.
بالرغم من تأثري المتأخر بمقتل كنفاني وابنة أخته الطفلة لميس، إلا أنني صرت واعيا منذ طفولتي على دور الكلمة الحرة والمقاومة للاحتلال. وسأعرف لاحقا حتى استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة كوكبة من شهداء الكلمة: وائل زعيتر قتل في روما بعد أشهر من اغتيال كنفاني، ثم بعد عام تم اغتيال: كمال عدوان، كمال ناصر، محمد يوسف النجار. ثم محاولة اغتيال الصحفي بسام أبو شريف، وكذلك محاولة اغتيال المفكر الفلسطيني أنيس صايغ مدير مركز الدراسات الفلسطينية، والتي أحدثت تشوّها في وجهه وجسده أيضاً.
القراءة، تعني الكتابة أيضا..
هنا، مع بداية قراءتي ما تيسّر من تاريخ، وسماعي الروايات الشفوية لما كان، ومشاهدتي على ما يكون، وجدت نفسي أخط أولى الكلمات التي ليس لها علاقة بكتب المدرسة.
ماذا يعني أن تكون كاتبا يعيش تحت الاحتلال؟
ربما هو بيت القصيد هنا وفي الملف الذي يديره الكاتب عاصم الشيدي، وهو يشكل مضمون عيشنا وأفعالنا وأقوالنا (فكرنا)؛ فنحن شعب عادي يريد أن يمارس العيش، وفي الوقت نفسه فإن هذا العيش مستلب أو مهدد بالاستلاب زمانا ومكانا.
هنا، باختصار، في ظل رحلة الوعي، سنجد أن الكتابة هنا هي لأجل التعبير عن كل هذا، أي كونها فعل تحرر، وبقاء، خلال ذلك فإنها تقوينا جميعا من خلال وعيها الجمالي المعبر لا عن توقنا للحرية، بل وتمسكنا بالحياة الإنسانية، حين نغني للأرض والشجر والحب والأطفال والجمال.
وعليه، سأستطيع أن أزعم أن مجمل كتاباتي على مدار 3 عقود، ما هي غير تعبير عما أعيشه وأنشده من خلاص جمعي وفردي معي، من جهة، يحتفي بكل ما يتعلق بفلسطين والعروبة في مجالات اهتمام قلمي، خاصة في النقد الأدبي والفني، ففلسطين التي تعاني من الاحتلال-وأزيز الرصاص حاضرة لأنها فلسطين أولا، ولأن هذا الفعل الأدبي منها وإليها، رواية ومسرحا وشعرا وفنونا تشكيلية.
صحيح أن كتاباتنا الأولى كانت انفعالات جمالية ذاتية تجاه الحب والوطن، لكن مع تطور الكتابة، تبلور شكل الكتابة ومضمونها، وظل الوطن فيها ومنها ولها.
الكتابة في ظل أزيز الرصاص، تعني الوجود كأسمى ما يكون وأكثر نبلا مما يكون، فكم كتبنا وحررنا مواد للصحف والمجلات ونحن في ظل القصف، والاجتياحات، حيث لم يسلم يوم زواجي من اقتحام البلدة، فكيف لا يتجلى كل هذا وأكثر في الكتابة؟
في ظل اختصاصي بالنقد الأدبي والفني والثقافة، فقد وجدت أن دور القلم سيكون ناقصا إذا لم نواكب آلام شعبنا في الانتفاضة الثانية كمحرر وكاتب معا، فصارت موادي عن الأدب والشهداء والجرحى والمعتقلين.
ثم رحت أكتب عن جدار الفصل العنصري، ومع وجود الفنانين المناهضين للجدار، رحت أواكب ذلك، فكانت ثمرة ذلك كتابي «فنون جميلة وجدار قبيح». ومع صعوبة التنقل ووصول القدس، كان كتابي «القدس تجوال العين والروح».
هديل الحمام هل يبقى؟
لم تكن جوليا بطرس تغني يا حمام القدس حين لجأت رفوف الحمام إلى سماء المدينة...
كان لجوؤها إلى السماء من الأرض سريعا مذعورا..
رفوف من الحمام الخائف المذعور رسمت صورة لسماء القدس، فلم يكن أمام الحمام أمام زخات رصاص جنود الاحتلال إلا الذعر والطيران بعيدا عن صوت البارود.
أزيز الرصاص يسطو على هديل الحمام!
بعد قليل طافت طوافة حديدية تبحث عن فتية رموا الغرباء، هدير طائرة مروحية أفسد عليّ هذا الصباح الجميل.
كنت ألجأ إلى القدس دائما حين يتكدر خاطري، كنت أحتمي بها أهبط إلى البلدة القديمة إلى برودة السوق وماء الوضوء إلى قبة الصخرة إلى المغارة، هنا أخلد للعبادة وقراءة القرآن، هنا أحس أنني أقترب من الله أكثر، هناك كنت أطيل الدعاء والرجاء فيهرب كدر الخاطر وأعود ممتلئا اطمئنانا وسلاما. لم يعد المكان سالما لا من اقتحامات المستوطنين ولا من أزيز الرصاص، فكيف سنحيا حياة روحية كاملة بما يليق وقدسية المكان!
هي بقاء وجودي ..الكتابة، ومقاومة إبداعية، أو إبداع المقاومة؛ هنا يصبح لما نتحدث عنه معنى؛ فالخلاص الجمعي وحده الضامن للخلاص الفردي، وهو لا يشكل شهادتي هنا، بل يشكل تجليات حياتنا ككتاب ومواطنين من فلسطين المحتلة.
تحسين يقين كاتب من فلسطين