خلال فعاليات مؤتمر تكوين الثالث الذي عقد في الكويت قبل أسابيع قليلة بعنوان «تساؤلات الهوية»، تحدثت السفيرة البريطانية لدى دولة الكويت بليندا لويس حول مؤشرات القراءة موضحة أن عدد الكتب التي بيعت في بريطانيا خلال عام أزمة الكوفيد 2020 بلغت 200 مليون كتاب، وهي مبيعات تعيد للذاكرة حجم مبيعات الكتب خلال العام الذي شهد ظهور الكتاب الإلكتروني في 1993، بينما بلغت مبيعات الكتب في عام2021 وفقا لها أيضا، نحو 212 مليون كتاب، وهي تعد ذلك تراجعًا نسبيًا في عدد الكتب المباعة.

وقبل عدة أسابيع أيضًا أعلنت دار نشر جاليمار الفرنسية عن طرح رواية جديدة لم تنشر من قبل، رواية غير منشورة للكاتب لوي فردينان سيلين بعنوان «حرب»، بعدما بقيت مخطوطات هذه القصة التي تتناول الحرب العالمية الأولى مفقودة عشرات السنوات. وأعلنت دار النشر نفاد الطبعة الأولى البالغ حجمها مائة ألف نسخة في الأسبوع الأول من طرحها في السوق.

وهي شواهد، بقدر قسوتها على قلوب الكتاب العرب الذين تطبع كتبهم في طبعات لا تتجاوز أي منها 2000 نسخة وتحتاج إلى شهور طويلة وسنوات أحيانا لكي توزع، لكنها تؤكد كيف أن الكتاب الإلكتروني رغم شعبيته الواسعة حاليا، لم يتمكن من تهديد عرش الكتاب الورقي، وهو أمر لافت، خصوصا حين نتتبع إحصاءات أمريكية، بوصفها السوق الأوسع لبيع الكتب، والتي تمتلك أكبر منصات بيع الكتب في العالم مثل أمازون، وغيرها.

الكتاب الورقي وحش لا يهزم!

فوفقًا لمسح أجراه «مركز بيو للأبحاث» في الولايات المتحدة الأمريكية، حول استهلاك الكتب بدا جليًا أن الطباعة والنشر التقليديين لا يزالا من بين أكثر أشكال القراءة شيوعًا لكل من البالغين والأطفال. وتضمن المسح الإحصاءات التالية: أولها أن نسبة البالغين في الولايات المتحدة الذين قرؤوا كتابًا بصيغة ما خلال العام الماضي قد بلغت 72 %، بينما قال 65٪ من أفراد العينة أنهم قرأوا كتابًا خلال الاثني عشر شهرًا الماضية. وأكد 37٪ من الأمريكيين أنهم يقرؤون الكتب المطبوعة فقط. أما من قالوا إنهم يقرؤون الكتب الورقية والإلكترونية معا فبلغت نسبتهم 28%. وأخيرًا، فإن نسبة من أقروا بأنهم يقرؤون الكتب الإلكترونية فقط لم تتجاوز 7%. وهذه الإحصائية كاشفة جدًا لمدى شعبية الكتاب الورقي رغم المنافسة الشديدة من الوسائط الجديدة.

كما أن هذه المؤشرات، لها دلالات مهمة؛ منها أنها تصدر في معقل إنتاج الكتاب الإلكتروني، الذي شاع في عالمنا العربي أنه سيقضي على الكتاب الورقي، وتبين أن هذه الطريقة الثنائية في التفكير هي مجرد متلازمة عربية ترى الأشياء من منظور ثنائي هو الأبيض والأسود، بينما الغرب استخدم الوسائط الحديثة والتقليدية معًا لدفع قاطرة القراءة والمعرفة.

الأمر الثاني أن هذه الإحصاءات كاشفة لأن الكتاب الورقي وفق تقرير أمريكي نشر هذه الإحصاءات «أقرب ما يكون للوحش في أفلام الرعب الأمريكية، ككائن خارق لا يمكن القضاء عليه!».

الكتاب الورقي والعاطفة

ولا يتعلق الأمر هنا بمزايا الكتاب الورقي، بالعكس فهناك إيجابيات عديدة للكتاب الإلكتروني، مثل سهولة التخزين والقراءة في أي مكان وأي وقت، والتنقل بين أكثر من كتاب بسهولة، وغير ذلك. لكن الأمر يتعلق بتفضيل عاطفي، يمكن أن نرى دلائله مثلا في حسابات المستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي الذين تتخصص حساباتهم في استعراض قراءاتهم من الكتب وقراءاتهم اليومية، فأغلبهم يستخدمون في الصور المصاحبة أغلفة للكتب الورقية، أو صورهم وهم يحملون تلك الكتب، وبعضهم يصورون الكتاب الورقي في «كادرات» فنية تؤكد اللمسة العاطفية التي يمنحها الكتاب الورقي ولا تتوفر عادة مع الكتاب الإلكتروني.

ولو تتبعنا تاريخ ابتكار الكتاب الإلكتروني، الذي يمتد الآن لما يناهز قرن من الزمان، حيث تشير التقارير المهتمة أنها بدأت منذ عام 1930، لتبينا أنها ليست وليدة عصر التكنولوجيا الرقمية بل لها إرهاصات قديمة، ومع ذلك فإنها بعد أن تحققت بكامل مواصفاتها التقنية، لم تتمكن من إزاحة الكتاب الورقي، ويبدو أن هذا موضوع آخر يتعلق بالاختلاف الكبير في «عملية القراءة» أو فعل القراءة نفسه في الوسيطين.

وبينما يعرف الكثيرون أن الكتاب الورقي وصل الولايات المتحدة الأمريكية في الثلاثينيات، إلا أن القليل منهم فقط من يعلم أن مفهوم الكتب الإلكترونية نشأ في الوقت نفسه تقريبا. فوفقًا لعدة مصادر نشرتها ويكيبيديا أيضًا تشير إلى أن فكرة القارئ الإلكتروني قد طرأت على الكاتب والمنتج بوب براون بعد مشاهدة أول «فيلم ناطق» في عام 1930، وقد كتب كتابًا كاملاً عن هذا الاختراع بعنوان «The Readie».

ووفقًا لتقرير نشرته نيويورك تايمز كتب براون: «الكلمة المكتوبة لم تواكب العصر. لقد تفوقت عليه الأفلام. لدينا أجهزة الاتصال، ولكن لا يوجد استعدادات لاستخدامها حتى الآن»، وأوضح مبررات الاحتياج لتلك الأجهزة قائلًا: «لمواصلة القراءة بسرعة اليوم، يجب أن يكون لدي آلة». ووصف قارئه الإلكتروني المستقبلي المثالي بأنه: «آلة قراءة بسيطة يمكنني حملها أو تحريكها وإرفاقها بأي قابس كهربائي قديم للضوء، وقراءة روايات من مئات الآلاف من الكلمات في عشر دقائق إذا أردت، وهذا ما أرغب فيه، علاوة على ذلك، فإن هذا الجهاز يسمح للقراء بتعديل حجم الكتابة وتجنب قطع الورق».

هذا الحلم الإلكتروني لبراون سوف يستغرق نحو 40 عامًا ليغدو حقيقة، فابتداءً من عام 1971 أطلق «مايكل هارت» مشروعه الذي اشتهر باسم «مشروع جوتنبرج»، وقام برقمنة إعلان استقلال الولايات المتحدة، ليصبح أول كتاب إلكتروني في العالم.

(لوضع التاريخ في سياقه، كان عام 1971 هو العام الذي تم فيه إرسال أول رسالة بريد إلكتروني - بين جهازي كمبيوتر مركزي!) في عام 1985، تأسست شركة Voyager، وهي شركة رائدة في مجال الأقراص المدمجة، ونشرت «كتبًا موسعة» على CD-ROM بما في ذلك كتاب «الحديقة الصخرية» Jurassic Park لمايكل كريشتون، الذي تحول لفيلم ضخم الإنتاج أخرجه ستيفن سبيلبيرج لاحقًا. ثم، وفي عام 1993، قدمت شركة Digital Book، أول 50 كتابًا رقميًا على قرص مرن. وهذا هو تاريخ بدء انتشار الكتاب الإلكتروني في العالم.

وبعد نحو ما يناهز 20 عامًا من بدء انتشار الكتاب الإلكتروني، لا يبدو أن مستقبل الكتاب الورقي في خطر، كما سبق الإشارة. ولكن لماذا؟

تشتت وصعوبات قراءة

يلاحظ بشكل عام اليوم، حتى على مستوى الملاحظة الشخصية، أنه مع زيادة استخدام التقنية الرقمية، سواء كان الشبكة المعلوماتية «الإنترنت»، أو متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، باتت الشكوى من ضعف التركيز لدى فئات واسعة من مستخدمي هذه التقنيات، بالإضافة إلى صعوبات الحفظ والتركيز لدى أجيال من الأطفال الذين نشؤوا على استخدام هذه الوسائط. وظهور قائمة جديدة من صعوبات التعليم والتركيز. وصحيح أنها ليست صعوبات جديدة في إطار المتاعب المرضية التي تعود لأسباب مرضية لخلل ما في كيمياء المخ مثلا أو لأسباب شبيهة، لكن الكثير منها يرتبط حاليًا باستخدام التقنيات الرقمية.

ويبدو إذا أن التقنيات الرقمية، رغم كل ما أتاحته من معرفة وتيسير الوصول إلى مصادر المعرفة في كل شيء تقريبًا، لكنها، في الوقت نفسه، قدمت سلاحا ضمنيا يقاوم فكرة القراءة نفسها، أو فعل القراءة التي يصفها ديفيد أولين بأنها «فعل تأملي، مقاومة في مشهد شرود الذهن، تعيدنا إلى مراقبة الوقت».

من بين الباحثات المهتمات بهذا الموضوع، الأمريكية ماريان وولف Maryanne Wolf، وهي مختصة في دراسات صعوبات القراءة، ومحو الأمية في الثقافة الرقمية، وفيما يعرف بدراسات قراءة الدماغ، ولها دراسة مهمة حول الدماغ في عالم رقمي.

بين ما تقوله وولف: «إن جودة قراءتنا ليست مؤشرًا على جودة تفكيرنا فقط، بل هي المسلك الأشهر نحو تطوير دروب جديدة تتعلق بالتطور العقلي للجنس البشري، فثمة الكثير على المحك فيما يخص تطوير عقلنة القراءة، في ضوء التغيرات المتسارعة راهنا». وتقول «لعلك لاحظت سلفًا كيف تتغير جودة انتباهك كلما قرأت شيئًا ما على شاشات الأجهزة الرقمية أو لعلك شعرت بوخزة ضمير مفاجئة. لإحساسك أن هناك شيئًا خفيًا ينقصك، كلما حاولت الانغماس في كتابك المفضل، مثل طرف شبحي. تتذكر القارئ الذي كنته لكن لا يمكنك استدعاء ذاك (الشبح المتيقظ) مع شعر البهجة الذي شعرت به عندما سافرت مرة من مكان ما خارج الذات إلى فضائك الداخلي».

وترى وولف أن الأمر يزداد صعوبة مع الأطفال، إذ يسهل تشتيت انتباههم على نحو مستمر، وتغمرهم المحفزات التي لن تتبلور في مخزونهم المعرفي، مما يعني أن مقدرتهم الجوهرية على استخدام المقارنات والاستدلالات عند القراءة ستكون أقل تطورًا.

ثمة مخاوف مشتركة بين زمن سقراط والوقت الحالي، لعل أبرزها سؤال: هل هناك تأثير لتدفق المعلومات والتشتيت المستمر على انتباه الأطفال الصغار وذاكرتهم؟ هل حقيقة حصولهم على إجابات فورية عبر الإنترنت هي سبب تراجع التعلم لديهم؟».

وإشارة وولف إلى سقراط تعود إلى مقولته الشهيرة: «إن طلابي كانوا يبالغون في الاعتماد على قرطاس لا يستطيع الرد ويعيشون وهم المعرفة».

ومن اللافت جدا أن الرئيس التنفيذي لشركة جوجل إريك شميدت صرح إحدى المرات لتشارلي روز في مقابلة صحفية بالقول: «أشعر بالقلق من مستوى عمليات القراءة، التدفق المعلوماتي السريع له أثر ساحق ـ إنه يسهم في عرقلة الإدراك، كما يؤثر على التفكير العميق».

عد إلى وطنك القرائي!

وقد ألفت ماريان كتابا بعنوان «أيها القارئ.. عُد إلى وطنك» وبعنوان فرعي «الدماغ القارئ في عالم رقمي»؛ أوضحت عبر فصوله المشكلات العديدة التي تواجهها الأجيال الجديدة من الأطفال والناشئة من صعوبة الاستيعاب، والتشتت، ومصاعب القراءة، وصعوبة الاتصال والتواصل أيضًا كسمات اجتماعية جديدة تسببت فيها الاستخدامات المتواصلة للتقنيات الجديدة، وذلك على حساب المهارات التي تغذي الإدراك والتفكير العميق التي ترتبط بوسائط التعليم التقليدية.

وهو كتاب أنصح بقراءته شخصيا لأهميته، ولقناعتي بأن أي عرض مبتسر له لا يمكن أن يقدم الرؤية الكاملة لمضمونه؛ لأن الباحثة لا تكتفي ببيان الأسس التي تنبني عليها القواعد الإدراكية للأطفال في العمر ما بين عامين وخمسة أعوام ودور الكتاب والصورة والحروف في بناء المنظومة الإدراكية، والإشارة إلى أننا لا نزال نعاني من عدم توفر بيانات ومعلومات كافية حول مشكلات البنية الرقمية على الذهن وكيفية مواجهتها، لكنها تقترح كذلك نظما تعليمية جديدة تحاول أن تفيد من النظامين التقليدي والرقمي معا لتعليم الجيل الذي يتوقع أن يقود التطور في المستقبل عبر وظائف جديدة لا نعرفها اليوم بالتأكيد.

ولكن الأهم أن مواجهة مخاطر التشتت وانعدام التواصل اليوم على الأقل تبدأ ببيئة أقل رقمية للأطفال حتى تكتمل مهاراتهم، من جهة وترشيد استخدام البالغين للوسائط الرقمية لاستعادة قدراتهم الذهنية المعطلة، أو على الأقل لتجويد مهارات جيل ينبغي أن يجمع بين قدرات جيلين معًا!

إبراهيم فرغلي كاتب وروائي من مصر