"أود أن أبين هنا الكيفية التي ينبغي بها قراءة هذا الكتاب، كيما يمكن فهمه على أتم نحو" ص29 العالم إرادة وتمثلا – شوبنهاور
هكذا افتتح شوبنهاور حديثه في تصديره للطبعة الأولى من كتابه الذي يمثل واسطة العقد لأعماله ومجمل فلسفته، وهو كتاب "العالم إرادة وتمثلا" والذي طُبع بطبعات كثيرة وبتغيير في عنوانه في بعض الترجمات، إلا أن الطبعة الأفضل له هي التي اقتبست منها وهي طبعة (المركز القومي للترجمة) الصادرة في جزأين.
مثلت المقدمات مفتاحا لكثير من الكتب، بل ولربما فاقت المقدمات الكتاب شهرة وصيتا، ولا مقدمة تفوق الكتاب المُقَدَّمَ له كما مقدمة ابن خلدون على كتابه "العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" الذي يقول مؤلفه في مقدمته: "ورتبته على مقدمة وثلاثة كتب: المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين.
الكتاب الأول: في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد، وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة.
الكتاب الثالث: "في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول" ص10 مقدمة ابن خلدون طبعة دار التوفيقية للتراث.
وللقراء مذاهب، فمنهم من يرى قراءة المقدمة من الضروريات التي لا غنى عنها للولوج إلى عالم الكتاب، ومنهم من يعزف عن قراءة كل المقدمات لأي كتاب كانت، وهناك فئة وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وأنا منهم، فهذه الفئة ترى أن أهمية المقدمة تختلف حسب مبدعها، فعلى سبيل المثال، لا أحب أن أقرأ مقدمة المترجم -إن كان الكتاب مترجما- أو مقدمة المحقق -إن كان من كتب التراث- إلا بعدما أفرغ من قراءة متن الكتاب الذي ألفه مؤلفه الأصلي؛ وذلك لأن المترجم ومحقق الكتاب ينقلان لنا ما استشفَّاه من قراءتهما إنْ لذلك الكتاب المُتَرجم أو المُحَقق، أو لمجمل أعمال من ترجموا عمله أو حققوا كتبه. فلا يعود القارئ بعد قراءة تلك المقدمة التي لم يكتبها مؤلف الكتاب نفسه يقرأُ الكتاب بعينه هو، بل يقرأه بعين المترجم والمحقق، وقد طالعت كثيرا من الكتب التي تمنيت لو أن مقدمة المُشتغل على الكتاب من -مقدم أو مترجم- تُمحى تماما وذلك لأنها تسيء لمقصد المؤلف الأصلي وتنحو منحى مضادا لما أراده من كتابه.
يقول شوبنهاور في كتابه: "فالأفكار الفلسفية يمكن أن نتلقاها فقط من العقول التي أبدعتها، ومن هنا فإن المرء الذي يجد نفسه مشدودًا إلى الفلسفة، يجب أن يجتهد في البحث عن معلميها خالدي الذكر في محراب أعمالهم الهادئ، فالفصول الرئيسة في كتابات أي من هؤلاء الفلاسفة الحقيقيين سوف تشكل رؤية نافذة لمذاهبهم تفوق مائة مرة ما يمكن أن يستمده من العروض الممطوطة والمشوهة لتلك المذاهب، التي تنتجها العقول العادية والتي ما زالت في معظمها واقعة في شراك الفلسفة الرائجة الآن، أو في شراك استهواءاتها الخاصة". ص46 العالم إرادة وتمثلا.
وقد وقعت في خطأ فادح حين نشرت ديواني الأول "تحليق" قبل سنتين في عام 2020 حين لم أضع له مقدمة؛ وذلك لأنني لم أكن أنشر نصوصي قبل ذلك، فظنه كثير من القراء تجميعا لنصوص اقتطعتها من هنا وهناك، وهي في حقيقتها مختارات من النصوص التي كتبتها في الفترة من عام 2014 حتى 2019، ولو كنت قد صدرت الديوان بمقدمة لما حصل هذا اللبس عند قراءة الديوان من القراء الكرام.
عودا على بدء، لا ينسى المرء بعض المقدمات التي قرأها طوال حياته، سواءً المكتوبة بقلم مؤلفها، أو تلك التي وضعها شارح أو محقق أو مترجم الكتاب. ومن تلك المقدمات مقدمة كتاب المفكر العظيم مالك بن نبي التي كتبها صديقه الدكتور عمار الطالبي في تقديمه لكتاب "وجهة العالم الإسلامي" الصادر بالاشتراك عن داري (الكتاب المصري) و(الكتاب اللبناني) والتي -إن لم تخني الذاكرة- قاربت السبعين صفحة وهي أشبه ما يكون بسيرة ذاتية عن ابن نبي وأعماله ومساره الفكري، وللأسف فإني قد استعرت الكتاب حينها وإلا لأوردت شذرات منه.
كما تعد مقدمة "شرح ديوان الحماسة لأبي تمام" لأبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، إحدى التحف الأصيلة التي ينبغي على كل أديب العناية بها. فقد تصدى المرزوقي فيها للدفاع عن أبي تمام، وظهرت براعته وفطنته في نقد وتفنيد رأي من حاول الانتقاص من أبي تمام وديوانه، وقد قال المرزوقي في رده على رجل طلب منه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام وقد حاوَرَه في "أمرَ الشعر وفنونَه، وما قال الشعراءُ في الجاهلية وما بعدها، وفي أوائل أيام الدولتين وأواخرها من الرفعة به، إذ كان الله عزَّ وجل قد أقامه للعرب مقامَ الكتب لغيرها من الأمم، فهو مستودعُ آدابها، ومستَحفَظُ أنسابها، ونظامُ فخارها يوم النفار، وديوانُ حجاجها عند الخصام.
ثم سألتَني عن شرائط الاختيار فيه، وعمَّا يتميز به النظمُ عن النثر، وما يُحمد أو يُذَمُّ من الغلو فيه أو القصد، وعن قواعد الشعر التي يجب الكلام فيها وعليها، حتى تصير جوانبُها محفوظةً من الوهن، وأركانها محروسة من الوهي، إذ كان لا يُحكم للشاعر أو عليه بالإساءة أو بالإحسان إلا بالفحص عنها، وتأمّل مأخذه منها، ومدى شأوه فيها، وتمييز المصنوع مما يحوكه من المطبوع، والأَتِيّ المستسهل من الأبِيَّ المستنكَر، وهذه المسألة القديمة عند العرب مذ ظهرت الحضارة الإسلامية، فقد ناقشها التوحيدي كذلك في "الإمتاع والمؤانسة". ويتصدى لانتقادات ذلك الرجل الذي حاول التقليل من ديوان الحماسة، فيستطرد المرزوقي في مقدمته ويُظهر مواطن القوة والضعف في الشعر وبيّن "السببَ في تأخُّر الشعراء عن رتبة الكُتَّاب البلغاء" بكلام رشيق موزون درسه الدارسون لتاريخ الأدب العربي واستُعمل في دراسات أكاديمية جادة كتلك التي قدمتها الجزائرية "نسرين دهيلي" في رسالتها لنيل شهادة الدكتوراه والتي جاءت بعنوان " القصيدة خارج الوزن إشكالاتها النظرية وتشكيلاتها الفنّية - دراسة في الشعر الجزائري المعاصر(1990 – 2015)".
وقد حاولت في هذا المقال أن أدلل على ما للمقدمة من محاسن، وما عليها من مآخذ، والسبيل الذي ينتهجه بعض القراء في اختيار وقت قراءة المقدمة -عند البدء بالكتاب، أو عند الفراغ من قراءة متنه- وأرى أن بعض المقدمات لا أقول تغني عن قراءة الكتاب، ولكنها تزيده ألقا وتتوسط عِقده، فيكون الكتاب ناقصا بدونها، ويتكلل بإكليلها إن كانت حسنة بديعة تضيف للكتاب وموضعه روحا أخرى، وبهاء آخر.
هكذا افتتح شوبنهاور حديثه في تصديره للطبعة الأولى من كتابه الذي يمثل واسطة العقد لأعماله ومجمل فلسفته، وهو كتاب "العالم إرادة وتمثلا" والذي طُبع بطبعات كثيرة وبتغيير في عنوانه في بعض الترجمات، إلا أن الطبعة الأفضل له هي التي اقتبست منها وهي طبعة (المركز القومي للترجمة) الصادرة في جزأين.
مثلت المقدمات مفتاحا لكثير من الكتب، بل ولربما فاقت المقدمات الكتاب شهرة وصيتا، ولا مقدمة تفوق الكتاب المُقَدَّمَ له كما مقدمة ابن خلدون على كتابه "العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" الذي يقول مؤلفه في مقدمته: "ورتبته على مقدمة وثلاثة كتب: المقدمة: في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين.
الكتاب الأول: في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
الكتاب الثاني: في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد، وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة.
الكتاب الثالث: "في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول" ص10 مقدمة ابن خلدون طبعة دار التوفيقية للتراث.
وللقراء مذاهب، فمنهم من يرى قراءة المقدمة من الضروريات التي لا غنى عنها للولوج إلى عالم الكتاب، ومنهم من يعزف عن قراءة كل المقدمات لأي كتاب كانت، وهناك فئة وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وأنا منهم، فهذه الفئة ترى أن أهمية المقدمة تختلف حسب مبدعها، فعلى سبيل المثال، لا أحب أن أقرأ مقدمة المترجم -إن كان الكتاب مترجما- أو مقدمة المحقق -إن كان من كتب التراث- إلا بعدما أفرغ من قراءة متن الكتاب الذي ألفه مؤلفه الأصلي؛ وذلك لأن المترجم ومحقق الكتاب ينقلان لنا ما استشفَّاه من قراءتهما إنْ لذلك الكتاب المُتَرجم أو المُحَقق، أو لمجمل أعمال من ترجموا عمله أو حققوا كتبه. فلا يعود القارئ بعد قراءة تلك المقدمة التي لم يكتبها مؤلف الكتاب نفسه يقرأُ الكتاب بعينه هو، بل يقرأه بعين المترجم والمحقق، وقد طالعت كثيرا من الكتب التي تمنيت لو أن مقدمة المُشتغل على الكتاب من -مقدم أو مترجم- تُمحى تماما وذلك لأنها تسيء لمقصد المؤلف الأصلي وتنحو منحى مضادا لما أراده من كتابه.
يقول شوبنهاور في كتابه: "فالأفكار الفلسفية يمكن أن نتلقاها فقط من العقول التي أبدعتها، ومن هنا فإن المرء الذي يجد نفسه مشدودًا إلى الفلسفة، يجب أن يجتهد في البحث عن معلميها خالدي الذكر في محراب أعمالهم الهادئ، فالفصول الرئيسة في كتابات أي من هؤلاء الفلاسفة الحقيقيين سوف تشكل رؤية نافذة لمذاهبهم تفوق مائة مرة ما يمكن أن يستمده من العروض الممطوطة والمشوهة لتلك المذاهب، التي تنتجها العقول العادية والتي ما زالت في معظمها واقعة في شراك الفلسفة الرائجة الآن، أو في شراك استهواءاتها الخاصة". ص46 العالم إرادة وتمثلا.
وقد وقعت في خطأ فادح حين نشرت ديواني الأول "تحليق" قبل سنتين في عام 2020 حين لم أضع له مقدمة؛ وذلك لأنني لم أكن أنشر نصوصي قبل ذلك، فظنه كثير من القراء تجميعا لنصوص اقتطعتها من هنا وهناك، وهي في حقيقتها مختارات من النصوص التي كتبتها في الفترة من عام 2014 حتى 2019، ولو كنت قد صدرت الديوان بمقدمة لما حصل هذا اللبس عند قراءة الديوان من القراء الكرام.
عودا على بدء، لا ينسى المرء بعض المقدمات التي قرأها طوال حياته، سواءً المكتوبة بقلم مؤلفها، أو تلك التي وضعها شارح أو محقق أو مترجم الكتاب. ومن تلك المقدمات مقدمة كتاب المفكر العظيم مالك بن نبي التي كتبها صديقه الدكتور عمار الطالبي في تقديمه لكتاب "وجهة العالم الإسلامي" الصادر بالاشتراك عن داري (الكتاب المصري) و(الكتاب اللبناني) والتي -إن لم تخني الذاكرة- قاربت السبعين صفحة وهي أشبه ما يكون بسيرة ذاتية عن ابن نبي وأعماله ومساره الفكري، وللأسف فإني قد استعرت الكتاب حينها وإلا لأوردت شذرات منه.
كما تعد مقدمة "شرح ديوان الحماسة لأبي تمام" لأبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، إحدى التحف الأصيلة التي ينبغي على كل أديب العناية بها. فقد تصدى المرزوقي فيها للدفاع عن أبي تمام، وظهرت براعته وفطنته في نقد وتفنيد رأي من حاول الانتقاص من أبي تمام وديوانه، وقد قال المرزوقي في رده على رجل طلب منه شرح ديوان الحماسة لأبي تمام وقد حاوَرَه في "أمرَ الشعر وفنونَه، وما قال الشعراءُ في الجاهلية وما بعدها، وفي أوائل أيام الدولتين وأواخرها من الرفعة به، إذ كان الله عزَّ وجل قد أقامه للعرب مقامَ الكتب لغيرها من الأمم، فهو مستودعُ آدابها، ومستَحفَظُ أنسابها، ونظامُ فخارها يوم النفار، وديوانُ حجاجها عند الخصام.
ثم سألتَني عن شرائط الاختيار فيه، وعمَّا يتميز به النظمُ عن النثر، وما يُحمد أو يُذَمُّ من الغلو فيه أو القصد، وعن قواعد الشعر التي يجب الكلام فيها وعليها، حتى تصير جوانبُها محفوظةً من الوهن، وأركانها محروسة من الوهي، إذ كان لا يُحكم للشاعر أو عليه بالإساءة أو بالإحسان إلا بالفحص عنها، وتأمّل مأخذه منها، ومدى شأوه فيها، وتمييز المصنوع مما يحوكه من المطبوع، والأَتِيّ المستسهل من الأبِيَّ المستنكَر، وهذه المسألة القديمة عند العرب مذ ظهرت الحضارة الإسلامية، فقد ناقشها التوحيدي كذلك في "الإمتاع والمؤانسة". ويتصدى لانتقادات ذلك الرجل الذي حاول التقليل من ديوان الحماسة، فيستطرد المرزوقي في مقدمته ويُظهر مواطن القوة والضعف في الشعر وبيّن "السببَ في تأخُّر الشعراء عن رتبة الكُتَّاب البلغاء" بكلام رشيق موزون درسه الدارسون لتاريخ الأدب العربي واستُعمل في دراسات أكاديمية جادة كتلك التي قدمتها الجزائرية "نسرين دهيلي" في رسالتها لنيل شهادة الدكتوراه والتي جاءت بعنوان " القصيدة خارج الوزن إشكالاتها النظرية وتشكيلاتها الفنّية - دراسة في الشعر الجزائري المعاصر(1990 – 2015)".
وقد حاولت في هذا المقال أن أدلل على ما للمقدمة من محاسن، وما عليها من مآخذ، والسبيل الذي ينتهجه بعض القراء في اختيار وقت قراءة المقدمة -عند البدء بالكتاب، أو عند الفراغ من قراءة متنه- وأرى أن بعض المقدمات لا أقول تغني عن قراءة الكتاب، ولكنها تزيده ألقا وتتوسط عِقده، فيكون الكتاب ناقصا بدونها، ويتكلل بإكليلها إن كانت حسنة بديعة تضيف للكتاب وموضعه روحا أخرى، وبهاء آخر.