جاءت زيارة سامية صولوحو حسن رئيسة جمهورية تنزانيا الاتحادية لسلطنة عمان في توقيت يتقاطع مع كبرى الاهتمامات السياسية المعاصرة التي تنشغل بها مسقط، وتشغلها أكثر من أي وقت، وهي تتجلى في مسألتين أساسيتين مرتبطتين ببعض وهما «تأمين أمنها الغذائي، وتحويلها إلى مركز لوجستي للحبوب بشكل خاص والغذاء بشكل عام» وبطموحات كبيرة يمكن أن تستوعب الأمن الغذائي الخليجي حتى في أوقات الأزمات واشتدادها، كتلك التي حدثت مع قرصنة المضادات والأدوية إبان جائحة كورونا أو مع غذاء الخليج عند اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية.

ومسقط تحتاج الآن لشريك غذائي موثوق به، وتظهر هنا جزيرة القرنفل/ تنزانيا بمثابة نموذج للثقة واستدامتها، وقد تأسست بروابط تاريخية وثقافية واجتماعية معلومة بالضرورة، فالقرنفل تشتهر به تنزانيا، وشكل مصدر اقتصادها آنذاك، وكانت تعتمد عليه اقتصاديات الكثير من الدول الكبرى، وقد زرعه العمانيون، وتاجروا به إبان الإمبراطورية العمانية، وتتجدد الثقة الآن في العهد العماني المتجدد من خلال زيارة رئيسة تنزانيا التي اختتمت أمس الأول، وخرجت بمجموعة نتائج كبيرة، أكثرها تفصيلا وبخرائط طريق واضحة، ما يتعلق بتلكم المسألتين الأساسيتين، فالمركز سيستوعب المنتجات الغذائية المحلية، ويقوم بالاستيراد كذلك، ومن ثم يتم تصنيعها محليا، وإعادة تعبئتها، ومن ثم تصديرها للخارج، كما رسم له منذ عام 2018.

ففي ذلك العام، وقعت المجموعة العمانية العالمية للوجستيات «أسـيـاد» والشركة العمانية للاستثمار الغذائي القابضة مذكرة تعاون لتعزيز الخدمات اللوجستية في مجال الأغذية، وتضطلع أسياد بمهمة تنفيذ الاستراتيجية اللوجستية الوطنية 2040 وتندرج تحت مظلتها العديد من شركات الموانئ والمناطق الحرة والنقل البحري والنقل العام، أما الشركة العمانية للاستثمار الغذائي القابضة فهي ذراع استثماري حكومي في مجال الأمن الغذائي وتقوم بإنشاء مشاريع غذائية تهدف إلى رفع نسب الاكتفاء الذاتي لبعض السلع والمنتجات الزراعية وتعزيز الأمن الغذائي لسلطنة عمان.

وسيكون المركز العماني اللوجستي للغذاء أكثر جاذبية للسوق الخليجي لضمانة الجودة، لأنه سيخضع للمواصفات والمقاييس الخليجية، ولقربه الجغرافي منها، ولوجود وسائط نقل متعددة، ومضمونة حتى وقت الأزمات، وسينقل هذا المركز معه مجموعة تطورات كبرى، كالإسراع في إقامة القطار، وربطه بالدول الخليجية الست، مما سيجنبها مستقبلا قرصنة الغذاء في البحار، ومسقط أكثر الدول مؤهلة للقيام بهذا الدور لموقعها الذي أقيمت عليه موانئ جيواستراتيجية كالدقم وصلالة البعيدة عن مناطق التوترات.

والرهان على تنزانيا لتكون داعما غذائيا لأسباب موضوعية، فهي ثاني أكبر اقتصاد في مجموعة شرق إفريقيا، والثاني عشر في قائمة الدول الإفريقية حسب الناتج القومي الإجمالي، وتعتمد بشكل كبير على الزراعة، حيث يعمل بها ما يقرب من نصف القوة العاملة، وقد دخلت تنزانيا عالم مصدري الغذاء بما فيها الحبوب في إفريقيا والعالم، ويرجع الخبراء نجاح تنزانيا في التحول من منتج مستهلك للغذاء إلى منتج ومستهلك ومصدر له، إلى إجراءات تحسين الإنتاجية التي اتبعتها، وإدخال أساليب زراعية أفضل، وأكثر تطورا على عكس الوضع الذي كان سائدا بعد سنوات من إهمال القطاع الزراعي.

وفي بحثي عن القدرة الزراعية التنزانية عثرت على إحصائية لعام 2018 تبين القدرة الإنتاجية الزراعية لتنزانيا، اخترت منها الآتي:

- 5.9 مليون طن من الذرة.

- 5 ملايين طن من الكسافا (ثاني أكبر منتج في العالم).

- 3.8 مليون طن من البطاطا الحلوة (رابع أكبر منتج في العالم).

-3.4 مليون طن من الموز (عاشر أكبر منتج في العالم).

-3 ملايين طن من الأرز.

-1.2 مليون طن من الفول (سادس أكبر منتج في العالم).

-940 ألف طن من الفول السوداني (سابع أكبر منتج في العالم).

-930 ألف طن من بذور عباد الشمس (ثاني أكبر منتج في العالم).

-561 ألف طن من بذور السمسم (خامس أكبر منتج في العالم).

- 454000 طن من المانجو.

-389 ألف طن من الأناناس.

- 373 ألف طن من البرتقال.

- 238 ألف طن من القطن.

-171 ألف طن من الكاجو (سادس أكبر منتج في العالم).

وهذا يعني أن تنزانيا واعدة زراعيا، وفرصة مواتية ومتاحة لبلادنا وفق مبدأ الاستثمارات الحكومية، وهو أن لا يكون الخارج على حساب الداخل، وأن يكون الخارج معززا ومكملا للداخل، وعامل نجاح متعدد المصالح، كنموذج المركز اللوجستي الغذائي العماني الذي يمكن أن يشكل حالة اطمئنان عماني ـ إقليمي ـ خليجي في كل الأحوال بما فيه وقت الأزمات، ويكون ذلك منسجما مع القناعات السياسية المعاصرة، وهي أن الشراكات الجديدة مع الخارج تبنى على الثقة والمصالح معا.

وهذا ما أجده في نتائج زيارة رئيسة تنزانيا لمسقط، ففيها خطوات تنفيذية لدعم ما أشرت إليه، أبرزها، الاتفاق على إقامة صندوق استثماري مشترك، وإقامة معمل لتصنيع الأسماك، ومن أجله سيتم تكوين مخزون سمكي يقع في الجزء الشمالي الشرقي من جزيرة زنجبار على مساحة 5 هكتارات، ويدرس حاليا جهاز الاستثمار العماني إدارة ميناء ما نجابواني، وقد تم استحداثه لاستقبال الحركة التجارية والاقتصادية لزنجبار، وقد يقام فيه مصنع تصنيع الأسماك سالف الذكر، وقد يخصص لأهداف تجارية مشتركة بين البلدين، كما يقوم جهاز الاستثمار العماني كذلك بدراسة جدوى لتحويل ميناء ماليندي الحالي إلى ميناء سياحي، بالإضافة إلى التوقيع على عشر مذكرات تفاهم في عدة مجالات أساسية.

وهناك عدة مزايا أخرى لبلادنا من تعزيز التعاون الاستثماري مع تنزانيا، من بينها استهداف سوقها الاستهلاكي، حيث تبرز كينيا هنا، كسوق استهلاكي بتعداد سكاني قرابة 60 مليون نسمة، واستهدافها كذلك للتصدير منها للسوق الإفريقية، وزيادة احتياطيات البلاد من العملة الصعبة، وكل هذه المزايا وغيرها، ينبغي أن ينظر لها من منظور تعزيز قوة الداخل أولا، كنموذج المركز اللوجستي للغذاء مع العلم أن تحقيق رؤية عمان 2040، تتوقف على ما نسبته 80 % من الاستثمارات المحلية والأجنبية في ظل حقبة زمنية تشهد منافسة محتدمة بين دول المنطقة على جذب الاستثمارات الأجنبية بمختلف الوسائل والمصادر، ودون التوقف حتى عند جنسياتها.

وتبرز مقولة الداخل أولا، والخارج مكملا ومعززا له في ضوء آخر ثلاث أزمات كبرى شهدها العالم، وهي الأزمة النفطية، وجائحة كورونا، والأزمة الروسية الأوكرانية، حيث أعلت من شأن تأمين كل دولة أساسياتها وضرورياتها من داخلها، فالبحار لم تعد آمنة، والأجواء لن تكون مفتوحة دائما، وللأسف يأتي الإخلال بالأمن البحري، وإغلاق المجال الجوي من قبل الدول الكبرى نفسها، ولنا في الأمثلة التي أوردتها في مقدمة المقال ما يغني عن تقديم أي استدلالات أخرى حتى لو كانت تاريخية، كتجارة القرنفل في زنجبار إبان الإمبراطورية العمانية.