من الصور التي لا يمكن محوها بسهولة من أذهان الذين أغدقت عليهم الدنيا بترف العيش في حقول ظليلة، صورة أشجار "الأمبا" وهي تسجدُ للأرض محملة بثقل أغصانها، وصورة النخيل وهي تطرح غلّتها كلّما أنضجها حرّ القيظ، صورة الليمون المجفف فوق "المسطاح" لفرط وفرته، وأعذاق الموز الناضجة والمصطفة في خنادق طولية. تلك الحقول الكثيفة رفقة طرطشة مياه أفلاجها، كانت كفيلة بتلوين الصيف وبعث البهجة في قرانا البعيدة.
الأيدي التي امتلكها أجدادنا، بدت كقوة ساحرة انبثقت من بينها عجائب لا تقل عن عجائب الدنيا الأخرى بشيء، تلك الأيدي تشبه التي وصفها فريدريك إنجلز، بأنّها ليست أداة العمل وحسب وإنّما هي نتاج العمل، فبفضل العمل تكيفت لعمليات شديدة التعقيد.
"وكما أنّ الذئب -خلافًا للصياد- لا يُوفر العنزة التي ستعطيه الجداء العام القادم"، بل يأكلها في حينه، غير مُفكر في قوت غده، فنحن أيضًا نقف إزاء ثرواتنا الحيوانية والنباتية في صورة شبه عاجزة عن التقدم، فمنذُ أن أصبح جيل أجدادنا مسلوب القوى، وجاء جيل يبحث عن وظائف توفر دخلًا ثابتًا، انهارت العديد من الحقول، فقد زاحمت أيادٍ غريبة أيدينا، وغابت عين الرقيب، انهارت كثافة أشجارنا، وانكشف غطاؤنا النباتي، فالعمالة استعملت أيديها لإنتاج سريع ومُعبأ بسموم الكيماوي! "عين النسر ترى لمدى أبعد من الإنسان، ولكن الإنسان يلحظ في الأشياء أكثر مما قد يلحظ النسر. الكلب يشم أفضل، ولكن الإنسان يجعل الرائحة علائم لأشياء شتى، فالإنسان يتمتع بالإدراك ويقدر على تجريد الأشياء"، ولأنّه كذلك فـ انجلز يدعو لانقلاب كامل على أسلوب إنتاجنا منذ عام 1876م، عندما نشر بحثه "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان"، فهو مؤمن بأنّ العمل واستعمال اليد والنطق هما ما جعلًا الإنسان فريدًا عن باقي المخلوقات، كما أنّ ترقي الدماغ أدى لترقي جميع حواسه الأخرى.
يرى إنجلز بأنّه: "لا شيء في الطبيعة يحدث بصورة منعزلة، فكل ظاهرة تؤثر في الأخرى" وإزاء أنّ العالم يكشف الآن عن سيناريوهات مُعقدة جرّاء حروبه غير المتوقعة، فأقل ما يمكن أن يسعى إليه العاقل هو أن يؤمن أساسيات الغذاء من مشاريع كبيرة تتبناها الدولة، لا مما يتشرذم هنا وهناك من مشاريع فردية، وذلك لنفتح أفقًا جديدًا للأيدي العاملة المنتظرة من جهة، ولنقلل هواجس الخوف من مجهول متوارٍ من جهة أخرى.
يطرح إنجلز قضية دقيقة وحساسة حول أنّ الملكية الخاصة ترتكز على العمل الشخصي وتتطور حتمًا نحو انعدام الملكية عند المشتغلين، فالملكية حكر في أيدي القلّة. الأمر الذي يؤثر سلبًا في نشاط الأيدي الأخرى. ويضرب مثالًا حول بعض المزارعين في كوبا، الذين أحرقوا الغابات على سفوح الجبال عندما وجدوا في الرماد أسمدة تكفي لجيل واحد من أشجار القهوة غنية المردود، لكن تلك الأيدي تغافلتْ عن أن الأمطار الاستوائية ستجرف معها الطبقة الترابية السطحية، إذ لم يبق ما يحميها. ذكرني الأمر بالأيدي العاملة في سهل الباطنة الخصيب، فقد تواردت قصص عن الأيدي العاملة التي تُلقي شوالات الكيماوي في الأفلاج بكميات هائلة غير مكترثة بالأثر الذي ستخلفه، فاليد الغريبة تنتهج الأسلوب الذي يُوصلها لنتائج سريعة، والربح هو المحرك الوحيد، متغافلين عن النتائج البعيدة والعواقب الوخيمة.
يتساءل إنجلز: ما الذي يُميز الإنسان عن قطيع من القرود؟ وتأتي الإجابة دون مواربة، "العمل". فالقرود وإن كانت تُسّمِدُ الأشجار ببرازها دون أن تخطط لذلك، فقد كانت تستنفد بالمقابل أكل المنطقة، بينما دماغ الإنسان مكّنه من استحداث الأدوات المناسبة ليصبح غذاؤه متوفرًا بشكل دائم. الحيوان يستفيد من الطبيعة الخارجية ويدخل عليها تعديلات بسيطة، لكن الإنسان يحملها على خدمة أغراضه عبر مفهومه للعمل.
ولذا علينا ألا نقف عند تجربة أيادي أجدادنا رغم أهميتها، فلدينا الآن عقول تقرن اليد بالعلم وبالأفكار الجديدة وبقدرتها على الانفتاح على العالم، وكل ما قد ينقصها هو التبني والتمكين.
الأيدي التي امتلكها أجدادنا، بدت كقوة ساحرة انبثقت من بينها عجائب لا تقل عن عجائب الدنيا الأخرى بشيء، تلك الأيدي تشبه التي وصفها فريدريك إنجلز، بأنّها ليست أداة العمل وحسب وإنّما هي نتاج العمل، فبفضل العمل تكيفت لعمليات شديدة التعقيد.
"وكما أنّ الذئب -خلافًا للصياد- لا يُوفر العنزة التي ستعطيه الجداء العام القادم"، بل يأكلها في حينه، غير مُفكر في قوت غده، فنحن أيضًا نقف إزاء ثرواتنا الحيوانية والنباتية في صورة شبه عاجزة عن التقدم، فمنذُ أن أصبح جيل أجدادنا مسلوب القوى، وجاء جيل يبحث عن وظائف توفر دخلًا ثابتًا، انهارت العديد من الحقول، فقد زاحمت أيادٍ غريبة أيدينا، وغابت عين الرقيب، انهارت كثافة أشجارنا، وانكشف غطاؤنا النباتي، فالعمالة استعملت أيديها لإنتاج سريع ومُعبأ بسموم الكيماوي! "عين النسر ترى لمدى أبعد من الإنسان، ولكن الإنسان يلحظ في الأشياء أكثر مما قد يلحظ النسر. الكلب يشم أفضل، ولكن الإنسان يجعل الرائحة علائم لأشياء شتى، فالإنسان يتمتع بالإدراك ويقدر على تجريد الأشياء"، ولأنّه كذلك فـ انجلز يدعو لانقلاب كامل على أسلوب إنتاجنا منذ عام 1876م، عندما نشر بحثه "دور العمل في تحول القرد إلى إنسان"، فهو مؤمن بأنّ العمل واستعمال اليد والنطق هما ما جعلًا الإنسان فريدًا عن باقي المخلوقات، كما أنّ ترقي الدماغ أدى لترقي جميع حواسه الأخرى.
يرى إنجلز بأنّه: "لا شيء في الطبيعة يحدث بصورة منعزلة، فكل ظاهرة تؤثر في الأخرى" وإزاء أنّ العالم يكشف الآن عن سيناريوهات مُعقدة جرّاء حروبه غير المتوقعة، فأقل ما يمكن أن يسعى إليه العاقل هو أن يؤمن أساسيات الغذاء من مشاريع كبيرة تتبناها الدولة، لا مما يتشرذم هنا وهناك من مشاريع فردية، وذلك لنفتح أفقًا جديدًا للأيدي العاملة المنتظرة من جهة، ولنقلل هواجس الخوف من مجهول متوارٍ من جهة أخرى.
يطرح إنجلز قضية دقيقة وحساسة حول أنّ الملكية الخاصة ترتكز على العمل الشخصي وتتطور حتمًا نحو انعدام الملكية عند المشتغلين، فالملكية حكر في أيدي القلّة. الأمر الذي يؤثر سلبًا في نشاط الأيدي الأخرى. ويضرب مثالًا حول بعض المزارعين في كوبا، الذين أحرقوا الغابات على سفوح الجبال عندما وجدوا في الرماد أسمدة تكفي لجيل واحد من أشجار القهوة غنية المردود، لكن تلك الأيدي تغافلتْ عن أن الأمطار الاستوائية ستجرف معها الطبقة الترابية السطحية، إذ لم يبق ما يحميها. ذكرني الأمر بالأيدي العاملة في سهل الباطنة الخصيب، فقد تواردت قصص عن الأيدي العاملة التي تُلقي شوالات الكيماوي في الأفلاج بكميات هائلة غير مكترثة بالأثر الذي ستخلفه، فاليد الغريبة تنتهج الأسلوب الذي يُوصلها لنتائج سريعة، والربح هو المحرك الوحيد، متغافلين عن النتائج البعيدة والعواقب الوخيمة.
يتساءل إنجلز: ما الذي يُميز الإنسان عن قطيع من القرود؟ وتأتي الإجابة دون مواربة، "العمل". فالقرود وإن كانت تُسّمِدُ الأشجار ببرازها دون أن تخطط لذلك، فقد كانت تستنفد بالمقابل أكل المنطقة، بينما دماغ الإنسان مكّنه من استحداث الأدوات المناسبة ليصبح غذاؤه متوفرًا بشكل دائم. الحيوان يستفيد من الطبيعة الخارجية ويدخل عليها تعديلات بسيطة، لكن الإنسان يحملها على خدمة أغراضه عبر مفهومه للعمل.
ولذا علينا ألا نقف عند تجربة أيادي أجدادنا رغم أهميتها، فلدينا الآن عقول تقرن اليد بالعلم وبالأفكار الجديدة وبقدرتها على الانفتاح على العالم، وكل ما قد ينقصها هو التبني والتمكين.