ثمّة أمران نُفضلُ دوما تجاوزهما: الأسئلة الأولى التي تقدح من مخيلة أبنائنا قبل أن يرجمها الوعي المُؤدلج، والشعور بالحزن قبل أن يأتي من يقول لنا: «الحياة ستمضي، والنسيان سيأتي»، وكأنّ مجرد التجاوز يعني مضي الأمور على نحوٍ أفضل.

في حقيقة الأمر، لم يعد بإمكاننا عزل أبنائنا عن تجربة أحاسيسهم الفردية. تبدى لي ذلك بوضوح وأنا أقرأ قصّة "آكل الحزن" للشاعرة الفرنسية روكسان ماري غاليه، ترجمة دار «الأصابع الذكية» التي تدور حول طفل يُكابد الحزن، فظن بأنّه سيتخلص منه بمجرد أن يأكله، لكن لم يُفلح الأمر إلى أن جاءت اليد التي تنتشله، فكان الحزن ضروريا ليعرف الطفل شيئا خفيا عن أسرار ذاته.

في فيلم The Tree Of Life، الحائز على جائزة «السعفة الذهبية» عام 2011، للكاتب والمخرج تيرينس ماليك، تحضر الأسئلة شديدة الحساسية: لماذا نُعاني؟ لماذا نفقد من نحب؟ كيف يرانا الله؟ ولماذا يتعذر وجود مكانٍ نختبئ فيه بعيدا عن الأحزان؟

من المؤكد أنّ هذا الفيلم كُتب بلغة شاعر، كُتب بالأحاسيس الأولى المتضاربة بين المحبة والقسوة.

نتأمل طوال الفيلم صورتين هائجتين، بين النفس البشرية وتموجات الطبيعة، فهنالك دوما ما يحدث في الطبيعة جوار ما يحدث بداخلنا.

نحن إزاء صورة مُقربة للحزن والندم الذي يأتي جارفا ما إن يذهب الأحبة. تأسرنا الحركة والظلال وزوايا التصوير، الصمت الذي يجعلنا نُؤلف الكلمات. صوت الأمّ والابن الهامسان يصنعان حالة شعرية عالية التوهج.

حياة كاملة لعائلة بمسراتها وآلامها، نرقبهم عن كثب منذ إنجاب الأبناء وحتى الانطفاء. يعيشون في بيت زجاجي مُشرع على الطبيعة وفي علاقة متصلة معها، حيث يمضي الناس لطريقين، طريق النِعمة "الفضيلة" وطريق الطبيعة، وعلى الإنسان أن يعرف الطريق الذي ينبغي أن يتبعه.

"ثمّة 16 دقيقة مُتصلة ترينا تشكل الكون منذ الانفجار الكبير وحتى نهاية عصر الديناصورات، في صورة خلابة رفقة الموسيقى"، تُحدث داخلنا دهشة التشكل الأولي للكون، فبقدر ما نشأ هذا الكون من تحولات مُعقدة، بقدر ما نحمل منه شيئا في أرواحنا.

يُربي الأب أبناءه بصرامة المحبّ لا الكاره، لكن الابن البكر "جاك" يشعر بنفورٍ لأنّه يفعل ما يرغب به الأب لا ما يرغب به هو، فيتمنى موت أبيه، بينما تُعلم الأمّ أبناءها أن يحبوا بعضهم بعضا، لأنّ الحياة "ستمر بغمضة عين".

في "شجرة الحياة"، يتبدى الحبّ والقسوة والفقد كتباينات ضرورية في لوحة، فعندما يغيب الأب عن البيت تغدو الحياة أكثر طمأنينة، فتفيض الأمّ بمحبتها، ولذا علينا ألا نتعجب عندما يقول الابن البكر: "أبي، أمّي، ستظلان دائمًا تتصارعان داخلي"، كصراع الفضيلة مع الطبيعة.

لا يجعلنا "ماليك" نرى الموت، بل نرى أثره، فهو معني بالشرخ الذي يُحدثه فينا، كما قد تتصدع الطبيعة، لتنبثق منها حياة أخرى. يبدو الإنسان محاكاة للطبيعة وتحولاتها، فعندما تفقد الأمّ ابنها يعتمل بها ما يعتمل بالطبيعة العاصفة.

ستسأل الأمّ كثيرا عن سر اختيار الموت لابنها، وسيبقى الابن الأكبر يطارد طيف أخاه حتى وهو في الأربعين من عمره.

ثمّة مقاربة لافتة بين نمط الحياة الحديثة المتكلفة، والريف البعيد المُشبع بثراء الألوان، ومقاربة أخرى مرهفة بين مرح الطفولة وتجهم التقدم في العمر.

تشتبك الأزمنة في مكان ما، أشبه بحالة "حُلمية"، لترميم الحزن، فتظهر الطيور ويظهر الماء بكثافة ليرمز لحياة متدفقة بعد حياتنا المألوفة هذه.

أتذكر أيضا أنّ فيلم «in side out» أعطى الشعور بالحزن أهمية كبيرة لإعادة الأشياء إلى نصابها، بعد أن حاول البعض استبعاده والتقليل من أهميته، لكننا نكتشف قيمته في رحلة نضج البطلة، حيث ينبغي أن نمر جميعا بمشاعر الإحباط والكآبة، لتشع السعادة من مكان خفي في أرواحنا.

ولعلنا نتذكر أيضا كرات الذكريات بألوانها المختلفة، تلك التي تتحول إلى ذكريات دائمة، أو تُلقى في حفرة النسيان، كما حدث مع الابن البكر «جاك» وهو يستدعي طفولته مع أخيه عبر التذكر.

فيلم «شجرة الحياة» يضج بأسئلة لا نهائية، بقيت دون أجوبة، وكأنّ فلسفة «ماليك» العميقة تدعونا للتأمل، لنقبض جوهر الحكمة: «فلا أحد اختار طريق الفضيلة وانتهى نهاية سَيّئَة».