لم يكن «جمال»، الطفل المولود بدمشق مع نهايات خمسينيات القرن الماضي لعائلة من الطبقات الفقيرة، واعيًا العبء التاريخي الشاق الذي سينوء به تحت ظلال اسمه الثقيل، بعد أن علَّقه على كاهليه أبٌ بعثي صارم قادم من محراث الطبقة الفلاحية في الريف السوري لاعتناق الاشتراكية في المدينة.
ففي نوفمبر من عام ١٩٥٩، العام الذي شهدت فيه العائلة الدمشقية ولادة الطفل جمال، لم تكن قد مرت سوى أشهر قليلة فقط على إعلان الوحدة بين مصر وسوريا واختيار جمال عبدالناصر ليصبح رئيسًا لـ«الجمهورية العربية المتحدة»، ولكن قرارات الإصلاح الزراعي والتأميم الجديدة لم تكد تأخذ مسارها في الإقليم الشمالي من الجمهورية الوليدة سبتمبر من عام ١٩٦١ حتى تمكن ضباط سوريون ناقمون على حكومة الوحدة، يقودهم العقيد عبدالكريم النحلاوي، من الإطاحة بالمشير عبدالحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، وذلك بعد محاصرة مكتبه في دمشق.
عاد المشير إلى القاهرة، إلى شماتة الرفاق الألداء في مجلس قيادة الثورة، بفشل جديد في استيعاب الموقف بسبب شخصيته «الارتجالية» التي تزاوج بين صرامة المزاج والفوضى.
وهكذا انتهت حكاية الوحدة القصيرة بين الإقليم الشمالي (سوريا) والإقليم الجنوبي (مصر)، ليبدأ معها الفصل المأساوي والأخير من حكاية الصداقة والسلطة بين جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، الرجلين اللذين دارت عليهما كواكب الزمن العربي ومجراته للدخول معًا في مغارة السلطة والخروج على حِدة بالنهاية الوخيمة لحلم الوحدة العربية الذي بدت ملامح غروبه منذ اليوم الأول لحرب الأيام الستة، الخامس من يونيو «حزيران» 1967.
ولكن هل كان بوسع الفتى السوري جمال سليمان، المُسمى تيمنًا بالزعيم العربي الراحل، أن يتخيل بأن أقداره الفنية ستقوده لأن يتجاوز تقمص الاسم لتقمص المسمى في إحدى روائعه التلفزيونية؟
في رمضان 2014 كان مسلسل «صديق العمر»، الذي قدمه للشاشة العربية المخرج المصري ذو الأصل الفلسطيني عثمان أبو لبن واشترك في كتابته كلٌ من محمود الليثي ومحمد ناير، الحدث الأهم على الساحة الدرامية في مصر، فقد تجاوز اللغط حوله الصفحات الفنية ليتفشى بين الأوساط السياسية والثقافية التي لا تزال مسكونة حتى اليوم بآثار الحقبة الناصرية في مصر وسوريا.
أما الفنان السوري جمال سليمان، الذي طالما عرفناه شغوفًا بالأدوار المصرية، فقد تمكن بجدارة من استيعاب شخصية جمال عبدالناصر (بالرغم من اعترافه في لقاء تلفزيوني بأن اللهجة قد خانته في بعض الأحيان) الشخصية التي لم يقاربها دراميًا من قبل سوى الفنان المصري الراحل أحمد زكي في فيلم «ناصر 56».
وكما فعل مع «صقر قريش» كان جمال سليمان حريصًا على إنزال الشخصية التاريخية من برواز صورتها السياسية، الجمعية والغالبة، إلى أرض التناقضات الإنسانية والصدام المحتدم بين الخير والشر في داخل النفس البشرية لوحدها قبل تعرضها للآخرين، وذلك بجرأة ضرورية تجعل من الحوار الفني مع أكثر المراحل والشخصيات العامة جدلًا في التجربة العربية حالة صحية وطبيعية. غير أنه -وكما هو متوقع- لم ينجُ الفنان ولا فنه من النقد السياسي أو لنقُل الآراء الفنية المؤدلجة، فلا تزال بقايا تلك المرحلة عالقة بأسماء العديد من الشخصيات الحية والعائلات السياسية المعروفة في مصر، وعلى رأسها عائلة عبدالناصر وعائلة المشير الذي قدمه للجمهور العربي الفنان المصري باسم سمرة، في حين لعبت الفنانة التونسية درة الدور المثير لشخصية برلنتي عبدالحميد (نفسية) الزوجة السرية للمشير، والتي كانت حتى وفاتها شخصية محورية في السيرة الغامضة التي تركها عبدالحكيم عامر مفتوحة للتأويل، بعد أن تكللت بموت أكثر غموضًا يعيد طرح التساؤل حول ملابسات الواقعة: أكان انتحارًا كما أعلنته جريدة الأهرام صبيحة السبت ١٦ سبتمبر ١٩٦٧، أي بعد ثلاثة أشهر من هزيمة «حزيران»، أم اغتيالا؟
عاد مسلسل «صديق العمر» لطرح العديد من ملفات تلك الحقبة المريبة من تاريخ مصر على طاولة الجدل من جديد، من غير أن يتبنى راوية صريحة وواضحة لطبيعة نهاية «الرجل الثاني» التي طواها النسيان في معجنة من الأتراح والأفراح التي شهدتها الحياة المصرية العامة بعد الهزيمة المريرة وتلاشت في أعراس انتصار أكتوبر عام ١٩٧٣.
وبصرف النظر عن الشكوك التي تحوم حول الإجابة الرسمية عن السؤال الشعبي السابق عن ملابسات موت المشير، كان من الواضح أن هزيمة الأمة الكبرى التي حدثت في «حزيران» هي هزيمة شخصية في قلب ذلك الرجل الصعيدي، الذي خرج من قرية أسطال في عمق الصعيد المصري ليخوض مكائد السياسة ودسائسها بزيه العسكري (يُذكر أن المشير كان الرجل الوحيد من بين الضباط الأحرار الذي لم يخلع بذلته العسكرية بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢). وما تستطيع الدراما أن تطوره لدى المتلقي هنا هو تمرين الوعي على قراءة الهزيمة من خلال شخصية من لحم ودم تصرخ قهرًا في البيت الذي يتحول فجأة إلى مقر إقامتها الجبرية، أي عمليًا إلى سجن، مطالبة بمحاكمة علنية وعادلة، لكن الحكَم في هذه الحالة -وقد فات الأوان- لن يكون مجلس قيادة الثورة أو القضاء العسكري أو حتى الصديق الخصم (جمال عبدالناصر) بل هو المتفرج الذي سيختطفه السياق التاريخي للأحداث من لحظته الراهنة ليتحول من مشاهد إلى شاهد مسؤول تطالبه طبيعة العمل الدرامي بتحييد الحالة الإنسانية التي يجسدها باسم سمرة عن الشخصية العامة المتداولة في الجرائد وإذاعة صوت العرب، تصريحًا أو تلميحًا، بوصفها المتسببة في هزيمة الأمة نتيجة لقراراتها العشوائية، كما جاء في الأهرام عقب إعفائه من جميع مناصبه ووضعه قيد الإقامة الجبرية بسبب «التصرفات الارتجالية غير المدروسة لقيادته ثم انهياره، مما أدى إلى التخبط في إصدار قرار الانسحاب الكيفي من سيناء، الذي أدى إلى الهزيمة».
لقد خرجت هذه الصداقة مضطربة من مختبر السلطة في أزمات كثيرة، وبلغت ذروة اضطرابها خلال أزمة الانفصال عن سوريا، حيث ارتبكت الثقة بين الصديقين فارتبك لها جهاز الدولة. اصطدمت بجدار التاريخ المُصمت في أكثر من مناسبة حرجة فتراجعت لأن «العُمودية» شيء والسياسة شيء آخر، ولأن الصداقة شيء والدولة شيء آخر... و«المُلك عقيم» كما قال هارون الرشيد لولده المأمون!
ففي نوفمبر من عام ١٩٥٩، العام الذي شهدت فيه العائلة الدمشقية ولادة الطفل جمال، لم تكن قد مرت سوى أشهر قليلة فقط على إعلان الوحدة بين مصر وسوريا واختيار جمال عبدالناصر ليصبح رئيسًا لـ«الجمهورية العربية المتحدة»، ولكن قرارات الإصلاح الزراعي والتأميم الجديدة لم تكد تأخذ مسارها في الإقليم الشمالي من الجمهورية الوليدة سبتمبر من عام ١٩٦١ حتى تمكن ضباط سوريون ناقمون على حكومة الوحدة، يقودهم العقيد عبدالكريم النحلاوي، من الإطاحة بالمشير عبدالحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، وذلك بعد محاصرة مكتبه في دمشق.
عاد المشير إلى القاهرة، إلى شماتة الرفاق الألداء في مجلس قيادة الثورة، بفشل جديد في استيعاب الموقف بسبب شخصيته «الارتجالية» التي تزاوج بين صرامة المزاج والفوضى.
وهكذا انتهت حكاية الوحدة القصيرة بين الإقليم الشمالي (سوريا) والإقليم الجنوبي (مصر)، ليبدأ معها الفصل المأساوي والأخير من حكاية الصداقة والسلطة بين جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، الرجلين اللذين دارت عليهما كواكب الزمن العربي ومجراته للدخول معًا في مغارة السلطة والخروج على حِدة بالنهاية الوخيمة لحلم الوحدة العربية الذي بدت ملامح غروبه منذ اليوم الأول لحرب الأيام الستة، الخامس من يونيو «حزيران» 1967.
ولكن هل كان بوسع الفتى السوري جمال سليمان، المُسمى تيمنًا بالزعيم العربي الراحل، أن يتخيل بأن أقداره الفنية ستقوده لأن يتجاوز تقمص الاسم لتقمص المسمى في إحدى روائعه التلفزيونية؟
في رمضان 2014 كان مسلسل «صديق العمر»، الذي قدمه للشاشة العربية المخرج المصري ذو الأصل الفلسطيني عثمان أبو لبن واشترك في كتابته كلٌ من محمود الليثي ومحمد ناير، الحدث الأهم على الساحة الدرامية في مصر، فقد تجاوز اللغط حوله الصفحات الفنية ليتفشى بين الأوساط السياسية والثقافية التي لا تزال مسكونة حتى اليوم بآثار الحقبة الناصرية في مصر وسوريا.
أما الفنان السوري جمال سليمان، الذي طالما عرفناه شغوفًا بالأدوار المصرية، فقد تمكن بجدارة من استيعاب شخصية جمال عبدالناصر (بالرغم من اعترافه في لقاء تلفزيوني بأن اللهجة قد خانته في بعض الأحيان) الشخصية التي لم يقاربها دراميًا من قبل سوى الفنان المصري الراحل أحمد زكي في فيلم «ناصر 56».
وكما فعل مع «صقر قريش» كان جمال سليمان حريصًا على إنزال الشخصية التاريخية من برواز صورتها السياسية، الجمعية والغالبة، إلى أرض التناقضات الإنسانية والصدام المحتدم بين الخير والشر في داخل النفس البشرية لوحدها قبل تعرضها للآخرين، وذلك بجرأة ضرورية تجعل من الحوار الفني مع أكثر المراحل والشخصيات العامة جدلًا في التجربة العربية حالة صحية وطبيعية. غير أنه -وكما هو متوقع- لم ينجُ الفنان ولا فنه من النقد السياسي أو لنقُل الآراء الفنية المؤدلجة، فلا تزال بقايا تلك المرحلة عالقة بأسماء العديد من الشخصيات الحية والعائلات السياسية المعروفة في مصر، وعلى رأسها عائلة عبدالناصر وعائلة المشير الذي قدمه للجمهور العربي الفنان المصري باسم سمرة، في حين لعبت الفنانة التونسية درة الدور المثير لشخصية برلنتي عبدالحميد (نفسية) الزوجة السرية للمشير، والتي كانت حتى وفاتها شخصية محورية في السيرة الغامضة التي تركها عبدالحكيم عامر مفتوحة للتأويل، بعد أن تكللت بموت أكثر غموضًا يعيد طرح التساؤل حول ملابسات الواقعة: أكان انتحارًا كما أعلنته جريدة الأهرام صبيحة السبت ١٦ سبتمبر ١٩٦٧، أي بعد ثلاثة أشهر من هزيمة «حزيران»، أم اغتيالا؟
عاد مسلسل «صديق العمر» لطرح العديد من ملفات تلك الحقبة المريبة من تاريخ مصر على طاولة الجدل من جديد، من غير أن يتبنى راوية صريحة وواضحة لطبيعة نهاية «الرجل الثاني» التي طواها النسيان في معجنة من الأتراح والأفراح التي شهدتها الحياة المصرية العامة بعد الهزيمة المريرة وتلاشت في أعراس انتصار أكتوبر عام ١٩٧٣.
وبصرف النظر عن الشكوك التي تحوم حول الإجابة الرسمية عن السؤال الشعبي السابق عن ملابسات موت المشير، كان من الواضح أن هزيمة الأمة الكبرى التي حدثت في «حزيران» هي هزيمة شخصية في قلب ذلك الرجل الصعيدي، الذي خرج من قرية أسطال في عمق الصعيد المصري ليخوض مكائد السياسة ودسائسها بزيه العسكري (يُذكر أن المشير كان الرجل الوحيد من بين الضباط الأحرار الذي لم يخلع بذلته العسكرية بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢). وما تستطيع الدراما أن تطوره لدى المتلقي هنا هو تمرين الوعي على قراءة الهزيمة من خلال شخصية من لحم ودم تصرخ قهرًا في البيت الذي يتحول فجأة إلى مقر إقامتها الجبرية، أي عمليًا إلى سجن، مطالبة بمحاكمة علنية وعادلة، لكن الحكَم في هذه الحالة -وقد فات الأوان- لن يكون مجلس قيادة الثورة أو القضاء العسكري أو حتى الصديق الخصم (جمال عبدالناصر) بل هو المتفرج الذي سيختطفه السياق التاريخي للأحداث من لحظته الراهنة ليتحول من مشاهد إلى شاهد مسؤول تطالبه طبيعة العمل الدرامي بتحييد الحالة الإنسانية التي يجسدها باسم سمرة عن الشخصية العامة المتداولة في الجرائد وإذاعة صوت العرب، تصريحًا أو تلميحًا، بوصفها المتسببة في هزيمة الأمة نتيجة لقراراتها العشوائية، كما جاء في الأهرام عقب إعفائه من جميع مناصبه ووضعه قيد الإقامة الجبرية بسبب «التصرفات الارتجالية غير المدروسة لقيادته ثم انهياره، مما أدى إلى التخبط في إصدار قرار الانسحاب الكيفي من سيناء، الذي أدى إلى الهزيمة».
لقد خرجت هذه الصداقة مضطربة من مختبر السلطة في أزمات كثيرة، وبلغت ذروة اضطرابها خلال أزمة الانفصال عن سوريا، حيث ارتبكت الثقة بين الصديقين فارتبك لها جهاز الدولة. اصطدمت بجدار التاريخ المُصمت في أكثر من مناسبة حرجة فتراجعت لأن «العُمودية» شيء والسياسة شيء آخر، ولأن الصداقة شيء والدولة شيء آخر... و«المُلك عقيم» كما قال هارون الرشيد لولده المأمون!