إذا كانت التنمية المستدامة تستند إلى المعرفة التكنولوجية والتقنيات الحديثة، فلا أحد ينكر أن الثقافة أثبتت في وقتنا الراهن الدور المهم والحيوي في أن تكون ضمن أهم مكونات ومحفزات القيمة المضافة ومن ثم التنمية المستدامة.

لا شك أن الاتجاهات، والقيم، والمعتقدات التي يشار إليها أحيانًا مجتمعة بمصطلح الثقافة، التي تلعب دورا مهما للسلوك الإنساني في صنع التقدم. ذلك أمر لا ينكره أحد، إلا إن فهم تفسير هذا الدور في إطار يشمل عوامل ومؤثرات أخرى مع عزل تأثير دور المنظومة الثقافية يمثل تحديا كبيرا.

فالثقافة هي واجهة الأمم وهويتها، ومن دعائم بنيانها وعوامل نهضتها، فلكل مجتمع ثقافته التي تميّزه، ولكل ثقافة خصائصها ومقوماتها، ولا يمكن للتنمية المستدامة أن تنفصل عن التناغم والانسجام مع المنظومة الثقافية لشعوب منطقة ما. وعليه، فمن غير المتصور أن يكون هناك رفض كامل لدور الثقافة وتأثيرها على السلوك الإنساني نحو تعظيم القيمة المضافة والتقدم في آفاق التنمية المستدامة، كأحد العوامل المهمة ضمن عوامل عديدة مؤثرة في عملية التنمية المستدامة في الدول النامية ومن بينها الدول العربية، لذلك بات من الضروري بذل المزيد من الجهد نحو الوصول إلى فهم أعمق للجوانب الإيجابية والسلبية في ثقافة شعوب تلك الدول وإمكانية جعلها منظومة مولدة لقيمة مضافة معززة لأفاق النمو وتحقيق التنمية المستدامة.

نستعرض في هذه المقالة العلاقة الوثيقة بين المنظومة الثقافية والتنمية المستدامة من خلال إبراز مساهمة تلك المنظومة في تعظيم القيمة المضافة ثم قدرة الاقتصاد الوطني على تحقيق التنمية المستدامة مع الإشارة لأهم الأدبيات التي حاولت إيجاد تفسير لقضية التخلف في الدول النامية وكذلك الدول العربية عن ركب النهوض والتنمية وتحقيق طموحات شعوبها.

إن تحقق استدامة التنمية في أي دولة، التي تعد الثقافة مكونا أساسيا من مكوناتها، لن يكتب لها النجاح بدون دمج عناصرها الإبداعية في كل جانب من جوانب اقتصادها وتحقيق مستوى قوي من التفاعل بين مكونات المنظومة الثقافية المحلية بشكل مرن ومزج بعض عناصرها بما يكملها من عناصر المنظومة الثقافية العالمية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية. لقد ساهم الدور المهم الذي تلعبه الثقافة في إيجاد قيمة مضافة وتعزيز النمو المستدام في اقتصادات عديدة من الدول النامية حول العالم؛ مثل دول جنوب شرق آسيا والصين والبرازيل وجنوب أفريقيا ودول خليجية حققت قدرا كبيرا ومتميزا في النهوض باقتصاداتها وترسيخ مكانتها بين دول العالم. لقد أصبح هناك توجه عالمي نحو توظيف الثقافة أو ما يطلق عليه تطوير صناعة الثقافة لتكون مصدرا مهما في تعظيم القيمة المضافة وإعطاء مزيد من الزخم نحو تحقيق التنمية المستدامة. في هذا الخصوص، تجدر الإشارة إلى أن دولنا العربية بما تمتلكه من تراث عريق وأصول ثقافية ثرية يمكن تشكيلها لتكون رافدا مهما من روافد لزيادة القيمة المضافة وتنويع القاعدة الإنتاجية ومحفزا للتنمية المستدامة. واستنادا إلى هذا التراث الثقافي، وانسجاما مع الأهداف الأممية للتنمية المستدامة يتعين على صناع القرار بدولنا العربية أن يعملوا على تحديث وتفعيل دور المنظومة الثقافية بشتى أشكالها وفق خطط علمية مدروسة في كيفية استثمار وتوظيف تلك الأصول الثقافية نحو تعظيم مساهمتها في إجمالي القيمة المضافة أي الناتج المحلي الإجمالي لتسريع معدلات النمو المستدام.

إن تحقيق ذلك، يتطلب اتباع أجندة وطنية تهدف إلى دعم وتطوير قاعدة قوية لنمو تلك الصناعة التي تتضمن مفردات عديدة منها ما هو ملموس كالأصول الثقافية ومنها ما هو معنوي وغير ملموس كمنظومة القيمية التي تتضمن المعتقدات والتقاليد والعادات والتراث والإبداع والفنون والعلاقات الإنسانية، شرط أن تحتل مفردات تلك المنظومة مكانة مهمة في أذهان العاملين في جميع القطاعات الاقتصادية.

لا شك في أن المنظومة الثقافية، بما تحتويه من مجموعة القيم والمعتقدات، تلعب دورا مهما في توجيه السلوك الإنساني، وعلى وجه الخصوص في عملية التنمية المستدامة لها. كما أنها، ضمن عوامل أخرى، مسؤولة عن حالة الضعف والوهن الاقتصادي في كثير من الدول النامية ومن بينها الدول العربية رغم امتلاك الأخيرة إرثا حضاريا وثقافيا عريقا. هذه الفجوة التنموية والجمود السلوكي في عديد من الدول العربية إنما يعزى إلى ما أصاب الفكر والثقافة العربية من انفصام بين جوهر الفكر والثقافة العربية وبين الالتزام الإنساني لشعوب تلك الدول بتطبيقها، حتى أصبح البون شاسعا بين السلوك الثقافي الرشيد وبين التطبيق المشوه، وهو ما أفقد المنظومة الثقافية والتراثية قدرتها الدافعة نحو محو ذلك الحشو الثقافي والأفكار البالية وتلك الأفكار الثقافية غير المجدية التي ترسخت في العقول عبر الزمن بالإضافة إلى الانتقاء الخاطئ لبعض المحتويات الثقافية الواردة إلينا من الخارج. لقد أصبح من الضروري تصفية ذلك الحشو الثقافي من شوائب الضعف ومظاهر الجمود التي ترسبت عبر القرون كخطوة أولى على أن يعقبها عملية إعادة صياغة وهيكلة المنظومة الثقافية في ثوب جديد لتصبح قوة دافعة للإنسان العربي نحو طريق التنمية المستدامة وإبراز الملامح الأصيلة لحضارته.

لذا، يكون من الضروري استمرار حرص كل دولة عربية على إحياء تراثها الثقافي المحفز على الابتكار والإبداع، ودمج الثقافة في المناهج التعليمية لتنشئة أجيال تعي أهمية الثقافة ودورها في خلق قيمة مضافة لتعزيز معدلات نمو مستدام والمولدة لمزيد من فرص العمل في كافة المجالات دون تمييز من خلال إحياء المهن والحرف التقليدية؛ فضلاً عن تأهيل بنية تحتية ثقافية جاذبة للمبدعين ورواد الأعمال والمستثمرين في القطاعات الإبداعية سواء من الداخل أو من جميع أنحاء العالم، وإيجاد بيئة إبداعية مبتكرة تراعي التنوع الثقافي الذي يتميز به النسيج الاجتماعي.

لقد أضحت صناعة الثقافة والفنون تحظى باهتمام كبير في الفترة الراهنة بين صناع القرار في كثير من الدول العربية الساعية نحو آفاق مستقبلية تتنامى فيها الأبعاد التنموية لتلك الصناعة الثقافية والإبداعية، وتزداد يوما بعد يوم مكانتها الرفيعة مع تزايد دور الثقافة الإبداعية كقوة دافعة في تعزيز ديناميكية تفاعلها مع كافة الجوانب الاقتصادية، إن مواصلة تلك الجهود الوطنية نحو استثمار قوة الثقافة في تنوير العقول ومد جسور الحوار بين الثقافات، وتنمية الاقتصاد الإبداعي سوف تثمر في المستقبل القريب في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وفق رؤية أممية في ٢٠٣٠.

إذا كانت صناعة الثقافة بهذه الأهمية في تعظيم القيمة المضافة ثم معدلات النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي وتحقيق التنمية المستدامة، يكون من المفيد أن نستعرض فيما يلي التطور التاريخي لهذا الدور المهم في الأدبيات الثقافية.

جاءت كتابات ماكس ويبر وتلامذته في نهاية الخمسينات لتفسر سر صعود الرأسمالية كظاهرة ثقافية تمتد جذورها إلى الدين. حيث يعتبر ماكس ويبر من أوائل علماء الاجتماع الغربيين الذين أثاروا تساؤلات عديدة حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد. وانتهى إلى أن الرأسمالية الأوروبية استندت في قيامها إلى مجموعة متميزة من المؤسسات ومجموعة خاصة من القيم الثقافية. وفي أدبيات لاحقة أشار إلى أن كلا من الهند والصين، لم تكن لديها منظومات ثقافية ومؤسسية تساعدها على نمو رأسمالية عقلانية ورشيدة.

ثم برز في منتصف الثمانينات اهتمام كبير بدور الثقافة كعامل مهم لتفسير ظاهرة التخلف عن ركب التقدم الاقتصادي، بعدما نشر لورانس هاريسون كتابه الشهير بعنوان «التخلف حالة عقلية» «Underdevelopment is State of Mind» أي أنها قضية تتصل بالمنظومة الثقافية؛ التي تضم الأصول الثقافية ومجموعة القيم والمعتقدات والتوجهات والعادات والتقاليد والمواقف والعلاقات الإنسانية المكونة لثقافة الشعوب، لقد خلص الكاتب إلى هذه النتيجة من واقع التجربة الثقافية والتنموية التي كانت سائدة بين شعوب دول أمريكا اللاتينية، فمنذ ذلك الوقت، تناولت أدبيات عديدة أهمية العامل الثقافي في تمكين الدول النامية من الافتكاك من مصيدة التخلف والفقر والعبور إلى آفاق التنمية المستدامة. لقد أثارت أفكار هاريسون جدلا واسعا وساهمت في بعث الاهتمام بموضوع الثقافة وكيف يمكن أن تشكل قيمة مضافة في طريق التنمية المستدامة لدول العالم النامي.

استمر الاهتمام المتزايد بهذه القضية مع بداية الألفية الثالثة، وكان ما قامت به جامعة هارفرد في هذا الخصوص نقطة محورية عندما عقدت ندوة بعنوان «القيم الثقافية والتقدم الإنساني» لبحث العلاقة بين الثقافة والتنمية بالأخص في الدول الفقيرة، شارك في هذه الندوة كل من لورانس هاريسون وهنتنجتون (٢٠٠٠) Harrison and Huntington صاحب كتاب صراع الحضارات، حيث قاما بتحرير كتاب بعنوان «الثقافة مهمة: كيف تشكل القيم التقدم».

لقد عاد كثير من علماء الاجتماع في السنين الأخيرة إلى إحياء أهمية العوامل الثقافية لتفسير عدد من الظواهر الإنسانية بما في ذلك التنمية الاقتصادية. وأكدوا أن ظاهرة العولمة نفسها ستظل عاملا مؤثرا على التنافس والتنمية الاقتصادية، وخلصوا على العكس من ذلك بأن العولمة ستضمن تسريعا للانتقال والمزج الثقافي الذي من شأنه تأكيد التقارب في الثقافة بشكل يسهل على البلاد المختلفة تجاوز العقبات ونواحي الضعف التي تتصل بالثقافات المحلية أو التي تفرضها العوامل الجغرافية.

لا شك أن التوجه نحو الاهتمام بدور الثقافة، كعامل أساسي يؤثر على التنمية المستدامة في الدول العربية العالم هو توجه صحيح وجدير بالتشجيع. ولا نظن أن هناك خلافا كبيرا حول أهمية هذا الدور في النهوض بمعدلات التنمية فيها. وربما تكون هذه الأهمية أكثر وضوحا في هذه المنطقة عن غيرها من مناطق العالم فليس من الممكن مثلا إرجاع الجمود والتخلف عن ركاب التقدم إلى عوائق الجغرافيا والمناخ. فهي منطقة معتدلة المناخ، غنية بسواحلها الممتدة وانفتاحها على الخارج. ومن الصعب أيضا أن نرجع تخلف المنطقة إلى عوامل اقتصادية بحتة، كقلة توفر الثروات الطبيعية، أو ندرة رأس المال مثلا. كما أنه من غير المقبول إرجاع هذا الجمود إلى المعتقدات الدينية، أو إلى شعوب المنطقة العربية كأمة أو أصول عرقية، فلقد شهدت المنطقة العربية نهضة تنموية وتقدما علميا كانت أساسا لحضارة إنسانية ثرية بالإنجازات أنارت العالم في ظلام في القرون الوسطى. لقد كانت القيم الثقافية غنية وداعمة لقيمة العمل، وتقدير قيمة الوقت، والادخار، والاستثمار والتعاون والتكافل وغير ذلك من القيم الثقافية. فهي قيم لها مكانتها الرفيعة في الثقافة العربية، ولها مكانتها المرموقة في تجاربها التاريخية الناجحة.

لقد آن الأوان، لبذل مزيد من الجهد نحو مراجعة وتحديث عناصر ومكونات المنظومة الثقافية العربية والالتزام بتطبيقها بحيث تعيد للثقافة حيويتها فتصبح قوة دافعة وقيمة مضافة اقتصادية. إن هذا مشروع ليس بالمشروع الهين الذي يمكن الاستخفاف به، أو الاستغناء عنه، فهو يحتاج إلى كثير من اليقظة والصبر والإصرار وتضافر الجهود.

لا شك أن المنظومة الثقافية بمفهومها الواسع يمكن النظر إليها على كونها صناعة مهمة قادرة على خلق قيمة مضافة ذاتية أو أن تسهم على تحفيز قطاعات النشاط الاقتصادي المتنوعة على تعظيم قيمها المضافة ومن ثم معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي وزيادة قدرة الاقتصاد على إيجاد مزيد من فرص العمل.

وفيما يلي عدد من الأمثلة على كيف تستطيع المنظومة الثقافية المساهمة في تعظيم العائد التنموي وإيجاد مزيد من فرص العمل ثم تحسين الأوضاع المعيشية لشعوب المنطقة العربية:

أولا: هناك أصول وأنماط ثقافية يجب الحفاظ عليها والعمل على إبرازها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- فالأصول الثقافية المادية (الأثرية والتراثية) التي تملكها عدد من الدول العربية مثل مصر وسوريا والعراق والأردن والمملكة العربية السعودية واليمن وسلطنة عُمان وغيرها، تعد مكونا مهما من مكونات تصدير الخدمة كقيمة مضافة للقادمين إليها من السائحين بحيث تكون رافدا من الروافد المهمة للنقد الأجنبي وخلق مزيد من فرص العمل وتضييق العجز في حسابها الجاري في موازين مدفوعاتها وبالتالي تعزيز أسعار صرف عملاتها.

2- كذلك تتميز ثقافة شعوب كثير من البلدان المنطقة العربية بالسماحة وكرم الضيافة والبساطة وحب التواصل مع الآخرين كما هو الحال في مصر والمغرب وسوريا ولبنان وغيرها، هذه السمة يمكن استثمارها في تعظيم القيمة المضافة في قطاع السياحة وكذلك تعزيز معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر والتبادل التجاري.

ثانيا: هناك أنماط ثقافية تحتاج تغييرا وتحديثا مع تنقيتها من شوائب بعض العادات والتقاليد والفهم الخاطئ لثوابت ديننا الحنيف، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:

1- النظرة إلى المعاملات المصرفية التقليدية وتأثيراتها السلبية على قدرة المصارف على ابتكار منتجات وأدوات مالية تكنولوجية حديثة تلائم متطلبات العصر. وكذا تعزيز دور تلك المصارف في عملية التنمية وزيادة مساحة الشمول المالي والرقمنة وزيادة فاعلية السياسة النقدية في محاربة التضخم.

2- نشر ثقافة أن قيمة الإنسان تكمن في عمله وأن بواعثه أحرى بالعناية من غايته

3- تغيير نظرة المجتمع إلى المرأة لأنها تمثل نصف المجتمع والقوة الدافعة له وأنها شريك مهم في الحياة وفي النشاط الاقتصادي وأن ذلك ينبع من تعاليم السماء، لذا يجب عدم الأضرار بالتعدي على حقوقها بل وتمكينها في مزاولة النشاط الاقتصادي.

4-تنمية روح المخاطرة المحسوبة والتسلح بأساليب التحوط في مواجهة تلك المخاطر، وفي نفس السياق، العمل على تنمية البحث والتطوير وأيضا الإبداع والابتكار.

5- غرس فضيلة الانضباط السلوكي في المعاملات وكذا تنمية ثقافة الرشادة في الإنتاج والاستهلاك والإنتاج في ضوء القيود المادية المفروضة عليه.

فخري الدين الفقي رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري وأستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ومساعد مدير تنفيذي سابق بمجلس إدارة صندوق النقد الدولي بواشنطن.