كان يمكن لرواية دلشاد أن تستمر إلى ما لا نهاية، فتتناسل حكاياتها وشخوصها منقّلة دفّة الحكي من شخصية إلى أخرى، ناسجة خيوط الزمان والمكان في اقتفاء نهاية لا تأتي. ولأنها كذلك فقد آثرت بشرى خلفان أن تجعل نهايتها معلّقة على أمل (كتاب) آخر يكمل بناء ملحمة الجوع والشبع في مسقط بعدما نسجت منها ثلاثة أجيال حتى الآن، مبتدئة بدلشاد ومنتهية - من دون أن تنتهي - بحفيدته فريدة، الراغبة في اختيار مستقبلها وحياتها، والمقيّدة في الآن نفسه بالعهد وبأمّها مريم.

تقول بشرى خلفان في خاتمة روايتها في الصفحة 494 : «تم كتاب الجوع، يليه كتاب الشبع بإذن الله!». عبارة جعلت قرّاء الرواية معلّقين يترقبون جزءا ثانيا على سبيل الوعد، ولكن الوعد لا تقدمه روايات! وإن جاء خارجا عن لغتها، ملحقا بنصها لا جزءا منه. إنه ما بعد النص تحديدا، ونعرف أنه صوت المؤلفة هذه المرة لا صوت واحدة من شخصياتها. وعد صريح من بشرى إلى قراء تعرف أنهم يدركون أن الرواية بوسعها أن تتمدد أكثر طالما لم تصل إلى الحدث المرتقب، وتعرف كذلك أنها لم تقل كل شيء بعد، ولكن 494 صفحة عمل ضخم، لا تتسع دفتا كتاب لأكثر من ذلك وإن اتسعت له الحياة.

في فعالية «في أثر رواية دلشاد» التي نفذّتها مؤسسة بيت الزبير على مدى يومي 4 و 5 من ديسمبر 2021، سار المشاركون في أثر الأماكن التي سار فيها دلشاد ومريم في حارات «لوغان» و»الراوية» و»جبل أبي الشقص» و»ولجات» في مسقط، و»الشجيعية» و»حارة الشمال» و»العريانة» و»سور اللواتيا» و»السوق» في مطرح. ثم في اليوم الثاني استمعوا إلى حوار مع مؤلفة الرواية، فقلتُ لبشرى والحضور يومها: لا يوجد كتاب للشبع حتى يطالب به القراء بهذا الإلحاح والترقب، وكان السؤال قد تردد كثيرا عن موعد إصدار الجزء الثاني من الرواية، ما قد يشكل ضغطا على الكاتبة لإكمال ما تركته وعدا معلّقا لا تدري في أي أوان تستطيع الوفاء به. فهل ندمتْ بشرى على أن زجّت بهذا الوعد وهي تختم روايتها المفتوحة على الزمن والشخوص والاحتمالات لتتخلص ربما من لا نهائيتها؟

لقد بنيتُ افتراض عدم وجود كتاب ثانٍ لرواية دلشاد على اعتبارات ثلاثة يثبتها العمل نفسه: الأول أن صفحة الغلاف تثبت عنوانا فرعيا للرواية يصرّح بأنها «سيرة الجوع والشبع» معا، فنفهم أن الشبع مضمّن في سيرة الجوع ذاتها: نقرأ الجوع في أحوال البلاد والعباد حسب منطوق الرواية، ونستشعر الشبع في لحظتنا الراهنة ونحن نستعيد جوع مسقط في زمن مضى عبر جوع شخصياتها، وهي تحاكي أحداث النصف الأول من القرن الماضي بحروبه وأوضاعه الاقتصادية والتدخلات الأجنبية. أما الاعتبار الثاني فهو: إذا كان يسيرا على الكاتب أن يكتب عن الألم والحزن والجوع والفقد، وهي كلها عوامل مغذية للكتابة والإبداع الذي يولد من رحم المعاناة، فليس الشبع والفرح والهناء كذلك! أما الاعتبار الثالث والأهم: يعلم القارئ أنه قرأ رواية من نسج خيال كاتبتها طوال 494 صفحة مضت، قرأ كذبا متفقا عليه بين الطرفين، وتواطأ على تصديقه، ويعرف بدءا أن ما حدث لم يحدث إلا في مخيلة الكاتب/ الكاتبة، وحدث بعد ذلك في مخيلته هو (وفقا للتصدير) - وإن كان للنص مرجعيته الواقعية والتاريخية - فهل سيأتي في الختام ليصدّق العبارة الأخيرة؟ ومن ذا يصدّق الروائيين؟

سقتُ هذه الاعتبارات، وأعلم أن بشرى خلفان قد تنسفها جميعا وتصدر الجزء الثاني فعلا، والحق أني سأكون سعيدة إذا حدث هذا، ولكن فعل التخلي عن النص بمجرد دفعه إلى النشر كما يتحدث الكتّاب عن نصوصهم - «أتخلص من الرواية ولا أنهيها» كما تقول جوخة الحارثي - لم يحدث في رواية دلشاد، وإنما هو تعلّق ممتد، مشروع ما زال قيد الإنجاز، وقابل للاستئناف كما هو قابل للتوقف بنحو ما بيّنت في الاعتبارات الثلاثة الآنفة.

متلازمة الجوع والشبع:

يعكس الجوع والشبع أوضاعا اقتصادية بالدرجة الأساس، فهما الترجمة الأشد وطأة عندما يصبح الاقتصاد بين حدّين: سيئ، وسيئ أكثر، وما عداهما يمكن أن تعكسه أشكال أخرى من الحرمان أخف وطأة طالما وجد المرء ما يقيم به صلبه، فلا يهم إن قصُرت لديه خيارات الملبس أو المأوى. أما وأنه لا يجد ما يدخله في جوفه لأيام ويتسلى ببعض جرعات من الماء لنهار كامل، لهو أوضح تعبير عن وضع اقتصادي طال مجتمع الرواية متجاوزا خط الصفر، وقبله مجتمع مسقط وعمان في الفترة الزمنية التي تحاكيها الرواية. فكيف صوّرت الرواية الجوع فنيا؟

يأتي الجوع في الرواية بأشكال عدّة، أجلاها الجوع إلى الطعام والشراب، وأعمقها الجوع إلى الأمان، وما بين هذين هناك جوع إلى الحب، وجوع إلى الأهل، وجوع إلى السفر، وجوع إلى الولد، وجوع إلى النساء، وجوع إلى العِلم، وجوع إلى الفرح. فراغ كبير يستوطن جوف الإنسان: بطنه، قلبه، روحه، عقله، نفسه. ما إن يشبع من جوع منها حتى يداهمه جوع آخر، في متوالية من الجوع والشبع يحضر أحدهما في شيء ويغيب الآخر ليطل برأسه في موضع جديد. يقول دلشاد: «كنت قد بدأت أشبع وأنا آكل مع البحارة، أما الأكل مع الشيخ وابنه فقد أعادني إلى الجوع، ولكن ليس ذلك الجوع الذي ينهش البطن، بل الجوع الذي يأكل القلب» (ص122)

وفي ملاحظة عبّرت عنها الكاتبة سارة المسعودي في الحوار مع بشرى خلفان آنف الذكر، تقول: «الرواية طبّعت الجوع، وجعلته الحالة الطبيعية التي لا تستدعي الرفض أو النظر إليه بصفته شيئا غير مستحق وينبغي تصحيحه، وإنما كان طوال الوقت هو الشيء الطبيعي والبدهي». وأتذكر جواب بشرى إذ قالت: «الجوع في زمن الرواية كان سائدا حتى اعتاده الناس، فهم ما بين جوع شديد أو جوع أقل، ولم يكن هناك مكان للشبع»، إلا لمن كان حظه وافرا، ونال نصيبا من حياة الأغنياء. ولكن حتى في هذه الحال، كان هناك جوع على الدوام، الجوع الذي يبدل أحواله، ويغيّر مادته وموضوعه، تقول مريم دلشاد: «أحدث الشبع جوعا آخر، جوعا لا أستطيع فهمه، وبقي الخواء على حاله، كاملا ومستديرا وفارغا، ولم يكن ليملأ مكانه إلا الجنين في بطني، والآن وما إن خرجت الطفلة من رحمي حتى امتلأت بالخواء ثانية، الخواء الذي لا يملؤه إلا حضور أبي أو الجوع» (ص219).

ليس الجوع في رواية دلشاد شأن الفقراء وحدهم، ولكنه جوع عام بالمعنى الاقتصادي السائد الذي يتقلب فيه الغني في النعيم من جهة، وفي قلبه خوف من جوع قادم تحمله الحرب من جهة أخرى، فهم ما بين جوع أو خوف من الجوع. أما أشكاله الأخرى فقد تقسّمت بينهم جميعا كذلك، فكما تقسّم الأرزاق كان للجوع قسمته التي لا يعلم حكمتها إلا الله وحده.

وإذا كان دلشاد وامتداداته البيولوجية المتمثلة في ابنته مريم، وحفيدته فريدة، تجسيدا لأشكال الجوع المختلفة إذا ما نظرنا إليهم كمتوالية خطية في الزمن، فنجد تغيّرا تدريجيا في مقاومتهم له عبر الضحك، فدلشاد ينفجر بضحكات صاخبة تسد جوع صاحبها إلى حين، أو حتى يلملم نفسه من ضحكِه ودموعه الطافرة من دون سبب غير سماعه صوت قرقرات معدته الفارغة، التي تتحول إلى كتلة من الهواء تصعد إلى رئته ويتقلب إثرها على حجر الوادي حتى يهدأ. ومريم أخذت من أبيها الضحك وراثةً، ولكنها صارت تطلقه سخرية مضمّرة من التناقض الذي وجدته بين فقر الحياة في حارة لوغان، والنعيم الذي عاشته في بيت لوماه، وإن بقيت لا تعرف له سببا كأبيها. وتضاءل الضحك عند فريدة التي عرفت النعيم ولم تعرف عن الجوع إلا في مشقة ما بعد وفاة أبيها، ولم تذقه بنحو صريح، فبقيت تطلق الضحك مجاراة لأمها فقط التي تعرف معنى الجوع أكثر منها.

تكشف لنا رواية دلشاد أوضاع عمان الاقتصادية في النصف الأول من القرن العشرين، وأحوال أسواق مسقط وما يأكل الناس وما يبيعون، وما يستوردون وما يصدّرون، فليست الحياة كما تصورها الرواية/ أي رواية إلا منطلقا لطبيعة العلاقات المبنية على عامل الاقتصاد بدرجة أو بأخرى. فهو الذي يرسم حياتهم الاجتماعية، وحياتهم الثقافية، ويبرز العلاقات بين بعضهم ومستوى معيشتهم وحتى لغتهم، وإن لم تدخل فيها لغة الأرقام وتعاملات التجار وأخبار سوق المال.

ولمّا كانت «دلشاد» تصوّر ذلك التمازج بين الأعراق المتعددة، فلأن مطرح ومسقط ما هما إلا فرضة وبندر كما تصفهما الرواية، وفيهما تجتمع الأضداد وتنصهر وتتعايش، وتأتلف بقدر ما تختلف. ولعل هذا يستحضر الملاحظة التي وُجهت للرواية بأن جميع شخصياتها كانت تستعير لسانا واحدا في سردها الذي اختارت له بشرى خلفان تقنية تعدد الأصوات، ولكنه تعدد في الأسماء والحكايات في حين بقيت اللغة واحدة، ولهذا ما يبرره إذا قسنا اختلاف الحكايات وتراوحها من شخصية إلى أخرى، وإن اتفقت أحيانا في سرد الحدث نفسه ولكن من زاوية أخرى.

منى السليمية كاتبة عمانية