«تصبح اللغة هزيلة إذا فقدت صلتها مع الصمت».
ماكس بيكارد
ربما علينا أولا أن نفتتح الكلام بالسؤال -ما أجمل الأسئلة عندما تشرق في أول الكلام، وأول الدرس، وأول الخطوات- لأنه عكاز المعرفة الأول، وحذاء الطفل نحو الحياة، وقبَّعة المتعلم، وقميص الباحث عن دروب الحكمة، ومصباح الفكرة والتفكّر، وسكين اللص، وسيف المهاجر، وريشة في عشّ الحكاية، وملح التأمل لدى الإنسان، وقلق الفيلسوف، ومنغّص حياة المستبد، والسطحي، والمُرتدي نظارة اليقينيات. وربما يكون السؤال أعمق من ذلك، فهو نافذة تطل على نهر الزمن والكتابة والحياة. والسؤال هو تجلي المعرفة في أرقى مراتبها وأصعبها. السؤال إبرة صغيرة في أول الطريق، طريق شاق في بداياته ونهاياته. نهاية مفتوحة دائما على لعبة محفوفة بالخسارات.
وقبل أن يتمدد الكلامُ، ويتدفق، ويتشعب، ويغيب المعنى في متاهة البداية، يجب أن نقف قليلا أو طويلا، في رأس الفقرة السابقة، كتبتُ «ربما علينا أولا...» ماذا لو فككنا خيوط اللغة ودلالاتها وعظامها وأخشابها ومفاصلها، «ربما» تعني عدم اليقين والتردد، والمغامرة في المعنى والمجاز والكتابة، وربما هي الرابية المرتابة والقلقة من كل شيء. «علينا» تشير إلى أن هناك مجموعة من البشر أو العقول أو الألسن، وهذا غير دقيق، ومخاتل للقارئ. ولذلك فإن مفردة «علينا» لها معنى خفي يدل على الأمر والاستعلاء واليقينية، أو النهي عن أمر ما. ماذا لو حذفنا «ربما علينا أولا» لا، لندخل حديقة المجاز ولا غابة البلاغة، بل لنقلل من ضجر القارئ، وتشوهات اللغة.
«أولا» تجعل عقلية المتلقي ونفسيته تنتظر ثانيا وثالثا، وهو الأمر المفقود أو المنسي في الفقرة الأولى. أليست الكتابة من مهماتها الخفيّة والعميقة محاربة النسيان، وبناء ذاكرة أخرى للإنسان؟ ذاكرة تتكوّن من أصوات وكلمات وصور، ما الذي دفع الإنسان الأول ليرسم أحلامه وخوفه في الصخر سوى قلقه من النسيان والغياب، أو بحثه البدائي عن معنى الخلود الأول. فتكوّنت الإشارة في البدء وفي عمق اللغة.
ما أريد قوله هنا، بأن اللغة هي مادة خام، ووسيلة للتفكير والحياة وتوصيل المعنى، ولكنها مُعقّدة ومطاطية ومخاتلة ومتماهية مع حال الزمن وتقلباته وشراسة معانيه، سابرة لحالة الإنسان وأحواله، وأحيانا وسيلة لتخديره. وأخطر الأشياء هي التي لا نلتفت إليها كاللغة والزمن والذكريات والحنين والحزن، تتوغل في روحك لتصبح كالغابات.
لذا تحتاج إلى الكثير من الحذر واليقظة والمكر والمحبة للتعامل مع تشعباتها ودلالاتها. والكثير من المهارة لتفجير طاقاتها الكامنة في التفاصيل، والمهارة لسحبها من اليومي والروتيني إلى شرفات الدهشة، من تلوث الشارع إلى صفاء الشاعر، ومن نرجسية الشاعر إلى بساطة الشارع، فاللغة وعاء المعنى وسلّم المخاتلة، وفلج الحكاية، وظلال المجاز في الكلام. يتجلى نقاء اللغة عندما يستطيع الكائن مزج مزاج اللغة اليومية والعادية بهواء الدهشة المكتنز في شرايينها.
*** *** ***
ما الذي يدفعنا إلى الكتابة؟ وأن ندفع كل جهدنا وتفكيرنا وقلقنا ووقتنا لهذه المدللة والمعذبة والعذبة التي تُدعى الكتابة؟ لا أسأل هنا عن جدوى الكتابة؟ لأن أجمل الأشياء وأنقاها لا نطلب منها جدوى أو ربحا أو فائدة، ولا حتى تلويحة للتحية، ولا للوداع، يكفي أن هذه الكتابة تمسك روحك وتطهرها من سخافة الحياة وقلقها، ومن دنس الأشياءِ، وأحيانا توسع هذه الكتابة هشاشة عاشقها ودائرة خذلاناته، ويكفي المرءُ أن تحميه الكتابة من بلادة الأشياء وضجرها، وتبلدها.
وبالعودة إلى السؤال الأول، ربما نحلل ونتفكّر ونتأمل هواجس هذه الكتابة، وعن جماليات فكرة أنك تطارد الكتابة وتطاردك، وتمنحها حياتك وقلقك وشغفك وأوهامك، خيباتك، فرحك الخفي والسطحي، أحلامك المؤجلة، ولكن كل ذلك لا يكفي، فالكتابة هي انعكاس لروح كاتبها وعاشقها، وليست صورة لحياة كاتبها. هذه المطاردة قد تستمر لسنوات وسنوات، لكي تفهم وتدرك سر الكتابة، وجدواها للكاتب وللإنسان أولا، وأن القلق المتراكم داخل الكائن المطارد للكتابة لا يكفي وحده للوصول لكبد الكتابة. وهل للكتابة كبد وقلب؟ (كل هذا من تهويمات وأوهام الكاتب). بالعودة إلى لفظة «المطاردة» ربما يحتاج إلى الكثير من التأني والتفكيك، فالمطاردة هي للصوص والغزاة، وهل الكتابة تشبههم؟ والمطاردة توحي إلى فعل السرعة والتسرع، وهذا يتناقض مع جوهر الكتابة؛ وهو التأمل وصيد التفاصيل الصغيرة ونحت اللغة. ماذا لو شبهنا الكتابة بالنّساج أو الخطاط، وهل تحتاج الكتابة إلى تشبيه لندرك معناها؟ ماذا لو كانت الكتابة بلا شبيه ولا قواعد ولا قوالب.
هذا الكائن المُسمى بالكتابة (وأقصد هنا الكتابة الإبداعية القائمة على المخيّلة والنحت والبحث والتجلي، الانكسار والتشظي والقلق، والذاهبة بعاشقها ومحبها إلى سهول العزلة وجبال الدهشة) تحتاج كذلك إلى صدق وصفاء وصبر وصلابة وأن تُخلص لها، وإلى روح متجددة ومتأملة ومتألمة، سابرة لتحولات الزمن والأشياء. كل هذا قبل أن يدرّب العاشق للكتابة ذهنه وأصابعه على أدوات وأساليب الكتابة، (هل هناك أساليب جامدة للكتابة؟ ما دام الزمن متحوّلا فالكتابة ترصد وتترصد تحوّلات الزمن)، فالكتابة تفضح روح كاتبها ومخيّلته ودوافعه، وربما أحيانا تتركه هكذا هائما في توهماته وتهويماته.
هل تحتاج الكتابة إلى الألم؟
وما نوع الألم الذي تحتاج له الكتابة؟ وما مقدار هذا الألم الذي تحتاجه الكتابة؟ وهل يتوغل هذا الألم إلى روح الكائن الكاتب والمتلقي؟ هل يفسد هذا الألم المختلط بالوعي حياة الكاتب أم إن مقدرته تجعله يفصل ما بين الحالة الحياتية المعاشة وحالة التجلي والكتابة والتخيل. أو ربما لديه مقدرة عالية في خلط الألمين بطريقة لا تُشعر المتلقي من صاحب الألم، الكاتب أم مخيلته؟ ماذا لو خلت النصوص من الألم؟
ماذا لو استبدلنا كلمة (الألم) بكلمة أخرى لا تجعل الكتابة تتوجس؟ ماذا لو قلنا الهاجس الكتابي الداخلي، أو شرارة الكتابة. أو تجارب يعيشها الكائن القادر على تحويل هذه التجارب المعاشة أو المتخيّلة إلى قوالب كتابية. وهل تحتاج الكتابة إلى قوالب وأجناس لنصب فيها المعاني والحكايات والصور والمشاعر؟ هل القوالب تفيد الناقد ليسهل عليه تشريح النصوص؟
*** *** ***
ماذا تفعل الكتابة بالكلام؟
يظن الكائن أنه بالكتابة يستطيع أن يجمّد الزمن والكائنات والأمكنة والحكايات في نصه، لكن الزمن لا يمكنك أن تمسكه بالحروف ولا أن تحاصره بالكلمات ولا أن تطعنه بالخيال، مهما توهمت ذلك، والكائنات وإن كانت جامدة في جوهرها فهي قادرة على الهروب من زمن الكاتب والكتابة إلى أزمنة أخرى.
الكتابة توسع خيارات الهروب والخيال على ورق أبيض سُرِقَ من غابات دول فقيرة، حتى الطاولة التي تكتب عليها تصرخ في وجهك، أنها تحن إلى أمها الغابة. والغابة المتخيلة أثناء الكتابة ليست هي الغابة الواقعية، لا تستطيع أيها المتوهم بالكتابة أن تنقل ظلال الغابة وروحها إلى الورق، وحتى لو نقلتها لن يصل جوهر الغابة وروحها إلى خيال القارئ. ماذا لو غصت في «البارون ساكن الأشجار» و«الأشجار واغتيال مرزوق» و«وعبر النهر ونحو الأشجار» هل ستشم روائح الغابة، وتسمع حفيف الأشجار؟
ـ لكل شيء استثناء.
ـ وهل الكتابة استثناء؟
ربما الكتابة هي الاستثناء الأجمل والأنقى في تاريخ الإنسان، رغم تلوثها أحيانا بطباع الإنسان، لكنني أظن وأتوهم وأعتقد -ولست متأكدا- بأن الكتابة أقرب بروحها ودمها إلى الطبيعة من الإنسان. وأعتقد جازما بأن الإنسان لوّث روح الكتابة. رغم تشبثه بها وتمجيده الدائم لها.
وهل أنت محايد في الحديث عن الكتابة؟ وأنت ممارس لها؟
أظن أن لفظة الحياد غير دقيقة؟ لا يوجد شيء اسمه حياد في الحياة، ولا في الكتابة. فكل شخص يدّعي بأنه حيادي فهو منحاز لشيء ما. منحاز لذاته لأفكاره ولقناعاته. ماذا لو حذفنا الأسئلة والضمائر من الكلام السابق، ماذا لو حوّلنا الضمائر من ضمير المفرد إلى الجمع، أو العكس؟ ماذا لو تحوّلت الأفعال المضارعة إلى ماضية، ماذا لو حذفنا الأفعال، وتركنا فكرة اللغة بلا حركة ولا حراك؟ هل ستتغيّر الفكرة أم تخمد؟
لنتوقف قليلا عن رص الكلمات والوهم والخذلان في هذه الحياة العابرة.
حمود الراشدي كاتب وقاص عماني
ماكس بيكارد
ربما علينا أولا أن نفتتح الكلام بالسؤال -ما أجمل الأسئلة عندما تشرق في أول الكلام، وأول الدرس، وأول الخطوات- لأنه عكاز المعرفة الأول، وحذاء الطفل نحو الحياة، وقبَّعة المتعلم، وقميص الباحث عن دروب الحكمة، ومصباح الفكرة والتفكّر، وسكين اللص، وسيف المهاجر، وريشة في عشّ الحكاية، وملح التأمل لدى الإنسان، وقلق الفيلسوف، ومنغّص حياة المستبد، والسطحي، والمُرتدي نظارة اليقينيات. وربما يكون السؤال أعمق من ذلك، فهو نافذة تطل على نهر الزمن والكتابة والحياة. والسؤال هو تجلي المعرفة في أرقى مراتبها وأصعبها. السؤال إبرة صغيرة في أول الطريق، طريق شاق في بداياته ونهاياته. نهاية مفتوحة دائما على لعبة محفوفة بالخسارات.
وقبل أن يتمدد الكلامُ، ويتدفق، ويتشعب، ويغيب المعنى في متاهة البداية، يجب أن نقف قليلا أو طويلا، في رأس الفقرة السابقة، كتبتُ «ربما علينا أولا...» ماذا لو فككنا خيوط اللغة ودلالاتها وعظامها وأخشابها ومفاصلها، «ربما» تعني عدم اليقين والتردد، والمغامرة في المعنى والمجاز والكتابة، وربما هي الرابية المرتابة والقلقة من كل شيء. «علينا» تشير إلى أن هناك مجموعة من البشر أو العقول أو الألسن، وهذا غير دقيق، ومخاتل للقارئ. ولذلك فإن مفردة «علينا» لها معنى خفي يدل على الأمر والاستعلاء واليقينية، أو النهي عن أمر ما. ماذا لو حذفنا «ربما علينا أولا» لا، لندخل حديقة المجاز ولا غابة البلاغة، بل لنقلل من ضجر القارئ، وتشوهات اللغة.
«أولا» تجعل عقلية المتلقي ونفسيته تنتظر ثانيا وثالثا، وهو الأمر المفقود أو المنسي في الفقرة الأولى. أليست الكتابة من مهماتها الخفيّة والعميقة محاربة النسيان، وبناء ذاكرة أخرى للإنسان؟ ذاكرة تتكوّن من أصوات وكلمات وصور، ما الذي دفع الإنسان الأول ليرسم أحلامه وخوفه في الصخر سوى قلقه من النسيان والغياب، أو بحثه البدائي عن معنى الخلود الأول. فتكوّنت الإشارة في البدء وفي عمق اللغة.
ما أريد قوله هنا، بأن اللغة هي مادة خام، ووسيلة للتفكير والحياة وتوصيل المعنى، ولكنها مُعقّدة ومطاطية ومخاتلة ومتماهية مع حال الزمن وتقلباته وشراسة معانيه، سابرة لحالة الإنسان وأحواله، وأحيانا وسيلة لتخديره. وأخطر الأشياء هي التي لا نلتفت إليها كاللغة والزمن والذكريات والحنين والحزن، تتوغل في روحك لتصبح كالغابات.
لذا تحتاج إلى الكثير من الحذر واليقظة والمكر والمحبة للتعامل مع تشعباتها ودلالاتها. والكثير من المهارة لتفجير طاقاتها الكامنة في التفاصيل، والمهارة لسحبها من اليومي والروتيني إلى شرفات الدهشة، من تلوث الشارع إلى صفاء الشاعر، ومن نرجسية الشاعر إلى بساطة الشارع، فاللغة وعاء المعنى وسلّم المخاتلة، وفلج الحكاية، وظلال المجاز في الكلام. يتجلى نقاء اللغة عندما يستطيع الكائن مزج مزاج اللغة اليومية والعادية بهواء الدهشة المكتنز في شرايينها.
*** *** ***
ما الذي يدفعنا إلى الكتابة؟ وأن ندفع كل جهدنا وتفكيرنا وقلقنا ووقتنا لهذه المدللة والمعذبة والعذبة التي تُدعى الكتابة؟ لا أسأل هنا عن جدوى الكتابة؟ لأن أجمل الأشياء وأنقاها لا نطلب منها جدوى أو ربحا أو فائدة، ولا حتى تلويحة للتحية، ولا للوداع، يكفي أن هذه الكتابة تمسك روحك وتطهرها من سخافة الحياة وقلقها، ومن دنس الأشياءِ، وأحيانا توسع هذه الكتابة هشاشة عاشقها ودائرة خذلاناته، ويكفي المرءُ أن تحميه الكتابة من بلادة الأشياء وضجرها، وتبلدها.
وبالعودة إلى السؤال الأول، ربما نحلل ونتفكّر ونتأمل هواجس هذه الكتابة، وعن جماليات فكرة أنك تطارد الكتابة وتطاردك، وتمنحها حياتك وقلقك وشغفك وأوهامك، خيباتك، فرحك الخفي والسطحي، أحلامك المؤجلة، ولكن كل ذلك لا يكفي، فالكتابة هي انعكاس لروح كاتبها وعاشقها، وليست صورة لحياة كاتبها. هذه المطاردة قد تستمر لسنوات وسنوات، لكي تفهم وتدرك سر الكتابة، وجدواها للكاتب وللإنسان أولا، وأن القلق المتراكم داخل الكائن المطارد للكتابة لا يكفي وحده للوصول لكبد الكتابة. وهل للكتابة كبد وقلب؟ (كل هذا من تهويمات وأوهام الكاتب). بالعودة إلى لفظة «المطاردة» ربما يحتاج إلى الكثير من التأني والتفكيك، فالمطاردة هي للصوص والغزاة، وهل الكتابة تشبههم؟ والمطاردة توحي إلى فعل السرعة والتسرع، وهذا يتناقض مع جوهر الكتابة؛ وهو التأمل وصيد التفاصيل الصغيرة ونحت اللغة. ماذا لو شبهنا الكتابة بالنّساج أو الخطاط، وهل تحتاج الكتابة إلى تشبيه لندرك معناها؟ ماذا لو كانت الكتابة بلا شبيه ولا قواعد ولا قوالب.
هذا الكائن المُسمى بالكتابة (وأقصد هنا الكتابة الإبداعية القائمة على المخيّلة والنحت والبحث والتجلي، الانكسار والتشظي والقلق، والذاهبة بعاشقها ومحبها إلى سهول العزلة وجبال الدهشة) تحتاج كذلك إلى صدق وصفاء وصبر وصلابة وأن تُخلص لها، وإلى روح متجددة ومتأملة ومتألمة، سابرة لتحولات الزمن والأشياء. كل هذا قبل أن يدرّب العاشق للكتابة ذهنه وأصابعه على أدوات وأساليب الكتابة، (هل هناك أساليب جامدة للكتابة؟ ما دام الزمن متحوّلا فالكتابة ترصد وتترصد تحوّلات الزمن)، فالكتابة تفضح روح كاتبها ومخيّلته ودوافعه، وربما أحيانا تتركه هكذا هائما في توهماته وتهويماته.
هل تحتاج الكتابة إلى الألم؟
وما نوع الألم الذي تحتاج له الكتابة؟ وما مقدار هذا الألم الذي تحتاجه الكتابة؟ وهل يتوغل هذا الألم إلى روح الكائن الكاتب والمتلقي؟ هل يفسد هذا الألم المختلط بالوعي حياة الكاتب أم إن مقدرته تجعله يفصل ما بين الحالة الحياتية المعاشة وحالة التجلي والكتابة والتخيل. أو ربما لديه مقدرة عالية في خلط الألمين بطريقة لا تُشعر المتلقي من صاحب الألم، الكاتب أم مخيلته؟ ماذا لو خلت النصوص من الألم؟
ماذا لو استبدلنا كلمة (الألم) بكلمة أخرى لا تجعل الكتابة تتوجس؟ ماذا لو قلنا الهاجس الكتابي الداخلي، أو شرارة الكتابة. أو تجارب يعيشها الكائن القادر على تحويل هذه التجارب المعاشة أو المتخيّلة إلى قوالب كتابية. وهل تحتاج الكتابة إلى قوالب وأجناس لنصب فيها المعاني والحكايات والصور والمشاعر؟ هل القوالب تفيد الناقد ليسهل عليه تشريح النصوص؟
*** *** ***
ماذا تفعل الكتابة بالكلام؟
يظن الكائن أنه بالكتابة يستطيع أن يجمّد الزمن والكائنات والأمكنة والحكايات في نصه، لكن الزمن لا يمكنك أن تمسكه بالحروف ولا أن تحاصره بالكلمات ولا أن تطعنه بالخيال، مهما توهمت ذلك، والكائنات وإن كانت جامدة في جوهرها فهي قادرة على الهروب من زمن الكاتب والكتابة إلى أزمنة أخرى.
الكتابة توسع خيارات الهروب والخيال على ورق أبيض سُرِقَ من غابات دول فقيرة، حتى الطاولة التي تكتب عليها تصرخ في وجهك، أنها تحن إلى أمها الغابة. والغابة المتخيلة أثناء الكتابة ليست هي الغابة الواقعية، لا تستطيع أيها المتوهم بالكتابة أن تنقل ظلال الغابة وروحها إلى الورق، وحتى لو نقلتها لن يصل جوهر الغابة وروحها إلى خيال القارئ. ماذا لو غصت في «البارون ساكن الأشجار» و«الأشجار واغتيال مرزوق» و«وعبر النهر ونحو الأشجار» هل ستشم روائح الغابة، وتسمع حفيف الأشجار؟
ـ لكل شيء استثناء.
ـ وهل الكتابة استثناء؟
ربما الكتابة هي الاستثناء الأجمل والأنقى في تاريخ الإنسان، رغم تلوثها أحيانا بطباع الإنسان، لكنني أظن وأتوهم وأعتقد -ولست متأكدا- بأن الكتابة أقرب بروحها ودمها إلى الطبيعة من الإنسان. وأعتقد جازما بأن الإنسان لوّث روح الكتابة. رغم تشبثه بها وتمجيده الدائم لها.
وهل أنت محايد في الحديث عن الكتابة؟ وأنت ممارس لها؟
أظن أن لفظة الحياد غير دقيقة؟ لا يوجد شيء اسمه حياد في الحياة، ولا في الكتابة. فكل شخص يدّعي بأنه حيادي فهو منحاز لشيء ما. منحاز لذاته لأفكاره ولقناعاته. ماذا لو حذفنا الأسئلة والضمائر من الكلام السابق، ماذا لو حوّلنا الضمائر من ضمير المفرد إلى الجمع، أو العكس؟ ماذا لو تحوّلت الأفعال المضارعة إلى ماضية، ماذا لو حذفنا الأفعال، وتركنا فكرة اللغة بلا حركة ولا حراك؟ هل ستتغيّر الفكرة أم تخمد؟
لنتوقف قليلا عن رص الكلمات والوهم والخذلان في هذه الحياة العابرة.
حمود الراشدي كاتب وقاص عماني