يأتي الخريف وصورة الشجرة أول ما يترسخ في ذهن معظمنا. قد نتذكّر الريح والغيم واختفاء الشمس أيضا، ونحن ننتبه للأرض وهي تتعرّى خانعة لرغبة الطبيعة في التجدد. لكن، دور الشجرة مهما اختلف نوعها وحجمها وعمرها وشكلها يظل جوهريا لإثبات واقعية فصل العودة، وأبدا لا تمرُّ تحوّلات حياتها على مترصّدي الجمال مرور الكرام.
فيكتب الشاعر الأمريكي جويس كيلمر: «أعتقدُ أنّي لن أرى أبدا قصيدة جميلة كشجرة». كما يقول الكاتب الألماني هرمان هيسه: «الأشجار أمكنة مقدّسة. حالما نتعلم الاستماع لها... فإن هذه هي السعادة». إشارة منهما إلى الحالة الفلسفية والفنية للأشجار؛ إنها مفتاح للحقيقة والجمال والانتماء والسعادة، كما إنها مصدر للإلهام. وقد استخدم الكثير من الشعراء عبارة «أعانق شجرة»؛ ليس مصطلحا ساخرا، بل دلالة عميقة للعلاقة العاطفية الوطيدة بين الإنسان والطبيعة.
منذ انبلاج فجر الشعر، كُتبت أشعارٌ ملحمية عن الأشجار للاحتفاء بها كمنبع للحياة. فكتبت أسطرٌ عن المشهد الجميل للأشجار وعنها كأسطورة رافقت الإنسان منذ البداية، وأشعار عن التشظي والتفكك؛ ترثي سقوط شجرة. لنستكشف أوراق الشجر بحفيفها، ونقرأ عن الريح وأعشاش الطيور، والحطابين والمناشير والمعاول والسيقان المشروخة والجذور المكشوفة. فنقول: لا أحد يرى الشجرة كما يراها الشاعر؛ الذي يتعقب الجمال متخطيا العلاقة المادية بين الإنسان والطبيعة. لذلك اخترنا هذه المختارات المترجمة لشعراء عالميين معاصرين يحتفون بالشجرة رفيقة الإنسان.
ديفيد واجونر، أمريكا (و.1926)
شجرة الكرز
خارج المشتل وداخل البستان
حيثُ نَمَت بعدما نجت من أول شتاءٍ قاس،
وبعد سنوات من الحرية، وحالما أزهرت،
بسطت فروعها الأولى، وقاومت الحشرات وسمومها،
وطوّرت أفكارا غريبة عن سموّها
تحمّلت تقليم وبتر أطرافها
ودفعها للانغماس في الملذات واقتتال
الجذور في وجهاتها سنة بعد سنة.
خلال أبريل تنسى: لِمَ لا تستطيع فعل ما يجب،
وبعد الإزهار والفاكهة وسقوط الأوراق،
دائما يحدثُ ما لا يتوقّعُ.
والآن نُحتت فروعها الكبيرة بشفرات
وتحت المطر تحملُ الريح براعمها الجديدة
كدمٍ أحمر في الضوء مجددا.
ليندا باستان، أمريكا (و.1932)
شكلٌ منتصب
ربما الغرضُ من الأوراق
إخفاء انتصاب الأشجار
التي نبصرها في ديسمبر
كأول مرة: صفٌّ بعد صف
من الأشكال الداكنة التي تتوقُ للسُّمو.
وبما أننا أشكال عرضية لمدة طويلة،
دعونا نكرم آلهة الأشياء المنتصبة:
كسيقان القمح التي تبدو عالية للنملة
كما تفعل بنا هذه الأشجار،
الصوامع وأعمدة الهاتف،
الصواعد وناطحات السحاب.
ولكن الأهم هي هذه السنديانة الشتوية،
إنها أشجار الحور الرقيقة،
وهذه شجرة القضبان بلحاء يشبه الجلد الخشن
حيث أضع رأسي الباردة، وغير الجاهزة للاستلقاء.
جيليان كلارك، ويلز (و.1937)
سنديانة القرية
السنديانة شجرة الكاهن المقدسة،
حلقات من التاريخ مكتوبة في نواة خشبها،
صمدت اثني عشر قرنا،
ترسو على الجذور القديمة ووزنها.
اثنا عشر مائة عام من الإيراق والنّفض،
زمنٌ من أعشاش الشحرور والخطاطيف،
قلعةٌ للحشرات في كل شرخ وصدع
ملجأٌ شتوي للطيور المغرّدة والنّحل،
قلبها الأجوف كهفٌ للعشاق،
صومعةٌ للنّاسكِ، ومأوى للغنم
ومخبأ للجندي وللص وللهارب وللمتآمر،
إنها مكان للمحاولة والثقة والخيانة.
أكبر سنا من الكاتدرائيات، أغصانها تدعو للتحدّي،
صنع منها السّقف والمهد والقباب والعوارضُ، ووقود المدفأة،
تعرّضت للتقليم وتبرعمت...
وبعد عشرات القرون، وأثناء هُبوب ريح أبريل
أسقطوا ملكة الأشجار. سقطت في الخفاء،
وسُلبت أغصانها، وها قد بدأت للتو تخضرُّ
على قوائم الأرشيف الوطني، فاترة مثل يدٍ ميْتة.
لويد شوارتز، أمريكا (و.1941)
أوراق الشجر
خلال أكتوبر يصيرُ من الضروري
مشاهدة أوراق الشجر تتحرّك، ويهمّ أن تُحاطَ بأوراق مُتحرّكة؛
لا يتعلقُ الأمر بالرمزية فقط للتصدي للموت في سنة موتك،
أثناء تأجج مظهر الوداع، تحتفظُ بتهكُّمك:
تصيرُ الطبيعة أكثر إغراءً عندما يحين وقتكَ
تتباهى بتألق انبعاثها المتجدد، كأنها آنذاك تعلن نهاية
عاقبة التقدم البشري على الأقل (كالتلوث والأمطار الحمضية)
ألا يخيفك هذا بما يكفي لتفترض أنها الحقيقة
وأنت مدركٌ أنها نهايةٌ خادعة
بسبب الطبيعة؛ التي تجدد نفسها دائما
لا تموت الأشجار، إنها تتظاهر فقط،
للخروج بأناقة، والعودة بزيّ: زي جديد.
لويز جليك، أمريكا (و.1943)
«نوستوس»
ثمة شجرة تفاح في الفناء
لربما منذ أربعين سنة مضت،
خلفها مروجٌ وحيدة حيث أكوام الزعفران في العشب الندي.
وقفتُ عند تلك النافذة: أواخر أبريل.
وزهور الربيع في ساحة الجار جلية.
كم مرة فعلتها الشجرة، وحقا أزهرت في عيد ميلادي،
في ذلك اليوم بالضبط، لا قبله ولا بعده؟ استُبدل ما لا يتغير
من أجل التحول والترعرع؛ لاستبدال صورة الأرض القاسية.
وما أعرفه عن المكان، ودور الشجرة خلال عقود
وُضعَ في أصيص «بونساي»، وأصواتٌ تتصاعدُ
من ملاعب التنس والحقول. ورائحة العشب الطويل بعد جزّه.
ماذا يتوقعه المرء من شاعرةٍ غنائية.
تنظر إلى العالم مرةً، بعيون الطفولة والباقي ذكرى.
فيكتب الشاعر الأمريكي جويس كيلمر: «أعتقدُ أنّي لن أرى أبدا قصيدة جميلة كشجرة». كما يقول الكاتب الألماني هرمان هيسه: «الأشجار أمكنة مقدّسة. حالما نتعلم الاستماع لها... فإن هذه هي السعادة». إشارة منهما إلى الحالة الفلسفية والفنية للأشجار؛ إنها مفتاح للحقيقة والجمال والانتماء والسعادة، كما إنها مصدر للإلهام. وقد استخدم الكثير من الشعراء عبارة «أعانق شجرة»؛ ليس مصطلحا ساخرا، بل دلالة عميقة للعلاقة العاطفية الوطيدة بين الإنسان والطبيعة.
منذ انبلاج فجر الشعر، كُتبت أشعارٌ ملحمية عن الأشجار للاحتفاء بها كمنبع للحياة. فكتبت أسطرٌ عن المشهد الجميل للأشجار وعنها كأسطورة رافقت الإنسان منذ البداية، وأشعار عن التشظي والتفكك؛ ترثي سقوط شجرة. لنستكشف أوراق الشجر بحفيفها، ونقرأ عن الريح وأعشاش الطيور، والحطابين والمناشير والمعاول والسيقان المشروخة والجذور المكشوفة. فنقول: لا أحد يرى الشجرة كما يراها الشاعر؛ الذي يتعقب الجمال متخطيا العلاقة المادية بين الإنسان والطبيعة. لذلك اخترنا هذه المختارات المترجمة لشعراء عالميين معاصرين يحتفون بالشجرة رفيقة الإنسان.
ديفيد واجونر، أمريكا (و.1926)
شجرة الكرز
خارج المشتل وداخل البستان
حيثُ نَمَت بعدما نجت من أول شتاءٍ قاس،
وبعد سنوات من الحرية، وحالما أزهرت،
بسطت فروعها الأولى، وقاومت الحشرات وسمومها،
وطوّرت أفكارا غريبة عن سموّها
تحمّلت تقليم وبتر أطرافها
ودفعها للانغماس في الملذات واقتتال
الجذور في وجهاتها سنة بعد سنة.
خلال أبريل تنسى: لِمَ لا تستطيع فعل ما يجب،
وبعد الإزهار والفاكهة وسقوط الأوراق،
دائما يحدثُ ما لا يتوقّعُ.
والآن نُحتت فروعها الكبيرة بشفرات
وتحت المطر تحملُ الريح براعمها الجديدة
كدمٍ أحمر في الضوء مجددا.
ليندا باستان، أمريكا (و.1932)
شكلٌ منتصب
ربما الغرضُ من الأوراق
إخفاء انتصاب الأشجار
التي نبصرها في ديسمبر
كأول مرة: صفٌّ بعد صف
من الأشكال الداكنة التي تتوقُ للسُّمو.
وبما أننا أشكال عرضية لمدة طويلة،
دعونا نكرم آلهة الأشياء المنتصبة:
كسيقان القمح التي تبدو عالية للنملة
كما تفعل بنا هذه الأشجار،
الصوامع وأعمدة الهاتف،
الصواعد وناطحات السحاب.
ولكن الأهم هي هذه السنديانة الشتوية،
إنها أشجار الحور الرقيقة،
وهذه شجرة القضبان بلحاء يشبه الجلد الخشن
حيث أضع رأسي الباردة، وغير الجاهزة للاستلقاء.
جيليان كلارك، ويلز (و.1937)
سنديانة القرية
السنديانة شجرة الكاهن المقدسة،
حلقات من التاريخ مكتوبة في نواة خشبها،
صمدت اثني عشر قرنا،
ترسو على الجذور القديمة ووزنها.
اثنا عشر مائة عام من الإيراق والنّفض،
زمنٌ من أعشاش الشحرور والخطاطيف،
قلعةٌ للحشرات في كل شرخ وصدع
ملجأٌ شتوي للطيور المغرّدة والنّحل،
قلبها الأجوف كهفٌ للعشاق،
صومعةٌ للنّاسكِ، ومأوى للغنم
ومخبأ للجندي وللص وللهارب وللمتآمر،
إنها مكان للمحاولة والثقة والخيانة.
أكبر سنا من الكاتدرائيات، أغصانها تدعو للتحدّي،
صنع منها السّقف والمهد والقباب والعوارضُ، ووقود المدفأة،
تعرّضت للتقليم وتبرعمت...
وبعد عشرات القرون، وأثناء هُبوب ريح أبريل
أسقطوا ملكة الأشجار. سقطت في الخفاء،
وسُلبت أغصانها، وها قد بدأت للتو تخضرُّ
على قوائم الأرشيف الوطني، فاترة مثل يدٍ ميْتة.
لويد شوارتز، أمريكا (و.1941)
أوراق الشجر
خلال أكتوبر يصيرُ من الضروري
مشاهدة أوراق الشجر تتحرّك، ويهمّ أن تُحاطَ بأوراق مُتحرّكة؛
لا يتعلقُ الأمر بالرمزية فقط للتصدي للموت في سنة موتك،
أثناء تأجج مظهر الوداع، تحتفظُ بتهكُّمك:
تصيرُ الطبيعة أكثر إغراءً عندما يحين وقتكَ
تتباهى بتألق انبعاثها المتجدد، كأنها آنذاك تعلن نهاية
عاقبة التقدم البشري على الأقل (كالتلوث والأمطار الحمضية)
ألا يخيفك هذا بما يكفي لتفترض أنها الحقيقة
وأنت مدركٌ أنها نهايةٌ خادعة
بسبب الطبيعة؛ التي تجدد نفسها دائما
لا تموت الأشجار، إنها تتظاهر فقط،
للخروج بأناقة، والعودة بزيّ: زي جديد.
لويز جليك، أمريكا (و.1943)
«نوستوس»
ثمة شجرة تفاح في الفناء
لربما منذ أربعين سنة مضت،
خلفها مروجٌ وحيدة حيث أكوام الزعفران في العشب الندي.
وقفتُ عند تلك النافذة: أواخر أبريل.
وزهور الربيع في ساحة الجار جلية.
كم مرة فعلتها الشجرة، وحقا أزهرت في عيد ميلادي،
في ذلك اليوم بالضبط، لا قبله ولا بعده؟ استُبدل ما لا يتغير
من أجل التحول والترعرع؛ لاستبدال صورة الأرض القاسية.
وما أعرفه عن المكان، ودور الشجرة خلال عقود
وُضعَ في أصيص «بونساي»، وأصواتٌ تتصاعدُ
من ملاعب التنس والحقول. ورائحة العشب الطويل بعد جزّه.
ماذا يتوقعه المرء من شاعرةٍ غنائية.
تنظر إلى العالم مرةً، بعيون الطفولة والباقي ذكرى.