منذ أيام قليلة أعلنت لجنة جوائز بوليتزر للصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية فوز صحيفة نيويورك تايمز بجائزة التقارير الدولية، وهي واحدة من 22 جائزة، منها 14 جائزة في الصحافة يتم منحها للصحفيين في شهر مايو من كل عام، منذ تأسيس الجائزة في عام 1917 بمنحة قدمها الصحفي الشهير جوزيف بوليتزر.

لا تقتصر أهمية تلك الجائزة على كونها ضمن أهم الجوائز التي تعيد الاعتبار كل عام للصحافة الجادة والمؤثرة في وقت تتراجع فيه صناعة الصحافة بشكل عام في العالم كله، ولا على فوز «نيويورك تايمز» بها، فقد فازت الصحيفة الأمريكية المرموقة بثلاث جوائز أخرى هذا العام، وما زالت أكثر الصحف الأمريكية حصدا لهذه الجوائز بمجموع 125 جائزة على مدى تاريخها الممتد منذ تأسيسيها في عام 1851 وحتى اليوم، بل تمتد أهميتها إلى الموضوع الذي حصلت بسببه على هذه الجائزة، وهو موضوع قد يعتقد البعض أنه يمس الأمن القومي للولايات المتحدة؛ لأنه ينتقد أداء وأفعال أكبر وأقوى الجيوش في العالم، وهو الجيش الأمريكي.

حصلت نيويورك تايمز على جائزة بوليتزر في التقارير الدولية؛ لأنها كشفت سلسلة من ثمانية تقارير صحفية استقصائية أعدها مراسلو الصحيفة في عدة عواصم عالمية، وكتبتها الصحفية عصمت خان. فشل الجيش الأمريكي في خفض الخسائر البشرية من المدنيين الأبرياء في المواقع التي يقوم بقصفها بضربات جوية في مناطق النزاع التي يشارك فيها، ووجهت هذه التقارير اتهامات محددة للجيش الأمريكي شملت فشله في إحصاء مئات القتلى المدنيين نتيجة عملياته، وإهمال التحقيق في التقارير الخاصة بسقوط ضحايا مدنيين في ضربات جوية أمريكية في سوريا وشمال العراق وأفغانستان، وانتهاج سياسة الإفلات من العقاب لأفراد القوات الجوية الذين أسقطوا هؤلاء الضحايا.

بعد إعلان فوز نيويورك تايمز بالجائزة لهذه التقارير، لم يتهمها أحد بالخيانة العظمى، ولم تهاجمها وزارة الدفاع الأمريكية، أو تقودها إلى المحاكم أو تعتقل صحفييها بتهمة تهديد الأمن الوطني، وتشويه صورة الجيش والتدخل في أعماله. العكس هو ما حدث، ففي اليوم التالي خرج جون كيربي المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية ليهنئ صحفيي نيويورك تايمز ويشيد بهم وبالصحيفة، ووعد أن يأخذ البنتاجون جميع التقارير عن الضحايا المدنيين على محمل الجد، وأن يبذل قصارى جهده للتحقيق فيها.

لقد درج الكتاب والمفكرون على استخدام عبارة «سلاح ذو حدين» للإشارة إلى الشيء الذي يمكن أن يكون نافعًا أو ضارًا في الوقت نفسه، وفقًا لطريقة استخدامه، فالدواء على سبيل المثال سلاح ذو حدين يمكن أن يساعد على معالجة الألم، ويمكن إذا أسيء استخدامه أن يكون قاتلًا. وحتى الصفات الإنسانية يمكن أن تكون سلاحا ذا حدين، فالثقة بالنفس عندما تزيد عن حدها يمكن أن تنقلب على صاحبها بما يكره، وكذلك الشك والكذب والإخلاص وغيرها. وتتعدد الأمثلة على ذلك حتى تصل إلى مطبات الشوارع التي تحد من الحوادث المرورية، ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تؤدي إلى مزيد من هذه الحوادث.

ما أريد أن أقوله إن بعض الأنشطة البشرية يمكن أن تتخطى، كسلاح نطاق الحدين، وتصبح متعددة الحدود، ومنها الأنشطة الإعلامية والاتصالية في المجتمع، التي يمكن في ظروف استخدام معينة، وفي قضايا محددة أن تصبح سكاكين بل وسيوفًا لها حدود كثيرة. ولذلك فإن علينا أن ننتبه لذلك حتى نقلل إلى أقصى حد ما يمكن أن تسببه من جروح للمجتمع والدولة والإنسان.

في ضوء ما سبق وفي ضوء قصة نيويورك تايمز عن انتهاكات الجيش الأمر ورد البنتاجون على ذلك، يصبح من الضروري الاستفادة من ذلك عبر إعادة النظر، بعد تجاربنا الإعلامية الطويلة في مفهوم الأمن الوطني، ودور وسائل الإعلام متعدد الوجوه، والحدود سواء في دعم وتعزيز هذا الأمن، أو في تهديده وزيادة حجم المخاطر التي يتعرض لها. من المهم أن نصل إلى قناعات حول ما إذا كان يجب علينا أن نزيد من مساحة الحرية التي تتمتع بها وسائل إعلامنا، لكي تكون قادرة على التنبيه إلى التهديدات التي يتعرض لها الأمن الوطني، وبالتالي زيادة قدرة المجتمع والدولة على الاستعداد لها ومواجهتها، أم الاحتفاظ بالمساحات المحدودة من الحرية التي تجبر وسائل الإعلام على تجاهل تلك التهديدات والتقليل من شأنها، وما قد يترتب على ذلك من تعرض الدولة والمجتمع للأزمات المفاجئة التي قد تهدد استقراره وربما تهدد بقاءه واستمراره.

من المؤكد أن دور وسائل الإعلام في تعزيز أو تهديد الأمن الوطني يتوقف على عوامل كثيرة بعضها يرتبط بطبيعة النظام الإعلامي، وحجم الحرية التي تتمتع بها وسائل الإعلام، وعلاقة هذه الوسائل بالحكومة، والأهم على وجود أو عدم وجود استراتيجية إعلامية للتعامل مع قضايا الأمن الوطني.

لقد اتسع مفهوم الأمن الوطني كثيرًا في السنوات الأخيرة ليتجاوز المفهوم التقليدي الذي كان يحصره في الأمن العسكري، وأصبح يشمل أبعادًا غير عسكرية مثل الأمن من الإرهاب، والأمن الاقتصادي، وأمن الطاقة، والأمن البيئي، وأمن المناخ، والأمن الغذائي، والأمن السيبراني، وجميع القضايا المتعلقة بأمن الأرواح والممتلكات في بلد ما. أصبح الأمن الوطني يعني كما يرى البعض «العيش في مناخ خال من الهجوم أو أي سيناريو قد يؤدى إلى سقوط القانون والنظام».

ويمتد الأمن الوطني ليغطي «قدرة الأمة على السيطرة على المواقف الخارجية والداخلية التي قد تعرض الدولة للخطر». ووفقًا لذلك فإن مكونات الأمن الوطني أصبحت تتضمن حماية أرواح وكرامة وممتلكات المواطنين، وحماية الموارد والثروات، وحماية الثقافة والقيم والآداب العامة، وحماية الإقليم وسيادة الدولة ومؤسساتها، إضافة إلى تحقيق العدالة والظروف المعيشية العادلة لجميع مواطني الدولة.

ورغم عدم وجود إجماع بين الإعلاميين والأمنيين حول التأثير الفعلي للإعلام ووسائله ورسائله على الأمن الوطني، فإن تغير مفهوم الأمن الوطني وتعدد التهديدات الأمنية التي تواجهها الدول والمجتمعات، وتغير البيئة الإعلامية ودخول وسائل جديدة، قد لا تستطيع الدول التحكم في مضامينها، يجعل من هذه الوسائل سلاحًا متعدد الحدود، وليست سلاحًا ذا حدين فقط. فالدور الذي يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام تجاه الأمن الوطني قد يكون سلبيًا تمامًا عندما تستخدم في دعم الإرهاب ونشر الفكر المتطرف، ويمكن أن يكون إيجابيًا ومفيدًا في مواجهة تحديات الأمن الوطني عندما تسهم في خلق الوعي الشعبي بهذه التحديات، وتوفر لصانع القرار الأمني المعلومات التي تعينه على اتخاذ القرار الصائب في المواقف المختلفة، وعندما تعمل كرقيب حر على مؤسسات المجتمع تكشف أخطاءها وتدفعها إلى مراجعة وتصحيح خططها وسياساتها.

نعلم أن لدينا مخاوف تتعلق بالتأثيرات السلبية لحرية الرأي والتعبير والصحافة على الأمن الوطني، وهي مخاوف قديمة ومتوارثة من فترات سابقة، كانت وما زالت أحد أهم أسباب فرض قيود على وسائل الإعلام سواء التقليدية أو الجديدة في العديد من دول العالم، وحان الوقت في هذا العصر الرقمي لمراجعتها.

لا شك أن هذه المراجعة تتطلب مراجعة شاملة وعاجلة لرؤية المجتمع للإعلام ومكانته بين مؤسساته، ودوره والفلسفة التي تحدد وظائفه، والإطار التنظيمي والأخلاقي الذي يحكم عمله، وذلك حتى يكون سلاحًا فاعلًا ذا حد واحد، يعزز الأمن الوطني ولا يهدده.

أ.د. حسني نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس