أصبح العالم الذي لا حول له ولا قوة بعد حرب أوكرانيا كما يقول المثل المشهور وكأنه «فيل في محل للخزف يحطم كل ما يقابله». وعلى هذا العالم الذي يدهس أمنه ورغيف عيشه هذا الفيل أو هذه الأفيال العملاقة سواء أمريكا والغرب أو روسيا «والصين على المدى الطويل» أن يعد نفسه لحرب مستمرة طويلة الأمد ربما تمتد إلى نهاية هذا العام «أكثر أو أقل..». لماذا نصل ونتفق مع هذا التقييم المتشائم الذي يميل إليه جمهور المتابعين للحرب الأوكرانية؟ لا يتعلق الأمر فقط بسير المعارك وإن كان مسار المعركة على الأرض لعب دورا. هذا المسار الذي بدا فيه الأداء العسكري الأوكراني أفضل نسبيا مما كان متوقعا والأداء العسكري الروسي أقل نسبيا مما كان متوقعا قد أعطى آمالا غربية «غير واقعية» تميل إلى الاعتقاد بأن أوكرانيا يمكنها ليس فقط رد الهجوم بل هزيمة القوات العسكرية الروسية وإذلال بوتين أمام شعبه وأمام العالم. وإسقاط نظامه وإحلال نظام موال للغرب فيه على غرار النموذج الحالي للقيادة الأوكرانية!!
لكن ما يدفعني للاعتقاد بأن هذا السبب ليس سببا رئيسيا هو نجاح الروس النسبي في الأيام الأخيرة «بعد الاستيلاء الكامل على مدينة «ماريوبول» الاستراتيجية في تحقيق هدف رئيسي من أهداف الهجوم على أوكرانيا وهو تحقيق ربط بري بين جزيرة القرم الاستراتيجية لمنطقة «دونباس» وتحويل أوكرانيا لدولة معزولة بحريا ليس لها اتصال بالعالم إلا برا أو جوا..
تبقى إذن الأسباب الاستراتيجية التي بدأت بسببها الحرب التي أصبح من المستحيل إخفاؤها أكثر من ذلك.. بصفتها الأسباب الحقيقية التي جعلت البشرية مهددة بمجاعات جغرافية واسعة النطاق بل وربما للوصول إلى مرحلة الجنون النووي الذي يهدد بفناء بعض أو كل الحضارة الإنسانية.
١- حرب بالوكالة تهدف إلى تغيير النظام في روسيا وتحويلها
ما قام السياسيون الأمريكيون في البداية بتكذيبه من أن الحرب في أوكرانيا ليست حربا أمريكية تخوضها أوكرانيا بالوكالة عادوا واعترفوا به تحت ضغط نيران المعارك أو مع تصاعد الآمال بإمكانية دحر روسيا فيها. فوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن تحدث عن أن هدف أمريكا هو «إضعاف روسيا» أما النائب سيث مولتون وهو ديمقراطي من حزب بايدن فقد قال خلال ظهوره في فوكس نيوز: «نحن لسنا في حالة حرب فقط لدعم الأوكرانيين، نحن في الأساس في حالة حرب مع روسيا، وإن كانت تشن بالوكالة، ومن المهم أن نفوز، وهذا نوع جديد من الصراع وهو أكبر من أوكرانيا».
المصادر الأمريكية سربت أيضا لنيويورك تايمز ما يوحي بأنها طرف مباشر في الحرب إذ أشارت إلى أن المعلومات الاستخبارية التي زودت بها الجيش الأوكراني كانت وراء أكبر لطمتين وجهتا للجيش الروسي في الحرب وهما اغتيال عدد من جنرالاته وإغراق درة الأسطول الروسي «موسكوفا». فإذا أضيف إلى ذلك ما نشرته صحيفة أوكرانية من أن رئيس الوزراء البريطاني جونسون أخبر الرئيس زيلينسكي أنه حتى لو أرادت أوكرانيا التوقيع على اتفاق سلام، يظل الغرب ملتزما بمواجهة روسيا، أي أن الغرب يمنع قادة أوكرانيا عمليا ـ حتى لو أرادوا ـ من التوصل لتسوية مع روسيا تنهي الحرب في المدى المنظور.
ويتأكد هنا أن ما قاله بايدن في بولندا أنه على بوتين أن يرحل عن السلطة هو الهدف الحقيقي للحرب وأنها لم تكن مجرد زلة لسان كما حاول معاونوه التبرير لاحقا. يمكن القول بكل بساطة إن قرار إسقاط النظام الروسي هو قرار استراتيجي اتخذته دولة الأمن القومي الأمريكي منذ زمن طويل وبشكل محدد وحاسم منذ عهد أوباما. وهو قرار مبني على استراتيجية كونية أكبر مفادها أنه لا سبيل لهزيمة التنين الصيني الصاعد ومنع أن يتحول تقدمه الاقتصادي إلى مشاركة لواشنطن في قيادة العالم إنما يتم فقط وأولًا بهزيمة روسيا التي تحولت في سنوات بوتين/ بينغ إلى حليف استراتيجي لبكين.
ما عطل المشروع 4 سنوات هو مجيء ترامب (الوافد الغريب الآتي من خارج الدولة العميقة في واشنطن) والذي نصح زيلينسكي علنا بالتفاهم مع بوتين وعدم الصدام معه وبمجرد خروجه من البيت الأبيض عاد بايدن إلى استراتيجية أوباما بل وازداد شراسة في تنفيذها مع وجود ثأر للديمقراطيين ولديه يقين بأن بوتين تلاعب في انتخابات 2018 ترامب/ هيلاري لإسقاط الأخيرة التي تنتمي لحزب بايدن. بعبارة أوضح أن إضعاف روسيا وإسقاط بوتين هو مصلحة عليا للأمن القومي الأمريكي تم تعريض سلام واقتصاد العالم كله لتحقيقها.
2- حرب وجودية بالنسبة لروسيا وبوتين:
لا تفعل التصريحات وزلات اللسان التي تكشف الحقيقة في الغرب شيئا سوى تأكيد قناعات بوتين بأن قراره بشن الحرب على أوكرانيا كان ضربة استباقية لحرب كان الغرب سيشنها ضده آجلا أو عاجلًا، وأن عملية إحكام الحصار على روسيا بدول تابعة لحلف الناتو طيلة السنوات الماضية بل ونشر منظومات سلاح متقدمة فيها قادرة على حمل أسلحة نووية تهدد موسكو والكرملين، لم تكن إلا مقدمة، إما لاستسلام روسيا للحصار الأطلسي أو إثارة اضطرابات داخلية وتغيير الرئيس كما حدث في أوكرانيا نفسها في 2019.
ومع اعتراف بايدن نفسه بأنه قد تم إغلاق كل طرق الخروج من الحرب أمام الرئيس الروسي فإنه لا يوجد بديل أمام بوتين الذي ربما ينظر لنفسه كقائد تاريخي لروسيا لا يقل عن بطرس الأكبر لإنقاذ نفسه وبقاء سلطته المطلقة على البلاد إلا بمواصلة هذه الحرب إلى النهاية. فروسيا تشعر بالإهانة من محاولة واشنطن تحويلها إلى دولة تابعة لها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومن محاولة تقزيمها لتصبح مجرد دولة أوروبية عادية من الدرجة الثانية. وتشعر بالخطر من أن عين واشنطن مصوبة بقوة على مواردها الطبيعية الهائلة وهي تريد أن تتحكم في نفطها وغازها وذهبها وباقي مواردها كما تتحكم في نفط الشرق الأوسط وهو أمر لن يمكنها منه إلا إسقاط هذا النظام «البوتيني» الأوراسي المعتد بالتاريخ الروسي والشخصية القومية الروسية ويتباهى بأنه أكبر يابسة على الأرض وثاني أكبر قوة عسكرية تقليدية في العالم بعد حلف الناتو وأنه أول قوة نووية تكتيكية ويتساوى مع أمريكا في القوة النووية الاستراتيجية وإنه بلد العباقرة ديستويفسكي وتشيكوف وبافلوف وسيمينيوف و30 حائزا على جائزة نوبل.. إلخ، مما يصعب حصره من أسماء عملاقة ضربت بسهم وافر في الحضارة الإنسانية. بعبارة أوضح إنه إذا كانت واشنطن البعيدة آلاف الأميال عن الحرب الأوكرانية تعتبرها مصلحة عليا للأمن القومي الأمريكي فإن روسيا المنخرطة مباشرة في الحرب تعتبرها مسألة وجودية أي مسألة حياة أو موت.
3- نظرية عض الأنامل ومن يستسلم أولا: هنا يبدو أن نظرية عنترة بن شداد القادم من عصر الفروسية والسيوف وليس صواريخ جافلين الأمريكية أو صواريخ اسكندر الروسية هي من سيحسم مصير الحرب ويحدد متى تسكت المدافع. فما هو منسوب للشاعر والفارس العربي القديم إنه قال: إن النصر أو الشجاعة صبر ساعة وأنه قيل له (بم غلبت العرب في المعارك؟ قال: بالصبر.
والعض على الأصابع في عصرنا هو الاقتصاد وقدرته على تحمل فاتورة الحرب.
معظم التقديرات الدولية تقول: إن أمريكا آخر من سيتضرر بالحرب وأن الدول النامية وروسيا وأوروبا يتضررون قبلها بنفس الترتيب، وهناك من يرى أن أمريكا ستكون رابحة من الحرب وهناك تقارير متزايدة تشير إلى أن إعادة الاقتصاد الأمريكي المتضخم بفعل كورونا والتوسع المذهل في طباعة النقود أثناءها كان أحد الأسباب الرئيسة لاستدراج روسيا لشن الحرب فمن ناحية تتعزز صناعة الأسلحة الأمريكية بمئات المليارات من الدولارات التي ستتدفق عليها من الدول الأوروبية بعد أن دفعتها هستيريا الحرب إلى الإنفاق العسكري الكبير مرة أخرى ومن ناحية أخرى فإن رفع سعر الفائدة الأمريكي سيجتذب مزيدا من الاستثمارات الأوروبية في سندات الخزينة الأمريكية.
إذا أمريكا ليست مستعجلة لإنهاء حرب لا يموت فيها أبناؤها كما كان الحال في العراق وأفغانستان مثلا.
الروس بالمقابل وإن كان جنودهم يموتون في المعركة إلا أنهم لديهم تقديرات متفائلة عن اقتصادهم الوطني وقدرته على الصمود في وجه العقوبات الغربية. فهم يتحدثون عن تفوق الصادرات الروسية على الواردات وارتفاع سعر الروبل وحدوث انخفاض في التضخم.
لكن مشكلة الولايات المتحدة أن لها حلفاء في العالم لا تستطيع تركهم ينهارون ويعلنون إفلاسهم وكذلك فإن حلفاءها في أوروبا بدأوا يعانون بقسوة بسبب ارتفاع فاتورة الطاقة والتضخم المتزايد وقد لا يأتي أكتوبر المقبل إلا وهم يعانون معاناة حادة فهل ستدفع الضغوط من الحلفاء الأوروبيين وغير الأوروبيين؛ واشنطن إلى الموافقة على وقف الحرب دون إذلال روسيا كما طالب الرئيس الفرنسي ماكرون؟ ونفس الأمر ينطبق على روسيا فإن استمرار الحرب حتى الخريف قد يوقع اقتصادها في مأزق كبير فهل سيجعلها ذلك حريصة على تحقيق حسم سريع على الأرض في كامل «دونباس» تفاوض به على تسوية مشرفة تثبت فيه أنها لن تقع في نفس الفخ مرتين وتحول دون أن تصبح أوكرانيا المستنقع الجديد الذي يقضي على نظام بوتين كما كانت أفغانستان المستنقع الذي أسقط نظام الاتحاد السوفييتي.
سنرى من سيصرخ أولا؟؟
حسين عبدالغني كاتب وإعلامي مصري
لكن ما يدفعني للاعتقاد بأن هذا السبب ليس سببا رئيسيا هو نجاح الروس النسبي في الأيام الأخيرة «بعد الاستيلاء الكامل على مدينة «ماريوبول» الاستراتيجية في تحقيق هدف رئيسي من أهداف الهجوم على أوكرانيا وهو تحقيق ربط بري بين جزيرة القرم الاستراتيجية لمنطقة «دونباس» وتحويل أوكرانيا لدولة معزولة بحريا ليس لها اتصال بالعالم إلا برا أو جوا..
تبقى إذن الأسباب الاستراتيجية التي بدأت بسببها الحرب التي أصبح من المستحيل إخفاؤها أكثر من ذلك.. بصفتها الأسباب الحقيقية التي جعلت البشرية مهددة بمجاعات جغرافية واسعة النطاق بل وربما للوصول إلى مرحلة الجنون النووي الذي يهدد بفناء بعض أو كل الحضارة الإنسانية.
١- حرب بالوكالة تهدف إلى تغيير النظام في روسيا وتحويلها
ما قام السياسيون الأمريكيون في البداية بتكذيبه من أن الحرب في أوكرانيا ليست حربا أمريكية تخوضها أوكرانيا بالوكالة عادوا واعترفوا به تحت ضغط نيران المعارك أو مع تصاعد الآمال بإمكانية دحر روسيا فيها. فوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن تحدث عن أن هدف أمريكا هو «إضعاف روسيا» أما النائب سيث مولتون وهو ديمقراطي من حزب بايدن فقد قال خلال ظهوره في فوكس نيوز: «نحن لسنا في حالة حرب فقط لدعم الأوكرانيين، نحن في الأساس في حالة حرب مع روسيا، وإن كانت تشن بالوكالة، ومن المهم أن نفوز، وهذا نوع جديد من الصراع وهو أكبر من أوكرانيا».
المصادر الأمريكية سربت أيضا لنيويورك تايمز ما يوحي بأنها طرف مباشر في الحرب إذ أشارت إلى أن المعلومات الاستخبارية التي زودت بها الجيش الأوكراني كانت وراء أكبر لطمتين وجهتا للجيش الروسي في الحرب وهما اغتيال عدد من جنرالاته وإغراق درة الأسطول الروسي «موسكوفا». فإذا أضيف إلى ذلك ما نشرته صحيفة أوكرانية من أن رئيس الوزراء البريطاني جونسون أخبر الرئيس زيلينسكي أنه حتى لو أرادت أوكرانيا التوقيع على اتفاق سلام، يظل الغرب ملتزما بمواجهة روسيا، أي أن الغرب يمنع قادة أوكرانيا عمليا ـ حتى لو أرادوا ـ من التوصل لتسوية مع روسيا تنهي الحرب في المدى المنظور.
ويتأكد هنا أن ما قاله بايدن في بولندا أنه على بوتين أن يرحل عن السلطة هو الهدف الحقيقي للحرب وأنها لم تكن مجرد زلة لسان كما حاول معاونوه التبرير لاحقا. يمكن القول بكل بساطة إن قرار إسقاط النظام الروسي هو قرار استراتيجي اتخذته دولة الأمن القومي الأمريكي منذ زمن طويل وبشكل محدد وحاسم منذ عهد أوباما. وهو قرار مبني على استراتيجية كونية أكبر مفادها أنه لا سبيل لهزيمة التنين الصيني الصاعد ومنع أن يتحول تقدمه الاقتصادي إلى مشاركة لواشنطن في قيادة العالم إنما يتم فقط وأولًا بهزيمة روسيا التي تحولت في سنوات بوتين/ بينغ إلى حليف استراتيجي لبكين.
ما عطل المشروع 4 سنوات هو مجيء ترامب (الوافد الغريب الآتي من خارج الدولة العميقة في واشنطن) والذي نصح زيلينسكي علنا بالتفاهم مع بوتين وعدم الصدام معه وبمجرد خروجه من البيت الأبيض عاد بايدن إلى استراتيجية أوباما بل وازداد شراسة في تنفيذها مع وجود ثأر للديمقراطيين ولديه يقين بأن بوتين تلاعب في انتخابات 2018 ترامب/ هيلاري لإسقاط الأخيرة التي تنتمي لحزب بايدن. بعبارة أوضح أن إضعاف روسيا وإسقاط بوتين هو مصلحة عليا للأمن القومي الأمريكي تم تعريض سلام واقتصاد العالم كله لتحقيقها.
2- حرب وجودية بالنسبة لروسيا وبوتين:
لا تفعل التصريحات وزلات اللسان التي تكشف الحقيقة في الغرب شيئا سوى تأكيد قناعات بوتين بأن قراره بشن الحرب على أوكرانيا كان ضربة استباقية لحرب كان الغرب سيشنها ضده آجلا أو عاجلًا، وأن عملية إحكام الحصار على روسيا بدول تابعة لحلف الناتو طيلة السنوات الماضية بل ونشر منظومات سلاح متقدمة فيها قادرة على حمل أسلحة نووية تهدد موسكو والكرملين، لم تكن إلا مقدمة، إما لاستسلام روسيا للحصار الأطلسي أو إثارة اضطرابات داخلية وتغيير الرئيس كما حدث في أوكرانيا نفسها في 2019.
ومع اعتراف بايدن نفسه بأنه قد تم إغلاق كل طرق الخروج من الحرب أمام الرئيس الروسي فإنه لا يوجد بديل أمام بوتين الذي ربما ينظر لنفسه كقائد تاريخي لروسيا لا يقل عن بطرس الأكبر لإنقاذ نفسه وبقاء سلطته المطلقة على البلاد إلا بمواصلة هذه الحرب إلى النهاية. فروسيا تشعر بالإهانة من محاولة واشنطن تحويلها إلى دولة تابعة لها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومن محاولة تقزيمها لتصبح مجرد دولة أوروبية عادية من الدرجة الثانية. وتشعر بالخطر من أن عين واشنطن مصوبة بقوة على مواردها الطبيعية الهائلة وهي تريد أن تتحكم في نفطها وغازها وذهبها وباقي مواردها كما تتحكم في نفط الشرق الأوسط وهو أمر لن يمكنها منه إلا إسقاط هذا النظام «البوتيني» الأوراسي المعتد بالتاريخ الروسي والشخصية القومية الروسية ويتباهى بأنه أكبر يابسة على الأرض وثاني أكبر قوة عسكرية تقليدية في العالم بعد حلف الناتو وأنه أول قوة نووية تكتيكية ويتساوى مع أمريكا في القوة النووية الاستراتيجية وإنه بلد العباقرة ديستويفسكي وتشيكوف وبافلوف وسيمينيوف و30 حائزا على جائزة نوبل.. إلخ، مما يصعب حصره من أسماء عملاقة ضربت بسهم وافر في الحضارة الإنسانية. بعبارة أوضح إنه إذا كانت واشنطن البعيدة آلاف الأميال عن الحرب الأوكرانية تعتبرها مصلحة عليا للأمن القومي الأمريكي فإن روسيا المنخرطة مباشرة في الحرب تعتبرها مسألة وجودية أي مسألة حياة أو موت.
3- نظرية عض الأنامل ومن يستسلم أولا: هنا يبدو أن نظرية عنترة بن شداد القادم من عصر الفروسية والسيوف وليس صواريخ جافلين الأمريكية أو صواريخ اسكندر الروسية هي من سيحسم مصير الحرب ويحدد متى تسكت المدافع. فما هو منسوب للشاعر والفارس العربي القديم إنه قال: إن النصر أو الشجاعة صبر ساعة وأنه قيل له (بم غلبت العرب في المعارك؟ قال: بالصبر.
والعض على الأصابع في عصرنا هو الاقتصاد وقدرته على تحمل فاتورة الحرب.
معظم التقديرات الدولية تقول: إن أمريكا آخر من سيتضرر بالحرب وأن الدول النامية وروسيا وأوروبا يتضررون قبلها بنفس الترتيب، وهناك من يرى أن أمريكا ستكون رابحة من الحرب وهناك تقارير متزايدة تشير إلى أن إعادة الاقتصاد الأمريكي المتضخم بفعل كورونا والتوسع المذهل في طباعة النقود أثناءها كان أحد الأسباب الرئيسة لاستدراج روسيا لشن الحرب فمن ناحية تتعزز صناعة الأسلحة الأمريكية بمئات المليارات من الدولارات التي ستتدفق عليها من الدول الأوروبية بعد أن دفعتها هستيريا الحرب إلى الإنفاق العسكري الكبير مرة أخرى ومن ناحية أخرى فإن رفع سعر الفائدة الأمريكي سيجتذب مزيدا من الاستثمارات الأوروبية في سندات الخزينة الأمريكية.
إذا أمريكا ليست مستعجلة لإنهاء حرب لا يموت فيها أبناؤها كما كان الحال في العراق وأفغانستان مثلا.
الروس بالمقابل وإن كان جنودهم يموتون في المعركة إلا أنهم لديهم تقديرات متفائلة عن اقتصادهم الوطني وقدرته على الصمود في وجه العقوبات الغربية. فهم يتحدثون عن تفوق الصادرات الروسية على الواردات وارتفاع سعر الروبل وحدوث انخفاض في التضخم.
لكن مشكلة الولايات المتحدة أن لها حلفاء في العالم لا تستطيع تركهم ينهارون ويعلنون إفلاسهم وكذلك فإن حلفاءها في أوروبا بدأوا يعانون بقسوة بسبب ارتفاع فاتورة الطاقة والتضخم المتزايد وقد لا يأتي أكتوبر المقبل إلا وهم يعانون معاناة حادة فهل ستدفع الضغوط من الحلفاء الأوروبيين وغير الأوروبيين؛ واشنطن إلى الموافقة على وقف الحرب دون إذلال روسيا كما طالب الرئيس الفرنسي ماكرون؟ ونفس الأمر ينطبق على روسيا فإن استمرار الحرب حتى الخريف قد يوقع اقتصادها في مأزق كبير فهل سيجعلها ذلك حريصة على تحقيق حسم سريع على الأرض في كامل «دونباس» تفاوض به على تسوية مشرفة تثبت فيه أنها لن تقع في نفس الفخ مرتين وتحول دون أن تصبح أوكرانيا المستنقع الجديد الذي يقضي على نظام بوتين كما كانت أفغانستان المستنقع الذي أسقط نظام الاتحاد السوفييتي.
سنرى من سيصرخ أولا؟؟
حسين عبدالغني كاتب وإعلامي مصري