إن التدافع سنة كونية وجدت منذ أن وجد البشر على هذه البسيطة، ولطالما كان الاختلاف سببا في تطور الحضارة البشرية في شتى المجالات خيرا كانت أم وبالا على البشرية كتطور الأسلحة والتسلح الجائر في سبيل صهر الآخر وإخضاعه.

في تاريخنا العربي الإسلامي، نجد نماذج كثيرة على النتيجة النافعة للتدافع والاختلاف؛ ففي اللغة على سبيل المثال كان الشعراء يتحدى بعضهم بعضا كلٌّ بلغة قومه وقبيلته وإقليمه -ما نُسميها اللهجة اليوم- وفي صدر الإسلام ومنذ قرنه الأول ظهرت المدارس والآراء الفقهية، وهو ما سرى على المدارس النحوية كذلك من مدرستين كوفية وبصرية.

كانت الفردانية حاضرة بقوة، وفي الوقت عينه كان رؤوس المدارس أشبه شيء بالشمس التي تدور حولها الكواكب -تلامذتهم ومريديهم- فكُلّ كوكب يدور حول الشمس، يدور حول نفسه كذلك؛ وهكذا كان التلامذة الذين أصبحوا أئمة في فنون العلم التي برعوا بها دون أن يؤثر ذلك عليهم بالسلب أو أن ينسلخوا وينقلبوا على أساتذتهم في سبيل تعزيز سطوتهم وإبراز معرفتهم، فيسعى كل واحد منهم لإخضاع الآخر وصهره في بوتقته فحسب.

اليوم، ورغم التطور الهائل الذي يتيح لكل من جد في سعيه أن يكون قبلة في الفن الذي يتقنه ويجيده، نجد أن المرء يواجه عقبات أجدر بأن تُضمّن في كتب الطرائف والنوادر منها أن تكون واقعا مؤلما يجب التعامل معه وعلاجه بجدية تامة، أعني بذلك الشللية الجائرة التي تقصي الآخر وتحجب عنه سبل الوصول للجمهور والقراء.

في أمسنا القريب وفي بدايات القرن العشرين تحديدا، ظهرت المدارس الشعرية كمدرسة الإحياء ومدرسة التجديد وجماعة أبولو، ومدرسة الشعر الحرّ؛ ومهما كان اختلاف مدرسة عن الأخرى، فإن هدفها الأسمى والمشترك كان يصب في صالح الشعر واللغة، فرغم اختلاف المصادر إلا أن المورد العام الذي تعود إليه كان مشتركا وهو المعرفة.

مما أسهم بظهور هذه المدارس وتطورها وتطور الشعر تباعا، وجود صحافة حرة وتسامح مع الآخر -رغم المناوشات القليلة بينهم هنا وهناك- أتاح لكل مدرسة أن تبرز أفكارها ورؤاها عن الشعر واللغة والأدب دون إضرار أو إقصاء لمخالفيهم. ولم يكن ذلك ليتم في جو تسوده الشللية السامة التي هي أشبه شيء بكونها ديكتاتورية ثقافية بدلا من أن تكون رافدا ثقافيا يدفع عجلة التقدم للأمة بأسرها بإقصائها للآخر وتطرفها. فلم يكتف الأدب بأن يكون شيئا ثقافيا بحتا، بل أصبح رافدا اقتصاديا يحتل مكانته المرموقة ضمن ما يعرف باقتصاد المعرفة.

فنجد في مصر المقهى الذي كان يجلس فيه نجيب محفوظ، وفي تركيا متحف البراءة لأورهان باموق، وفي اليونان لا زالت التحف والتماثيل الصغيرة للفلاسفة والحكماء تصنّع وتباع بأعداد هائلة كلها يصب في مصلحة الأمة وتحريك اقتصادها السياحي والمعرفي، رغم ما لكل واحد من هؤلاء من نقيض معرفي أو فكري أو أدبي.

أما في الشللية الجائرة، فتسعى ثلة من المثقفين لوأد كل برعم ثقافي إما خوفا من أن يحتل مكانها ويحيلها إلى الغروب، وإما لأهواء مرضية في سبيل بقائها متصدرة للمشهد الثقافي وطمس كل ما لا يروق لها، وكأنما كل شلة من الشلل تركب زورقا صغيرا ويحاول كل طرف أن يكسر مجاديف الآخر وكأنما هم في فلج صغير لا يتسع للجميع، وليس بحرا شاسعا يتسع لهم جميعا!.

هل كان لنجيب محفوظ أعداء؟ هل كل الأدباء التُّرك منضوون تحت راية باموق؟ هل كانت المدارس الفلسفية متفقة مع بعضها؟ سؤالات تومض كلما نظرنا إلى الإقصاء الأدبي الفكري المعرفي الذي تمارسه الشلليات الجائرة في سبيل يضرها هي أولا قبل أي طرف آخر. ولأن السنة الكونية تقضي بأن يتحرك الماء ليسوغ شرابه، وأن كل إشراقة يتبعها غروب؛ فلماذا لا نجد تعاونا معرفيا ينهض بأمتنا ويحفظ مكانة كل مدرسة لنستمتع بنتاج معرفي مشترك يعود علينا بالثراء المعرفي والحضاري ونتصالح مع الاختلاف مع حفظ حقه بلا ضرر ولا ضرار؟