ماذا تعني الكتابة إن لم تكن محاولة لتحقُق العدالة واقعيا، عبر النبش في الملفات المتراكمة أو المركونة في أقبية النسيان، وإذا عجزت الكتابة التاريخية عن إثبات الوقائع أو فقدت حلقات التسلسل الزمني، فإن الكتابة الأدبية المستندة على التخييل تبني الحدث وتتبناه، والأدب كما يصفه تودروف في كتابه (الأدب في خطر، ترجمة عبدالكبير الشرقاوي) «لا ينشأ في الفراغ بل في حضن مجموع من الخطابات الحية، التي يشاركها في خصائص عديدة،.. الأدب يفتح إلى اللانهاية إمكانية هذا التفاعل مع الآخرين وهو إذن يُثرينا لا نهائيا». هذه الإثارة اللامتناهية يجدها القارئ في رواية عشب الليالي، للروائي والكاتب الفرنسي باتريك موديانو (1945-) الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2014، تكريما له على «الاعتناء بفن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصيانا على الفهم وكشف عالم الاحتلال».
ومن يقرأ لباتريك موديانو، يجد طريقته في كتابة تفاصيل التفاصيل في مدينة باريس، شوارعها، مقاهيها، حاناتها، وفنادقها، وجسورها.
ويظهر ذلك بوضوح في روايتيه (مقهى الشباب الضائع، وصبية طيبون). فهو راصد للأحداث وواصفها وموثقها، ففي روايته (عشب الليالي، الصادرة سنة 2012، والمترجمة إلى العربية 2014، بترجمة توفيق سخان، والمنشورة عن دار ضفاف ودار الاختلاف)، نجد تقاطعا بين الكاتب وبين الراوي جون، صاحب المفكرة السوداء التي يدوّن فيها كل شيء، بل ونابشا للماضي الذي نصحه المحقق لا نغلي في الرواية بأن «لا يجب النبش في الماضي كثيرا».
لكن ما أهمية الماضي في رواية عشب الليالي بالنسبة للقارئ العربي؟!.
تكمن قيمة الرواية في تناولها للأجواء العامة في باريس في ستينيات القرن الماضي وإرهاصات ثورة التحرير الجزائرية التي تكللت بإعلان استقلال الجزائر سنة 1962، وقصة اختطاف المناضل المغربي المهدي بن بركة (1920-1965) زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المغربية، وأحد أهم الأصوات النضالية المدنية في العالم الثالث، وكان قبل اختطافه يُحضّر مع عدة شخصيات نضالية عالمية لانعقاد مؤتمر القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد انعقد المؤتمر في بداية سنة 1966، في العاصمة الكوبية هافانا. ولم يُعثر إلى الآن على جثة المهدي بن بركة، رغم مرور أكثر من نصف قرن على اختطافه في باريس في أكتوبر 1965.
يقول الراوي جون في عشب الليالي «كنا نفترش نحن الاثنين -هو والشابة داني المشاركة في عملية الاختطاف- مقعدا من الأرض المكورة ما بين محطة سيارات الأجرة وفندق تاران، كان علي أن أعلم أنه في السنة القادمة أن جريمة أرتكبت هناك، على ذلك الرصيف، وراءنا. لقد تم اقتياد رجل سياسي مغربي في سيارة -سيارة للأمن كما زعم حينها- لكن الأمر كان يتعلق بعملية اختطاف وبعد ذلك بجريمة» ص83.
كان الروائي والكاتب باتريك موديانو يعيش في سن العشرين، ويعيش حياة الشوارع إبان اختطاف بن بركة، وعبر رواية عشب الليالي، يحاول عبر عدة شخصيات في الرواية مشاركة في عملية الاختطاف وقد أطلق عليهم لقب عصابة مونبارناس، منهم جورج مدير فندق أونيك الذي تنطلق منه الحكاية، وكذلك المغربي أغاموري، وبول شاشستاني، ودوفيلتز، وجيرار مارسانو، والشابة داني التي تحمل عدة أسماء منها ميراي سامبيري، وتختفي خلف أكثر من هوية، والمحقق لانغلي الذي أعطى بعد تقاعده ملفًا للراوي جون، يكتشف من خلاله الأسماء الحقيقية لعصابة مونبارناس، ومهامهم الوظيفية وعلاقتهم بعملية الاختطاف.
هكذا يعيننا الأدب على محاولة التوصل إلى الحقيقة، فيتخفف الضمير من وطأة الذنب عبر البوح والسرد، ناهيك عن التزام الكاتب بالقضايا الإنسانية العادلة، والتي لم تستطع عدالة البشر من إنصافها أو تبنيها.
ومن يقرأ لباتريك موديانو، يجد طريقته في كتابة تفاصيل التفاصيل في مدينة باريس، شوارعها، مقاهيها، حاناتها، وفنادقها، وجسورها.
ويظهر ذلك بوضوح في روايتيه (مقهى الشباب الضائع، وصبية طيبون). فهو راصد للأحداث وواصفها وموثقها، ففي روايته (عشب الليالي، الصادرة سنة 2012، والمترجمة إلى العربية 2014، بترجمة توفيق سخان، والمنشورة عن دار ضفاف ودار الاختلاف)، نجد تقاطعا بين الكاتب وبين الراوي جون، صاحب المفكرة السوداء التي يدوّن فيها كل شيء، بل ونابشا للماضي الذي نصحه المحقق لا نغلي في الرواية بأن «لا يجب النبش في الماضي كثيرا».
لكن ما أهمية الماضي في رواية عشب الليالي بالنسبة للقارئ العربي؟!.
تكمن قيمة الرواية في تناولها للأجواء العامة في باريس في ستينيات القرن الماضي وإرهاصات ثورة التحرير الجزائرية التي تكللت بإعلان استقلال الجزائر سنة 1962، وقصة اختطاف المناضل المغربي المهدي بن بركة (1920-1965) زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المغربية، وأحد أهم الأصوات النضالية المدنية في العالم الثالث، وكان قبل اختطافه يُحضّر مع عدة شخصيات نضالية عالمية لانعقاد مؤتمر القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقد انعقد المؤتمر في بداية سنة 1966، في العاصمة الكوبية هافانا. ولم يُعثر إلى الآن على جثة المهدي بن بركة، رغم مرور أكثر من نصف قرن على اختطافه في باريس في أكتوبر 1965.
يقول الراوي جون في عشب الليالي «كنا نفترش نحن الاثنين -هو والشابة داني المشاركة في عملية الاختطاف- مقعدا من الأرض المكورة ما بين محطة سيارات الأجرة وفندق تاران، كان علي أن أعلم أنه في السنة القادمة أن جريمة أرتكبت هناك، على ذلك الرصيف، وراءنا. لقد تم اقتياد رجل سياسي مغربي في سيارة -سيارة للأمن كما زعم حينها- لكن الأمر كان يتعلق بعملية اختطاف وبعد ذلك بجريمة» ص83.
كان الروائي والكاتب باتريك موديانو يعيش في سن العشرين، ويعيش حياة الشوارع إبان اختطاف بن بركة، وعبر رواية عشب الليالي، يحاول عبر عدة شخصيات في الرواية مشاركة في عملية الاختطاف وقد أطلق عليهم لقب عصابة مونبارناس، منهم جورج مدير فندق أونيك الذي تنطلق منه الحكاية، وكذلك المغربي أغاموري، وبول شاشستاني، ودوفيلتز، وجيرار مارسانو، والشابة داني التي تحمل عدة أسماء منها ميراي سامبيري، وتختفي خلف أكثر من هوية، والمحقق لانغلي الذي أعطى بعد تقاعده ملفًا للراوي جون، يكتشف من خلاله الأسماء الحقيقية لعصابة مونبارناس، ومهامهم الوظيفية وعلاقتهم بعملية الاختطاف.
هكذا يعيننا الأدب على محاولة التوصل إلى الحقيقة، فيتخفف الضمير من وطأة الذنب عبر البوح والسرد، ناهيك عن التزام الكاتب بالقضايا الإنسانية العادلة، والتي لم تستطع عدالة البشر من إنصافها أو تبنيها.