لم يعرضني حادث أو سائل من قبل للسؤال عن هوية الكائن الأول الذي تبادل اللغة معي، يوم أن ولدتُ فأدركتُ وجودي مصادفة عن طريق اللغة، تمامًا كما يُفكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي انتهت رؤيته الفلسفية حول اللغة وعلاقتها بالكينونة إلى اعتبار اللغة «بيت الكائن». واليوم، تحين الكتابة، في غمرة مراجعاتها الذاتية، لتجعلني في مواجهة هذا السؤال الافتراضي المؤجل عن مصدر اللغة الأول، السؤال الذي أدخل من خلاله لكتابة هذه السطور معتقدًا أن بوسعي حسم الالتباس حوله بإجابة هي افتراضية أيضًا، أطلقها الآن مغمضَ العينين: كانت أمي هي صوت اللغة الأول الذي أتعرّف عليه. ليست هذه الإجابة من قبيل الحنين أو العرفان للأشياء الأولى، بل هي محاولة لاستيعاب سر ما أتذكره من الانحياز اللغوي المبكر والاستقطاب الشديد إلى الأم الذي بدأ منذ لحظة الميلاد، وأخذ يتطور تدريجيًّا في ظل الإحساس بالمعنى وغياب الوعي باللغة التي تقوله وشبكة علاقاتها؛ فلطالما كانت المعاني موجودة دائمًا، بل إنها مطروحة على الطريق كما يقول الجاحظ، إلا أنها تظل خرساء وفي حالة تفتش مستمر عن اللغة وتوسل للتعبير المناسب. لا شك أيضًا أن هذا الافتراض قد يفضي إلى افتراض آخر يرى في الأم قطبًا مقابلًا للأب بسلطته اللغوية والاجتماعية، وهو افتراض ينطبق على تجربتي مثلما ينسحب على تجارب شريحة واسعة من الأبناء، دون أن يكون حالة قطعية تشمل الجميع، خاصة أن للأنثروبولوجيين آراء أخرى تحوم حول حقيقة هذه المسألة، وسنأتي على ذكر بعضها في نهاية هذه المادة.

كانت الأم أول من دلني على اللغة وآخر من مضى يدلني فيها، إذ كانت الحاجة إلى مرشد لغوي لا تقل ضرورة عن الحاجة إلى المرشد الديني أو المربي، وقد يستطيع أستاذ اللغة أن يختصر في ذاته غالبًا البعد الديني والبعد التربوي ليقدمهما معًا على مائدة اللغة. وهكذا نمت صلة القربى الأولى على قيد اللغة وتفرعت، ومن لسان الأم ولد معجم الأسماء والأشياء والكائنات، وأصبحت الطبيعة مألوفة وقريبة أكثر إلى الحد الذي يصبح الجسد فيه جزءًا أصيلًا منها. وإلى وقت متأخر من الطفولة ظلت الأم تلعب هذا الدور الحيوي في تكوين لغتي، لغة الحياة التي ربتها ببصيرة السمع وحدها، لا بدروس القراءة والكتابة، تلك اللغة الأمية التي تشغل بها مساحات الصمت المفتوحة في الغياب المتكرر للأب عن فضاء اللغة المنزلية. وهي اللغة التي سأقلدها وأتقلدها أنا بدوري، وآخذها معي إلى دفتر التمارين الشعرية المتعثرة في بداية البدايات، نحو المستقبل الحلم الذي تعثر فيه لغتي الخاصة على شخصيتها واستقلالها، منقلبة وثائرة على آبائها الكثر، وأمهاتها الكثيرات، من الشعراء والخطباء وسادة القول الذين تمكنوا بتأثيرهم الجارف من احتلال رتبة الملهمين وفرض معجمهم على اللسان الطيع. وبالنسبة لأي طفل يلتقي بنفسه فجأة داخل هذا الحيز المادي الضيق من الوجود، المتمثل في البيت بكل عناصره المادية والمعنوية، فإن اللغة هي الأداة الماسة لاكتشاف العالم الخارجي الهائل الذي يتضاءل ويتحدد بفعل الكلمات، وهي أيضا أداة ناجعة لسبر أغوار ومتاهات العالم الداخلي الذي تحوله المرادفات والأضداد إلى كون شاسع. هنا بدت اللغة وكأنها حاسة جديدة للتعرُّف على الملمس الأصلي للوجود ـ الصدفة هذا، على الأرض المأهولة هذه التي تصبح وطنًا عما قريب، وفي قلب اللغة العربية التي تصبح لغةً أمًا.

كان من المهم أن أنتبه لهذا الانحياز اللغوي المبكر نحو لغة الأم وثقافتها على حساب لغة الأب وثقافته، وهو انحياز سلكته لغتي بشكل عفوي في سنوات تخلقها الأولى على لساني وفي وعيي. وربما كان الشعور بالاغتراب، مهما كان لحظيًّا وعابرًا، هو الباعث وراء هذا الانكماش على اللغة التي تمنحها الأم، كونها نقطة الارتكاز النفسية في مهب المتغيّرات الكبرى الطارئة على حياة الطفل، ولكونها أيضًا مصدر الثقة العمياء. ومع ذلك، فإن توفر عدد من التناقضات المنطقية يجعل من التأمل في فرضية «لغة الأم» مسألة بالغة التعقيد فوق ما نتخيل؛ فمن ناحية أخرى يلعب الإعجاب بالأب في مرحلة ما من الصبا دورًا مهمًّا في اقتفاء لغته، إلى جانب انتمائنا إلى حياة اجتماعية تفترض في الغالب أن ينشأ الأبناء في أحضان عائلة الأب الكبرى، حيث سيصبحون بالضرورة معرضين بشكل مباشر إلى لغة الأب وعادات عائلته.

وبعيدًا عن هذه السياحة الأدبية والثقافية حول فكرة اللغة وحمولتها الأمومية والأبوية، من المهم أيضًا أن نستبصر رأي العلم في مدى التأثير اللغوي الذي يتمتع به أحد الجنسين (الأبوين) على حساب الآخر عندما يتعلق الأمر بتعليم الطفل لغة جديدة. لقد أثبتت دراسة أجراها باحثون من مختبر الأنثروبولوجيا المعاصرة بجامعة فودان الصينية بطلان الاعتقاد السائد قديمًا بأن الأطفال يكتسبون لغتهم الجديدة حصريًّا من الأمهات، إذ اعتبرته الدراسة مجرد صيحة قديمة ليس لها أصل علمي. في حين خلُصت نتائجها للقول بأن كلا الوالدين لهما تأثير ما في اكتساب اللغة عند الطفل، وذلك وفقًا لمجالات مختلفة.

ودائمًا ما يكون مصطلح «اللغة الأم» مبعثًا للالتباس في هذه المسألة، لا سيما عندما لا يُفرق المتحدثون بينه ومصطلح «لغة الأم». وفي دراسة صادرة عن جامعة جنيف عام 1997، قدم الباحثون نظرية جديدة تُطيح بمفهوم «اللغة الأم» (Mother Tongue)، مؤسسين لفرضية «Father Tongue» التي تقترح أن البشر أكثر ميلًا لتعلم اللغة من آبائهم على حساب لغة أمهاتهم. وبين الآراء العلمية والانطباعات المتراكمة عن التجربة الشخصية تنسج الكلمات علاقاتنا بالأشياء من حولنا وتصبح اللغة وجودًا بجد ذاته كما يرى هايدغر.