ـ 1 ـ

كان مطلوبا مني سجل ذاتي يتضمن تفاصيل عائلتي وعائلات عائلتي. أسماء ومهن. وأولاد وأحفاد، من الجد الأخير إلى الأحفاد الأخيرين. فكتبت، وأنا ممتلئ خيبة وشرا.

أنت تريد أن تعرف «العالم» لتعرف من «أنا». سأحاول أن أقول لك من «نحن»:

نحن مصابون بفايروس الفكرة المغشوشة عن الذات.

نحن طغاة صغار حين نصبح مسؤولين، ومتسولون صغار، عندما نقعد ونتقاعد.

نحن أولاد نرجسية وطنية مرتبكة، لأننا، عند الامتحان، نعود إلى النصف الخسيس من المرايا... العشيرة والقبيلة والعائلة، وحيّز الحيوان الجغرافي.

نحن مصابون بدهاء الفرد، وغباء الجماعة، وتشوهات «زواج العقارب».

نحن مصابون بمرض «الذل عن بعد» حيث ينتصر علينا من يشاء. يبدأها بالحرب النفسية، ويختمها بالحرب العسكرية، ويحصدها بالنتائج الاقتصادية.

نحن شعوب تمنح نصر العدو مكافأة أكبر من هزيمتها.

نحن من يعتبر «الهزيمة» و«الوليمة» من جذر لغوي واحد.

نحن مصابون بمرض إيدز الخلاف على التسمية: هل الإيدز مرض نقص المناعة المكتسبة أم مرض الوصال العابر؟ وعندما خف ارتباكنا المذعور من الإيدز... اخترع المال الأسود وباء الكورونا.

نحن في حاجة إلى تعلّم الحب كمادة امتحانية مرسّبة، لا لكي يزداد عدد السكان، بل لكي يتحسن إنجاب الحياة.

نحن في حاجة إلى حاضر نصنعه، وليس إلى ماضٍ نستعيده.

ونحن...

وهنا دخل رجل ضخم، وأمسك بهذه الأوراق، قرأ الأسطر الأولى. بدا عليه الاستغراب من شدة الخروج عن الموضوع. أخذها. وأغلق الباب، أقفله (مجازيا) ولم يعد حتى الآن.

ـ 2 ـ

مهند أبو رزق مخرج فلسطيني قدم سلسلة من الأفلام الحقيقية التي تروي قصة غريبة من شارع وواقع الحياة.

ولهذا المخرج أسلوب تعمّد البساطة البصرية. يريك ما يلزم الحكاية الغريبة لكي تروى وتمتع وتحزن ولا تنسى... بعدد من الصور الأبيض والأسود لأنها عن/ وفي زمن فلسطيني يؤرخ بداية المأساة عبر حكاية تتألف من 199 كلمة تروي قصة حب مستعينة بأقل من عشرة مشاهد صامتة، باسم «حبيبي استشهد».

«ها القصة عمري ما قلتها لحدا» نسمع صوت عجوز ونرى منديلها الأبيض وهي تتعكز في برية باتجاه صخرة كانت «ساعي بريد» فتاة تحب فتى... عن طريق رسائل توضع تحت صخرة تقع في الحد الفاصل بين أرضي العاشقين.

«وذات يوم ترك لي رسالة من كلمة واحدة... سامحيني» تقول الفتاة: فكتبت له ردا «ليش؟»

«أنا زعلت. بس كل ما بقيت أروح أتفقد تحت الصخرة... ألاقي رسالتي في محلها».

ثم تعرف أنه من بين ثلاثة استشهدوا.

«الكل عيّط. بس أنا عيّطت قدهم كلهم. كتبت له رسالة أخيرة. وما عمري شلتها حتى طلعنا نحن من البلاد...»

«وظلت الرسالة محلها».

مذ رأيت الفيلم وأنا أستعمله كدواء لتجميل الحزن العميق الذي لا رادّ له!

ـ 3ـ

قررت زيارتها.

كانت لا تسمع، وبصرها ضعيف، وصوتها مزمار مكسور، كانت منحنية كأنما لصلاة سريعة بعد عشاء خفيف.

وكانت منهمكة بحياكة طريق أخضر على كنزة صوفية صفراء، بدأتها قبل عشر سنوات.

قلت لها: متى سيأتي العشاق إلى هذا الطريق الذي لا ينتهي في كنزتك؟

«الطريق الجميل... لا ينتهي».

هكذا أجابت صبيتنا الجميلة قبل خمسين عاما من حياكتها لصوف الأيام.

ـ 4ـ

من دفتر قديم:

الرجال الفاسدون... أحذية المستنقع!