في مشهد من فيلم "اضحك الصورة تطلع حلوة" للكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة يشبّه بطله (أحمد زكي) الحياة بالصور، فيها صور جميلة، وأخرى ليست كذلك، وينصح بأنّنا، لكي نكمل حياتنا، علينا أن نحتفظ بالصور الجميلة، الناجحة، ونمزّق الأخرى الفاشلة، وفي رحلة الحياة، تمرّ بالإنسان أيّام فيها الحلو، والمرّ، يقول الشاعر:
رأيت الدهر مختلفا يدور
فلا حزنٌ يدوم ولا سرور
وقد بنت الملوك به قصورا
فلم تبق الملوك ولا القصور
وتبقى الأيام الجميلة عالقة في الذاكرة، محفورة في الوجدان، مثلما حفر (يوم الطين) في وجدان (اعتماد الرميكية) زوجة المعتمد بن عبّاد، آخر ملوك بني العباد في الأندلس، وكان شاعرا، وفارسا، وشجاعا، وقد يتساءل سائل: كيف يمكن للطين أن يكون عنصرا جميلا في ذاكرة، بل ويصبح يومه، يوما مشهودا في تاريخ العاطفة الإنسانية، والرغبات الغريبة التي تساور النفس البشرية؟ كيف تسنّى للطين أن يفعل كلّ ذلك، وهو الذي كان يعرقل سيرنا إلى المدارس.
بعد نزول الأمطار على الطرق التي لم تكن معبّدة؟ كيف يصنع الطين الجمال، وهو الذي وصفه إيليا أبو ماضي بـ(الحقير) في دلالة رمزية بقصيدة (الطين) التي مطلعها:
نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها وعربد؟
وسرعان ما نجد الجواب الشافي في حكاية المعتمد مع زوجته (اعتماد) التي كان يحبّها كثيرا، ولا يتردّد في تلبية أيّ طلب، وتنفيذ أيّة رغبة، حتى لو كانت لا تتناسب مع المكانة العالية التي يحتلّها كملك، وكما ذكر المقريزي، أنّ اعتماد أطلت من شرفة القصر، ذات يوم، "فرأت القرويّات يمشين في الطين فاشتهت أن تمشي هي أيضا في الطين، وحدّثت زوجها بذلك فخاف على قدميها أن يمسّها الطين، فألحّت عليه، فأمر الملك أن يؤتى بالمسك، والعنبر وأنواع الطيب المختلفة، فطحنت، وصبّت في صالة القصر، ثم أمر أن يأتوا بماء الورد، ويصبوه على الطيب... وعجنوه بالأيدي حتى أصبحت كالطين، وعندئذ جاءت اعتماد مع جواريها تتهادى بينهن، فخاضت بقدميها في هذا الطين الذي بلغت أثمانه آلاف الدنانير، وحققت رغبتها ومشت في الطين، هذه الحكاية صاغها الكاتب وليد سيف في مسلسل "ملوك الطوائف" للمخرج الراحل حاتم علي، ففي مشهد مؤثر يظهر المعتمد، وقد تغيّر به الحال، وبلغ حدّ أن تصدّق خادمه على بناته، فرفض ذلك بالطبع، لكنّ زوجته لم ترَ في الأمر شيئا، بعد أن آل الحال بهما، بعد زوال الملك، إلى ما كانا عليه، وأصرّ على رفضه، مذكّرا إيّاها لما كان ملكا، فقالت له وأين نحن اليوم مما كنا عليه؟ "أين هو موكبك؟ والله ما رأيت منك خيرا قط... فقال لها المعتمد: ولا يوم الطين...؟"، فخجلت منه، واعتذرت، وذهب قول المعتمد (ولا يوم الطين) مثلا، فقد خرج الطين من كونه مادة لزجة، تعلق بالأقدام في الأيّام الممطرة، إلى ذكرى عزيزة على النفس.
وهكذا نستطيع أن نجعل من التفاصيل العادية علامات تعلق في ذاكرتنا، مثلما تعلق تفاصيل أيّام الأعياد، فمهما تراكمت هموم النفس، ومتاعب الحياة، تبقى ذكريات الأعياد تشكّل محصّلة من الصور الجميلة العزيزة على النفس، خصوصا ذكريات الأعياد أيّام الطفولة، تلك التي تظلّ محفورة في الروح، مهما مرّت الأيام، وعلى بساطة تلك الأفراح التي تتمثّل بارتداء ثوب جديد، ولقاءات الأهل، والحصول على (عيديات)، وهدايا، وحضور تجمّعات تعزف فيها الموسيقى التقليدية، وتؤدّى الأغاني الشعبية، والتوجّه إلى أماكن فيها الأراجيح ودواليب الهواء، واليوم حين نرى فرحة العيد مرسومة على وجوه الأطفال نستعيد تلك الأوقات الجميلة، على بساطتها، مثلما جعل المعتمد بن عبّاد زوجته اعتماد تستعيد ذلك اليوم الجميل.. يوم الطين السعيد.
رأيت الدهر مختلفا يدور
فلا حزنٌ يدوم ولا سرور
وقد بنت الملوك به قصورا
فلم تبق الملوك ولا القصور
وتبقى الأيام الجميلة عالقة في الذاكرة، محفورة في الوجدان، مثلما حفر (يوم الطين) في وجدان (اعتماد الرميكية) زوجة المعتمد بن عبّاد، آخر ملوك بني العباد في الأندلس، وكان شاعرا، وفارسا، وشجاعا، وقد يتساءل سائل: كيف يمكن للطين أن يكون عنصرا جميلا في ذاكرة، بل ويصبح يومه، يوما مشهودا في تاريخ العاطفة الإنسانية، والرغبات الغريبة التي تساور النفس البشرية؟ كيف تسنّى للطين أن يفعل كلّ ذلك، وهو الذي كان يعرقل سيرنا إلى المدارس.
بعد نزول الأمطار على الطرق التي لم تكن معبّدة؟ كيف يصنع الطين الجمال، وهو الذي وصفه إيليا أبو ماضي بـ(الحقير) في دلالة رمزية بقصيدة (الطين) التي مطلعها:
نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها وعربد؟
وسرعان ما نجد الجواب الشافي في حكاية المعتمد مع زوجته (اعتماد) التي كان يحبّها كثيرا، ولا يتردّد في تلبية أيّ طلب، وتنفيذ أيّة رغبة، حتى لو كانت لا تتناسب مع المكانة العالية التي يحتلّها كملك، وكما ذكر المقريزي، أنّ اعتماد أطلت من شرفة القصر، ذات يوم، "فرأت القرويّات يمشين في الطين فاشتهت أن تمشي هي أيضا في الطين، وحدّثت زوجها بذلك فخاف على قدميها أن يمسّها الطين، فألحّت عليه، فأمر الملك أن يؤتى بالمسك، والعنبر وأنواع الطيب المختلفة، فطحنت، وصبّت في صالة القصر، ثم أمر أن يأتوا بماء الورد، ويصبوه على الطيب... وعجنوه بالأيدي حتى أصبحت كالطين، وعندئذ جاءت اعتماد مع جواريها تتهادى بينهن، فخاضت بقدميها في هذا الطين الذي بلغت أثمانه آلاف الدنانير، وحققت رغبتها ومشت في الطين، هذه الحكاية صاغها الكاتب وليد سيف في مسلسل "ملوك الطوائف" للمخرج الراحل حاتم علي، ففي مشهد مؤثر يظهر المعتمد، وقد تغيّر به الحال، وبلغ حدّ أن تصدّق خادمه على بناته، فرفض ذلك بالطبع، لكنّ زوجته لم ترَ في الأمر شيئا، بعد أن آل الحال بهما، بعد زوال الملك، إلى ما كانا عليه، وأصرّ على رفضه، مذكّرا إيّاها لما كان ملكا، فقالت له وأين نحن اليوم مما كنا عليه؟ "أين هو موكبك؟ والله ما رأيت منك خيرا قط... فقال لها المعتمد: ولا يوم الطين...؟"، فخجلت منه، واعتذرت، وذهب قول المعتمد (ولا يوم الطين) مثلا، فقد خرج الطين من كونه مادة لزجة، تعلق بالأقدام في الأيّام الممطرة، إلى ذكرى عزيزة على النفس.
وهكذا نستطيع أن نجعل من التفاصيل العادية علامات تعلق في ذاكرتنا، مثلما تعلق تفاصيل أيّام الأعياد، فمهما تراكمت هموم النفس، ومتاعب الحياة، تبقى ذكريات الأعياد تشكّل محصّلة من الصور الجميلة العزيزة على النفس، خصوصا ذكريات الأعياد أيّام الطفولة، تلك التي تظلّ محفورة في الروح، مهما مرّت الأيام، وعلى بساطة تلك الأفراح التي تتمثّل بارتداء ثوب جديد، ولقاءات الأهل، والحصول على (عيديات)، وهدايا، وحضور تجمّعات تعزف فيها الموسيقى التقليدية، وتؤدّى الأغاني الشعبية، والتوجّه إلى أماكن فيها الأراجيح ودواليب الهواء، واليوم حين نرى فرحة العيد مرسومة على وجوه الأطفال نستعيد تلك الأوقات الجميلة، على بساطتها، مثلما جعل المعتمد بن عبّاد زوجته اعتماد تستعيد ذلك اليوم الجميل.. يوم الطين السعيد.