كردة فِعل للعدوان الرُّوسي على أوكرانيا، اتَّخذت الدول الغربية مواقف حازمة من التراث الفني والثقافي الروسي طَالَ الفنانين الروس؛ كما قامت بعض الجامعات بمنع تدريس الأدب الروسي وذكرت ذلك الصحفية ألساندرا بوشي حين قالت إنَّ الجامعة الإيطالية الرئيسية في ميلانو حظرت تدريس أعمال الأديب التاريخي فيودور دوستويفسكي لأنه كاتب روسي! كما أوْقَفَتْ دور الأوبرا الغربية عقودها مع قادة الأوركسترا والمغنين الروس (المايسترو فاليري غيرغييف، والسوبرانو آنا نتربكو... وغيرهم)، رغم كونهم الأفضل في مجالهم في العالم وبالرغم من انتقادهم العلني للحرب إلا أن المؤسسات الغربية زعمت أن الانتقاد غير كاف ويجب على الفنانين سحب دعمهم لحكومة بوتين. وهنا يتضح جليًا إنَّ أوروبا «المتحضِّرة» قد وصلت إلى مستويات متدنية من الكراهية والعدوانية والازدواجية لم نكن نتصوَّرها في السابق.
وبهذا تنتهي أسطورة سُمو الفن فوق السياسة؛ حيث تمَّ تسخير الفن إعلاميًّا وسياسيًّا كنتائج حتمية لحرب طاحنة يموت فيها الأبرياء وتسقط معها أقنعة الديمقراطية والتسامح والانفتاح الزائفة. ومن هذا المنطلق، نُشدد على أنَّ هذا الرد العدائي، والتوظيف السياسي للموسيقى والفنون، ليس بالجديد على الثقافة الغربية؛ ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتزامنًا مع التوسُّع الاستعماري لأوروبا نحو الشرق، ظهر نوع جديد من الفن الاستشراقي الذي يُصوِّر الشرق في أبشع الصور، ويُروِّج «لشرعية» الاستعمار الأوروبي للشعوب الفقيرة، وطمس ثقافتها؛ بحجَّة تفوُّق العِرق الأوروبي الأبيض.
وتُمثِّل حروب الإمبراطورية العثمانية، وتوسعها في أوروبا، حُقبةً ثريةً لتوظيف الموسيقى في الحروب، خصوصًا بعد عشرات السنين من انحسار المدِّ الإسلامي في أوروبا، حيث شكَّل حصار الإمبراطورية العثمانية الفاشل على فيينا الخطوطَ الحاسمةَ لبداية انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقاسُم الدول الأوروبية لأجزائها المتفكِّكة في شرق أوروبا والدول العربية في الشرق الأوسط.
وفي سبيل ذلك يُمكننا تتبُّع افتتان الموسيقار النمساوي وولفجانج أماديوس موتسارت (1756-1791م) بالشرق من خلال الأعمال المؤثِّرة التي كتبها لهذا الموضوع. ومع ذلك -وفي هذه الأعمال نفسها- قد نشعر بتناقضاته في تصوير الشخصيات الذكورية الشرقية مثل: (ثاموس) ملك مصر، والسلطان (سليمان)، والباشا (سليم)، و (زاراسترو) أمين معبد الشمس، والذين تميَّزوا بخصال الصَّفح والتسامح والمغفرة، وبين (عُثمان) حارس جناح الحريم و(مونوستاتوس) الشرير حارس معبد الشمس والذين تميزوا بالعنف المفرط.
ومن أجل البدء في تقييم مفهوم موتسارت للآخر، سيركز البَحْث -بشكل أساسي- على إستراتيجيات موتسارت الموسيقية في أوبرا «الاختطاف من جناح الحريم» (1782م)، وهي أول أوبرا استشراقية مُكتملة له، وتجمع بين الأسلوب التركي (العسكري) والغربي في تجسيد واضح لحروب الإمبراطورية العثمانية مع جيرانها الأوروبيين.
موتسارت في فيينا (1781-1791)
بعد اختلافه مع رئيس الأساقفة في سالزبورج وطرده من البلاط، هاجَر موتسارت مسقط رأسه إلى فيينا في 1781 من أجل حريته وكرامته، رغم اعتراض والده واستقر في فيينا كعازف ومدرس للبيانو. وسرعان ما أثبت نفسه كأفضل عازف للآلة في فيينا وذاع صيته أيضًا كمؤلف موسيقي. وفي العام 1782م أكمَل أوبرا «الاختطاف من جناح الحريم» باللغة الألمانية، بعد أن كان الإيطاليون محتكرين لهذا اللون في فيينا. وحقَّقت هذه الأوبرا نجاحًا كبيرًا، إذ سُرعان ما تمَّ تقديم العمل في جميع أنحاء أوروبا الناطقة بالألمانية، ورسخ العمل سُمعة موتسارت كملحِّن عظيم.
العمل جاء في مرحلة مهمَّة من تاريخ فيينا، التي كانتْ تستعد للاحتفال بالذكرى المئويَّة لانتصارها على الإمبراطورية العثمانية، والتي حاصرتْ المدينة في عام 1683م وفشلت في اقتحامها. إلا أنه ليس بالغريب أن يختار موتسارت ثيمة «شرقية» لأوبراه الجديدة، والتي تدور أحداثها في إحدى المدن التركية -وتشمل الباشا النبيل (سليم)، وحراسه برئاسة حارس جناح الحريم (عثمان)- كما قام موتسارت بإضاقة الآلات العسكرية «التركية» التي كان النمساويون قد تعرَّفوا عليها خلال الحصار، والتي كانت تعزفها الفرق الانكشارية خارج أسوار فيينا، حيث كان الموسيقار الشاب يطمح في التقرب من البلاط الملكي النمساوي المعادي للتوسع العثماني.
حصار فيينا - 1529م
تاريخيًّا، فقد تعرَّضت فيينا لحصاريْن من قبل الإمبراطورية العثمانية في العام 1529م و1683م، وكان حصار فيينا في العام 1529م أوَّل محاولة من قبل الدولة العثمانية للاستيلاء على المدينة حيث هاجمَ السلطان سليمان القانوني المدينة بأكثر من 100,000 رجل، في حين أنَّ عدد المدافعين لم يكن يتجاوز 21,000. ومع ذلك، تمكَّنت فيينا من النجاة من الحصار الذي استمر ما يزيد على الأسبوعين، وبالتحديد من 27 سبتمبر إلى 15 أكتوبر من العام 1529م.
وجاء الحصار في أعقاب معركة موهاج في عام 1526م، والتي أسفرتْ عن وفاة لويس الثاني ملك المجر، ودخول المملكة في حرب أهلية. وبعد وفاة لويس، اختارتْ الفصائل المتنافسة داخل المجر خليفتيْن: الأرش دوق فرديناند الأول من النمسا بدعم من الهابسبورج، وجون زابوليا. وفي نهاية المطاف، طلب زابوليا المساعدة من الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت تابعةً لها بعد أن بدأ فرديناند في السيطرة على غرب المجر بما في ذلك مدينة بودا.
الهجوم العُثماني على فيينا كان جزءًا من تدخُّل الإمبراطورية في الصِّراع المجري، وعلى المدى القصير سَعَى إلى دعم موقف زابوليا. ويقدِّم المؤرخون تفسيرات مُتضاربة للأهداف العثمانية طويلة المدى بما في ذلك الدوافع وراء اختيار فيينا كهدف مُباشر للحملة. ويقترح بعض المؤرخين المعاصرين أنَّ الهدف الأساسي للسلطان سليمان القانوني كان تأكيد السيطرة العثمانية على كل المجر، بما في ذلك الجزء الغربي (المعروف باسم المجر الملكية)، والذي كان لا يزال تحت سيطرة هابسبورج النمساوية حيث كان السلطان سليمان ينوي استخدام المجر كنقطة انطلاق للتوسُّع غرب أوروبا. ولقد كان فشل حصار فيينا بمثابة بداية 150 عامًا من التوتر العسكري المرير بين الهابسبورج والعثمانيين، تخللتها هجمات مُتبادلة، بلغت ذروتها في حصار فيينا الثاني في العام 1683م.
حصار فيينا الثاني - 1683م
وَقَعتْ معركة فيينا في جبل كاهلينبيرج، بالقرب من فيينا، في 12 سبتمبر من العام 1683م، بعد أنْ حاصرتْ الإمبراطورية العثمانية المدينة لمدة شهرين. خاضتْ المعركة من قبل الإمبراطورية الرومانية بقيادة تآلف أوروبي شمل مملكة هابسبورج، والكومنولث البولندي والليتواني، وكلاهما كان تحت قيادة الملك جون سوبيسكي، ضد العُثمانيين ودولهم التابعة. وكانتْ المعركة هي الأولى التي يتعاون فيها الكومنولث والإمبراطورية الرومانية عسكريًّا ضد العثمانيين، وغالبًا ما كان يُنظر إليها على أنها نقطة تحوُّل في التاريخ الأوروبي لأنها شكَّلت بداية النهاية للتوسُّع العثماني في أوروبا. وفي الحرب التي تلتْ ذلك، والتي استمرتْ حتى العام 1699م، خَسِر العثمانيون كلَّ حروبهم وسيطرتهم على المجر تقريبًا أمام الإمبراطور الروماني ليوبولد الأول. وكانتْ القوَّات العسكرية العثمانية بقيادة الوزير الأعظم كارا مصطفى باشا، وبلغ عدد الجيش العثماني ما يقرب من 90,000 إلى 300,000 رجل، وبدأوا الحصار في 14 يوليو من العام 1683م وتألفت القوات العثمانية حينها من وحدات مختلفة، ودارت المعركة الحاسمة في 2 سبتمبر بعد وصول جيش الإغاثة الموحَّد.
الفرقة الانكشارية
شكَّلت الإمبراطورية العثمانية فِرقاً انكشارية من الأسرى، وتمَّ توظيف جزء منهم للانضمام للموسيقى العسكرية، والتي كانت تُعرف بـ «فرقة المهتر»، وتشمل آلات نفخ مثل الزورنا -على غرار المزمار والبوق- وآلات إيقاعية مثل الطبل وآلات النقر والمثلث النحاسي. وتَعنِي المهتر حرفيًّا: «التفوُّق» في العثمانية وهي من أقدم الفِرَق العسكرية داخل الجيش العثماني والتي كانت تعزف على الألحان القتالية خلال الحملات العسكرية. وأعجب الأوروبيون بتأثير «المهتر» في الميدان وبعد انحسار المدِّ العثماني تمَّ تشكيل فرق عسكرية مُشابهة في العديد من الدول الأوروبية على غرار الموسيقى الانكشارية.
التأثير التركي في أعمال موتسارت
خلال مُعسكراتهم العسكرية خارج فيينا، استخدمَ العُثمانيون الجيشَ الانكشاري الموسيقي، والذي كانت مُهمته تحفيز الجنود الأتراك وإرهاب الأعداء، ولكن في التوظيف الأوروبي للموسيقى «التركية» كان الأسلوب المُشتق من باب المحاكاة الغربية ولا يمُت بصِلَة للموسيقى التركية؛ لذا كان الاقتباس رمزيًّا، ويعتمد بشكل فِضْفَاض على ما كان معروفًا قليلاً عن الموسيقى التركية الفعلية. وفي الجوهر، كان التوظيف تشويهًا ثقافيًّا ابتدَعه الغرب لتمثيل الشرق -وهو مِثَال واضح على الاستشراق في العمل- في محاولة لتمثيل الشرق على أنَّه شيء آخر.
ويذكِّرنا هذا الأسلوب المُبتكر، بتصريح كارل ماركس الذي قال: «إنَّهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم؛ يجب أن يتم تمثيلهم»، وهو ما يَستخدمه إدوارد سعيد في افتتاحيته لكتابه المهم عن الاستشراق. فمن خلال توحيد الآلات المستمدة من الموسيقى «التركية»، كان يتم تمثيل الشرق بوضوح على أنه عسكري وعنيف وعدواني، لكنه أيضًا يصوِّره على أنه بسيط وغير قابل للتطوُّر.
سوناتا البيانو لموتسارت في الأسلوب التركي
قام موتسارت بتأليف سوناتا رقم (11) عن عمر يناهز الـ27 عامًا -ربما في العام 1783م- في فيينا، وشملت المقطوعة وقتها الحركة الثالثة والأخيرة المعروفة باسم «التركية»، وهي في شكل «روندو».
وأصبح لَحْن موتسارت السريع والبسيط شائعًا لدرجة أنَّه أَلْهَم الكثيرين لاستخدامه كأساس لأعمال جديدة لمحاكاة الشرق المهزوم، وأصبحت مِثالاً للموسيقى الاستشراقية التي يُصوِّر فيها الغرب صورةً مُغايرة عن واقع الشرق. ومع انتشار الشغف والولع بهذا اللون «التركي»، تمَّ تزويد آلات البيانو بآلات إيقاعية صاخبة ومُصَاحِبة لمحاكاة الموسيقى التركية.
وتُذكِّرنا السوناتا بأعمال نمساوية أخرى من الفترة ذاتها، والتي تُحَاكي الحروب العثمانية - النمساوية وحصار فيينا ومنها: سيمفونية هايدن رقم (100)، والمعروفة بـ«العسكرية»، والتي تصف الحربَ وحصارَ فيينا حيث إنَّ الحركة الثانية تخرُج عن الإطار المألوف والهادئ لتَصِف العاصفة التركية وأجواء الحرب.
ومُنذ عرضها الأول في لندن، نالت السيمفونية «العسكرية» دهشةَ المستمعين، وحازت مجموعة واسعة من التفسيرات من قِبَل الجماهير ونُقَّاد الموسيقى بسبب حركتها الثانية غير العادية، والتي تُقدِّم الموسيقى «الانكشارية» التركية دون إعداد مُسبق. وقد قام هايدن بتأليف السيمفونية في العام 1794م لحفلاته في لندن؛ حيث قدَّم ما مجموعه اثنتي عشرة سيمفونية، وتُعتبر الإنجازات المتميزة لإنتاجه السيمفوني، وأصبحت السيمفونية «العسكرية» أعظم نجاح له في هذه المجموعة.
ويبدأ التطفُّل بمقاطعة غير مُعلنة على اللحن الريفي البسيط -الذي يُمثل الحياة المسالمة النمساوية- من قبل الآلات «الانكشارية» -المثلث، والصنج، وطبل الباص، والأبواق- والتي ظلت صامتة حتى هذه اللحظة. بعدها تدخل الآلات بانسجام وبنسيج «شرقي» صاخب وتمتص بشكل متكرر جماليات اللحن الأول. ولعل اقتحام الآلات الانكشارية يجعل الفكرة الافتتاحية شريرة في تحوُّلاتها «التركية»؛ حيث إنَّ التغيير في السُلَّم الموسيقي إلى المفتاح الصغير -مصحوبًا بآلات النفير الحادة والصاخبة- يجعل اللحن مُثيرًا للخطر والرَّهبة. وهكذا حتى عندما تعُود الآلات الموسيقية الغريبة لاحقًا مصحوبة باللحن التركي، فإنها تعكس دلالات استحواذ القوى الأوروبية على التراث الشرقي حيث تمَّ «ضمها» و«دمجها» في الموسيقى الأوروبية فأصبحتْ أكثر طواعيةً حيث تمَّ تجريدها من السمات اللحنية والتوافقية التي جعلت الانقطاع خطيرًا للغاية.
وعودةً إلى الموضوع الأول في الشكل والقالب الغربي، فإنه يعكس التغيير العسكري على الساحة، حيث يعكس انحسار المد العثماني في أوروبا واستحواذ نفوذه. وقد لا تكون سيمفونية هايدن «العسكرية» هي المرجع الوحيد للحصار الشهير لفيينا في أعمال هايدن إذ إنَّ حدثًا بهذا الحجم ترك بصمته على الوعي والمُخيَّلة النمساوية لعشرات السنين.
أوبرا «الاختطاف من جناح الحريم» لموتسارت
من مَنظُورها التاريخي المباشر، تعد أوبرا «الاختطاف» لموتسارت انعكاسًا للصِّراعات الأخلاقية والموسيقية في فيينا في القرن الثامن عشر مع الإمبراطورية التركية.. إنَّه عمل يُذكِّر بالتهديد التركي والحصار الفاشل لمدينتهم؛ حيث لا يزال النمساويون تنتابهم مشاعر مُتناقضة من العداء والانجذاب نحو الشرق، ويتَّضح ذلك بوضوح في تمثيل الشخصيات التركية في المؤامرة: الباشا (سليم) و (عثمان)، وفي مهمة إنقاذ امرأة أوروبية تمَّ أسرها من قبل الأتراك على يد بطل «إسباني» نبيل (بلمونتي)، وفي ثيمات انتصار الخير على الشَّر، والولع بالموضوعات الغريبة ذات المشاعر القومية المغناة بالألمانية، والتي تُوجت بمُثُل التنوير العُليا للإنسانية والتسامح -وكلها مواضيع ذات أهمية كبيرة للثقافة الشعبية في فيينا- تمَّ تقديمها من قبل مُلحِّن مُبدع وفذ ومُدرك للمرحلة التاريخية لزمنه. ومن خلال دَمْج موضوعات الأوبرا الهزلية مع الموضوعات الجادة، كان موتسارت مُدرِكًا تمامًا للاختلافات بين الثقافتين والتي تنبُع من معرفته وفهمه للذوق النمساوي الذي صُمِّم العمل على أساسه. وتمَّ تصميم النص المكتوب للأوبرا لخدمة الحملة الدعائية للإمبراطور النمساوي ضد الأتراك، كما أنَّ تصوير الشخصيتيْن التركيتيْن في العمل يَدْعَم -وبشكل واضح- هذه الأجندة حيث يقوم الباشا (سليم) بمصاحبة خَدمه وقوته العسكرية باختطاف السفن، والقرصنة من أجل سَبْي النساء، ويقوم حارسه الشرير (عثمان) بسجنهن في جناح الحريم. وفي البداية، نُلاحظ أنَّ الباشا سليم وحارس قصره متشابهيْن في القسوة والديكتاتورية، لكننا في النهاية نكتشف خصالاً نبيلة لـ«سليم»، الذي يقوم بالمغفرة والصفح عن الرهائن المحتجزين ويُطلق سراحهم. وهنا، يتغيَّر مفهومنا الأوَّلي عن الباشا كطاغية غير عقلاني حيث يقدِّم عفوه كهدف نبيل يدلُّ على فكر مُستنير، يواجه من خلاله الإساءة بالمغفرة والانتقام بالصفح. وباستخدام مُوتسارت للمواضيع «التركية»، فإنه يُشير سيمفونيًّا -وبوضوح- إلى الصراع بين الشرق والغرب حيث كانت إستراتيجية موتسارت مُقارنة الشخصيات الغربية الأكثر تقليدية -والتي تتسم بالعقلانية والهدوء- مع الصفات المختلفة جدًّا للأتراك. وقد تمَّ تصنيف المقاطع «التركية» على أنها ذكورية حادة، في نتيجة طبيعية لارتباط الأسلوب التركي بالحروب في الموسيقى الغربية في ذلك الوقت، كما ترتبط الموسيقى التركية أيضًا في العمل بالتطرُّف والتبجُّح والقسوة، والاهتمام المهووس بالسيطرة. وهنا تكمُن أهميَّة العمل حيث إنَّ إبداع موتسارت في أوبرا «الاختطاف» ليس فقط بسبب موسيقاه الجميلة وإنما لتصوره المُبدع لرسم الشخصيات «التركية» ومزجها مع نظيراتها الغربية في قالب واحد... إنَّه انعكاسٌ لتصوير الموسيقى وتوظيفها في زمن الحرب.
ويُسلِّط موتسارت الضوء بوضوح على غضب (عثمان)، كحارس للحريم، ضد أيِّ مُتسول يقترب من قصر (سليم)، ويوظِّف موتسارت مُوسِيقاه المشحونة بالتوتر والقلق، مع إضافة «الموسيقى التركية» لتشويه صورة الشرقي المَسكُون بلذاته؛ حيث يبدو جليًّا أنَّ (عثمان) خالٍ من العقلانية حتى في تنقُّلاته اللحنية التي تقفز من لحن إلى آخر دون رباط مُوحَّد حيث تتسارع نغماته في الغناء كما لو أنَّه غير قادر على السيطرة على غضبه؛ حيث تتنقل ألحانه من الديناميكيات الواسعة من الناعمة (البيانو) إلى انفجار مفاجئ من الحدة إلى الانفجار بصوت عالٍ، وهي عملية يُكرِّرها موتسارت مِرَارًا وتَكرارًا في أغاني (عثمان).
لا يُمكن لتغييرات الإيقاع إلا أنْ تقوِّي الشعور بعدم الاستقرار؛ حيث يبدأ (عثمان) بالغناء السريع، ثم البطيء لفترة وجيزة، ويعود بعدها إلى الأكثر سُرعة. إنَّ (عثمان) ليس فقط رجلًا أميًّا، كهلًا، غاضبًا، وعاطفيًّا، بل إنه يفتقد للعقلانية، وهي رمز عصر التنوير الأوروبي حيث تؤول صفات العقلانية والرَّشاد للشخصيات الغربية في الأوبرا. ولعلَّ استخدام موتسارت لـ «الموسيقى التركية» لمرافقة غناء (عثمان)، يدعم مشاعر السخرية والضحك، ويتوافق مع الصُّور النمطية الشائعة للشرق في القرن الثامن عشر حيث يرتبط الأتراك بالقسوة والإفراط، ولكن هنا يتم تضخيم هذه السمات إلى درجة الكوميديا الساخرة. فلم تعد هناك تهديدات حقيقية منهم في العام 1783م؛ حيث كان يُنظر إلى الأتراك على أنهم مَوْضِع سخرية حتى في عُنفهم وحُبهم لتقطيع الأوصال.
الموسيقى الكوميدية لموتسارت تجعل غضب (عثمان) «عاجزًا»، ولا يَجِب أخذ تهديداته على مَحْمَل الجد، وعلاوة على ذلك يُشير موتسارت تحديدًا إلى استخدامه لـ«الموسيقى التركية» ككوميديا، وهو نهج استخدمه بالفعل في خَاتمة السوناتا ذات الحركة «التركية» في سُلَّم «لا» كتمثيل كاريكاتوري للموسيقى «التركية».
إنَّها مُوسيقى في زمن الحرب، موسيقى مُرتبطة بالخوف والسخرية من الآخر، ومحاولة لإثبات التفوُّق العرقي والديني والثقافي على الآخر، ولقد قال الحكماء مِرَاراً إنَّه في زمن الحرب لا يوجد مُنتَصِر، فحتى الموسيقى الكلاسيكية النبيلة لم تَسْلَم من التَّسييس والتفرقة والكراهية البغيضة.
ناصر الطائي مؤلف وباحث في الموسيقى
وبهذا تنتهي أسطورة سُمو الفن فوق السياسة؛ حيث تمَّ تسخير الفن إعلاميًّا وسياسيًّا كنتائج حتمية لحرب طاحنة يموت فيها الأبرياء وتسقط معها أقنعة الديمقراطية والتسامح والانفتاح الزائفة. ومن هذا المنطلق، نُشدد على أنَّ هذا الرد العدائي، والتوظيف السياسي للموسيقى والفنون، ليس بالجديد على الثقافة الغربية؛ ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتزامنًا مع التوسُّع الاستعماري لأوروبا نحو الشرق، ظهر نوع جديد من الفن الاستشراقي الذي يُصوِّر الشرق في أبشع الصور، ويُروِّج «لشرعية» الاستعمار الأوروبي للشعوب الفقيرة، وطمس ثقافتها؛ بحجَّة تفوُّق العِرق الأوروبي الأبيض.
وتُمثِّل حروب الإمبراطورية العثمانية، وتوسعها في أوروبا، حُقبةً ثريةً لتوظيف الموسيقى في الحروب، خصوصًا بعد عشرات السنين من انحسار المدِّ الإسلامي في أوروبا، حيث شكَّل حصار الإمبراطورية العثمانية الفاشل على فيينا الخطوطَ الحاسمةَ لبداية انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقاسُم الدول الأوروبية لأجزائها المتفكِّكة في شرق أوروبا والدول العربية في الشرق الأوسط.
وفي سبيل ذلك يُمكننا تتبُّع افتتان الموسيقار النمساوي وولفجانج أماديوس موتسارت (1756-1791م) بالشرق من خلال الأعمال المؤثِّرة التي كتبها لهذا الموضوع. ومع ذلك -وفي هذه الأعمال نفسها- قد نشعر بتناقضاته في تصوير الشخصيات الذكورية الشرقية مثل: (ثاموس) ملك مصر، والسلطان (سليمان)، والباشا (سليم)، و (زاراسترو) أمين معبد الشمس، والذين تميَّزوا بخصال الصَّفح والتسامح والمغفرة، وبين (عُثمان) حارس جناح الحريم و(مونوستاتوس) الشرير حارس معبد الشمس والذين تميزوا بالعنف المفرط.
ومن أجل البدء في تقييم مفهوم موتسارت للآخر، سيركز البَحْث -بشكل أساسي- على إستراتيجيات موتسارت الموسيقية في أوبرا «الاختطاف من جناح الحريم» (1782م)، وهي أول أوبرا استشراقية مُكتملة له، وتجمع بين الأسلوب التركي (العسكري) والغربي في تجسيد واضح لحروب الإمبراطورية العثمانية مع جيرانها الأوروبيين.
موتسارت في فيينا (1781-1791)
بعد اختلافه مع رئيس الأساقفة في سالزبورج وطرده من البلاط، هاجَر موتسارت مسقط رأسه إلى فيينا في 1781 من أجل حريته وكرامته، رغم اعتراض والده واستقر في فيينا كعازف ومدرس للبيانو. وسرعان ما أثبت نفسه كأفضل عازف للآلة في فيينا وذاع صيته أيضًا كمؤلف موسيقي. وفي العام 1782م أكمَل أوبرا «الاختطاف من جناح الحريم» باللغة الألمانية، بعد أن كان الإيطاليون محتكرين لهذا اللون في فيينا. وحقَّقت هذه الأوبرا نجاحًا كبيرًا، إذ سُرعان ما تمَّ تقديم العمل في جميع أنحاء أوروبا الناطقة بالألمانية، ورسخ العمل سُمعة موتسارت كملحِّن عظيم.
العمل جاء في مرحلة مهمَّة من تاريخ فيينا، التي كانتْ تستعد للاحتفال بالذكرى المئويَّة لانتصارها على الإمبراطورية العثمانية، والتي حاصرتْ المدينة في عام 1683م وفشلت في اقتحامها. إلا أنه ليس بالغريب أن يختار موتسارت ثيمة «شرقية» لأوبراه الجديدة، والتي تدور أحداثها في إحدى المدن التركية -وتشمل الباشا النبيل (سليم)، وحراسه برئاسة حارس جناح الحريم (عثمان)- كما قام موتسارت بإضاقة الآلات العسكرية «التركية» التي كان النمساويون قد تعرَّفوا عليها خلال الحصار، والتي كانت تعزفها الفرق الانكشارية خارج أسوار فيينا، حيث كان الموسيقار الشاب يطمح في التقرب من البلاط الملكي النمساوي المعادي للتوسع العثماني.
حصار فيينا - 1529م
تاريخيًّا، فقد تعرَّضت فيينا لحصاريْن من قبل الإمبراطورية العثمانية في العام 1529م و1683م، وكان حصار فيينا في العام 1529م أوَّل محاولة من قبل الدولة العثمانية للاستيلاء على المدينة حيث هاجمَ السلطان سليمان القانوني المدينة بأكثر من 100,000 رجل، في حين أنَّ عدد المدافعين لم يكن يتجاوز 21,000. ومع ذلك، تمكَّنت فيينا من النجاة من الحصار الذي استمر ما يزيد على الأسبوعين، وبالتحديد من 27 سبتمبر إلى 15 أكتوبر من العام 1529م.
وجاء الحصار في أعقاب معركة موهاج في عام 1526م، والتي أسفرتْ عن وفاة لويس الثاني ملك المجر، ودخول المملكة في حرب أهلية. وبعد وفاة لويس، اختارتْ الفصائل المتنافسة داخل المجر خليفتيْن: الأرش دوق فرديناند الأول من النمسا بدعم من الهابسبورج، وجون زابوليا. وفي نهاية المطاف، طلب زابوليا المساعدة من الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت تابعةً لها بعد أن بدأ فرديناند في السيطرة على غرب المجر بما في ذلك مدينة بودا.
الهجوم العُثماني على فيينا كان جزءًا من تدخُّل الإمبراطورية في الصِّراع المجري، وعلى المدى القصير سَعَى إلى دعم موقف زابوليا. ويقدِّم المؤرخون تفسيرات مُتضاربة للأهداف العثمانية طويلة المدى بما في ذلك الدوافع وراء اختيار فيينا كهدف مُباشر للحملة. ويقترح بعض المؤرخين المعاصرين أنَّ الهدف الأساسي للسلطان سليمان القانوني كان تأكيد السيطرة العثمانية على كل المجر، بما في ذلك الجزء الغربي (المعروف باسم المجر الملكية)، والذي كان لا يزال تحت سيطرة هابسبورج النمساوية حيث كان السلطان سليمان ينوي استخدام المجر كنقطة انطلاق للتوسُّع غرب أوروبا. ولقد كان فشل حصار فيينا بمثابة بداية 150 عامًا من التوتر العسكري المرير بين الهابسبورج والعثمانيين، تخللتها هجمات مُتبادلة، بلغت ذروتها في حصار فيينا الثاني في العام 1683م.
حصار فيينا الثاني - 1683م
وَقَعتْ معركة فيينا في جبل كاهلينبيرج، بالقرب من فيينا، في 12 سبتمبر من العام 1683م، بعد أنْ حاصرتْ الإمبراطورية العثمانية المدينة لمدة شهرين. خاضتْ المعركة من قبل الإمبراطورية الرومانية بقيادة تآلف أوروبي شمل مملكة هابسبورج، والكومنولث البولندي والليتواني، وكلاهما كان تحت قيادة الملك جون سوبيسكي، ضد العُثمانيين ودولهم التابعة. وكانتْ المعركة هي الأولى التي يتعاون فيها الكومنولث والإمبراطورية الرومانية عسكريًّا ضد العثمانيين، وغالبًا ما كان يُنظر إليها على أنها نقطة تحوُّل في التاريخ الأوروبي لأنها شكَّلت بداية النهاية للتوسُّع العثماني في أوروبا. وفي الحرب التي تلتْ ذلك، والتي استمرتْ حتى العام 1699م، خَسِر العثمانيون كلَّ حروبهم وسيطرتهم على المجر تقريبًا أمام الإمبراطور الروماني ليوبولد الأول. وكانتْ القوَّات العسكرية العثمانية بقيادة الوزير الأعظم كارا مصطفى باشا، وبلغ عدد الجيش العثماني ما يقرب من 90,000 إلى 300,000 رجل، وبدأوا الحصار في 14 يوليو من العام 1683م وتألفت القوات العثمانية حينها من وحدات مختلفة، ودارت المعركة الحاسمة في 2 سبتمبر بعد وصول جيش الإغاثة الموحَّد.
الفرقة الانكشارية
شكَّلت الإمبراطورية العثمانية فِرقاً انكشارية من الأسرى، وتمَّ توظيف جزء منهم للانضمام للموسيقى العسكرية، والتي كانت تُعرف بـ «فرقة المهتر»، وتشمل آلات نفخ مثل الزورنا -على غرار المزمار والبوق- وآلات إيقاعية مثل الطبل وآلات النقر والمثلث النحاسي. وتَعنِي المهتر حرفيًّا: «التفوُّق» في العثمانية وهي من أقدم الفِرَق العسكرية داخل الجيش العثماني والتي كانت تعزف على الألحان القتالية خلال الحملات العسكرية. وأعجب الأوروبيون بتأثير «المهتر» في الميدان وبعد انحسار المدِّ العثماني تمَّ تشكيل فرق عسكرية مُشابهة في العديد من الدول الأوروبية على غرار الموسيقى الانكشارية.
التأثير التركي في أعمال موتسارت
خلال مُعسكراتهم العسكرية خارج فيينا، استخدمَ العُثمانيون الجيشَ الانكشاري الموسيقي، والذي كانت مُهمته تحفيز الجنود الأتراك وإرهاب الأعداء، ولكن في التوظيف الأوروبي للموسيقى «التركية» كان الأسلوب المُشتق من باب المحاكاة الغربية ولا يمُت بصِلَة للموسيقى التركية؛ لذا كان الاقتباس رمزيًّا، ويعتمد بشكل فِضْفَاض على ما كان معروفًا قليلاً عن الموسيقى التركية الفعلية. وفي الجوهر، كان التوظيف تشويهًا ثقافيًّا ابتدَعه الغرب لتمثيل الشرق -وهو مِثَال واضح على الاستشراق في العمل- في محاولة لتمثيل الشرق على أنَّه شيء آخر.
ويذكِّرنا هذا الأسلوب المُبتكر، بتصريح كارل ماركس الذي قال: «إنَّهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم؛ يجب أن يتم تمثيلهم»، وهو ما يَستخدمه إدوارد سعيد في افتتاحيته لكتابه المهم عن الاستشراق. فمن خلال توحيد الآلات المستمدة من الموسيقى «التركية»، كان يتم تمثيل الشرق بوضوح على أنه عسكري وعنيف وعدواني، لكنه أيضًا يصوِّره على أنه بسيط وغير قابل للتطوُّر.
سوناتا البيانو لموتسارت في الأسلوب التركي
قام موتسارت بتأليف سوناتا رقم (11) عن عمر يناهز الـ27 عامًا -ربما في العام 1783م- في فيينا، وشملت المقطوعة وقتها الحركة الثالثة والأخيرة المعروفة باسم «التركية»، وهي في شكل «روندو».
وأصبح لَحْن موتسارت السريع والبسيط شائعًا لدرجة أنَّه أَلْهَم الكثيرين لاستخدامه كأساس لأعمال جديدة لمحاكاة الشرق المهزوم، وأصبحت مِثالاً للموسيقى الاستشراقية التي يُصوِّر فيها الغرب صورةً مُغايرة عن واقع الشرق. ومع انتشار الشغف والولع بهذا اللون «التركي»، تمَّ تزويد آلات البيانو بآلات إيقاعية صاخبة ومُصَاحِبة لمحاكاة الموسيقى التركية.
وتُذكِّرنا السوناتا بأعمال نمساوية أخرى من الفترة ذاتها، والتي تُحَاكي الحروب العثمانية - النمساوية وحصار فيينا ومنها: سيمفونية هايدن رقم (100)، والمعروفة بـ«العسكرية»، والتي تصف الحربَ وحصارَ فيينا حيث إنَّ الحركة الثانية تخرُج عن الإطار المألوف والهادئ لتَصِف العاصفة التركية وأجواء الحرب.
ومُنذ عرضها الأول في لندن، نالت السيمفونية «العسكرية» دهشةَ المستمعين، وحازت مجموعة واسعة من التفسيرات من قِبَل الجماهير ونُقَّاد الموسيقى بسبب حركتها الثانية غير العادية، والتي تُقدِّم الموسيقى «الانكشارية» التركية دون إعداد مُسبق. وقد قام هايدن بتأليف السيمفونية في العام 1794م لحفلاته في لندن؛ حيث قدَّم ما مجموعه اثنتي عشرة سيمفونية، وتُعتبر الإنجازات المتميزة لإنتاجه السيمفوني، وأصبحت السيمفونية «العسكرية» أعظم نجاح له في هذه المجموعة.
ويبدأ التطفُّل بمقاطعة غير مُعلنة على اللحن الريفي البسيط -الذي يُمثل الحياة المسالمة النمساوية- من قبل الآلات «الانكشارية» -المثلث، والصنج، وطبل الباص، والأبواق- والتي ظلت صامتة حتى هذه اللحظة. بعدها تدخل الآلات بانسجام وبنسيج «شرقي» صاخب وتمتص بشكل متكرر جماليات اللحن الأول. ولعل اقتحام الآلات الانكشارية يجعل الفكرة الافتتاحية شريرة في تحوُّلاتها «التركية»؛ حيث إنَّ التغيير في السُلَّم الموسيقي إلى المفتاح الصغير -مصحوبًا بآلات النفير الحادة والصاخبة- يجعل اللحن مُثيرًا للخطر والرَّهبة. وهكذا حتى عندما تعُود الآلات الموسيقية الغريبة لاحقًا مصحوبة باللحن التركي، فإنها تعكس دلالات استحواذ القوى الأوروبية على التراث الشرقي حيث تمَّ «ضمها» و«دمجها» في الموسيقى الأوروبية فأصبحتْ أكثر طواعيةً حيث تمَّ تجريدها من السمات اللحنية والتوافقية التي جعلت الانقطاع خطيرًا للغاية.
وعودةً إلى الموضوع الأول في الشكل والقالب الغربي، فإنه يعكس التغيير العسكري على الساحة، حيث يعكس انحسار المد العثماني في أوروبا واستحواذ نفوذه. وقد لا تكون سيمفونية هايدن «العسكرية» هي المرجع الوحيد للحصار الشهير لفيينا في أعمال هايدن إذ إنَّ حدثًا بهذا الحجم ترك بصمته على الوعي والمُخيَّلة النمساوية لعشرات السنين.
أوبرا «الاختطاف من جناح الحريم» لموتسارت
من مَنظُورها التاريخي المباشر، تعد أوبرا «الاختطاف» لموتسارت انعكاسًا للصِّراعات الأخلاقية والموسيقية في فيينا في القرن الثامن عشر مع الإمبراطورية التركية.. إنَّه عمل يُذكِّر بالتهديد التركي والحصار الفاشل لمدينتهم؛ حيث لا يزال النمساويون تنتابهم مشاعر مُتناقضة من العداء والانجذاب نحو الشرق، ويتَّضح ذلك بوضوح في تمثيل الشخصيات التركية في المؤامرة: الباشا (سليم) و (عثمان)، وفي مهمة إنقاذ امرأة أوروبية تمَّ أسرها من قبل الأتراك على يد بطل «إسباني» نبيل (بلمونتي)، وفي ثيمات انتصار الخير على الشَّر، والولع بالموضوعات الغريبة ذات المشاعر القومية المغناة بالألمانية، والتي تُوجت بمُثُل التنوير العُليا للإنسانية والتسامح -وكلها مواضيع ذات أهمية كبيرة للثقافة الشعبية في فيينا- تمَّ تقديمها من قبل مُلحِّن مُبدع وفذ ومُدرك للمرحلة التاريخية لزمنه. ومن خلال دَمْج موضوعات الأوبرا الهزلية مع الموضوعات الجادة، كان موتسارت مُدرِكًا تمامًا للاختلافات بين الثقافتين والتي تنبُع من معرفته وفهمه للذوق النمساوي الذي صُمِّم العمل على أساسه. وتمَّ تصميم النص المكتوب للأوبرا لخدمة الحملة الدعائية للإمبراطور النمساوي ضد الأتراك، كما أنَّ تصوير الشخصيتيْن التركيتيْن في العمل يَدْعَم -وبشكل واضح- هذه الأجندة حيث يقوم الباشا (سليم) بمصاحبة خَدمه وقوته العسكرية باختطاف السفن، والقرصنة من أجل سَبْي النساء، ويقوم حارسه الشرير (عثمان) بسجنهن في جناح الحريم. وفي البداية، نُلاحظ أنَّ الباشا سليم وحارس قصره متشابهيْن في القسوة والديكتاتورية، لكننا في النهاية نكتشف خصالاً نبيلة لـ«سليم»، الذي يقوم بالمغفرة والصفح عن الرهائن المحتجزين ويُطلق سراحهم. وهنا، يتغيَّر مفهومنا الأوَّلي عن الباشا كطاغية غير عقلاني حيث يقدِّم عفوه كهدف نبيل يدلُّ على فكر مُستنير، يواجه من خلاله الإساءة بالمغفرة والانتقام بالصفح. وباستخدام مُوتسارت للمواضيع «التركية»، فإنه يُشير سيمفونيًّا -وبوضوح- إلى الصراع بين الشرق والغرب حيث كانت إستراتيجية موتسارت مُقارنة الشخصيات الغربية الأكثر تقليدية -والتي تتسم بالعقلانية والهدوء- مع الصفات المختلفة جدًّا للأتراك. وقد تمَّ تصنيف المقاطع «التركية» على أنها ذكورية حادة، في نتيجة طبيعية لارتباط الأسلوب التركي بالحروب في الموسيقى الغربية في ذلك الوقت، كما ترتبط الموسيقى التركية أيضًا في العمل بالتطرُّف والتبجُّح والقسوة، والاهتمام المهووس بالسيطرة. وهنا تكمُن أهميَّة العمل حيث إنَّ إبداع موتسارت في أوبرا «الاختطاف» ليس فقط بسبب موسيقاه الجميلة وإنما لتصوره المُبدع لرسم الشخصيات «التركية» ومزجها مع نظيراتها الغربية في قالب واحد... إنَّه انعكاسٌ لتصوير الموسيقى وتوظيفها في زمن الحرب.
ويُسلِّط موتسارت الضوء بوضوح على غضب (عثمان)، كحارس للحريم، ضد أيِّ مُتسول يقترب من قصر (سليم)، ويوظِّف موتسارت مُوسِيقاه المشحونة بالتوتر والقلق، مع إضافة «الموسيقى التركية» لتشويه صورة الشرقي المَسكُون بلذاته؛ حيث يبدو جليًّا أنَّ (عثمان) خالٍ من العقلانية حتى في تنقُّلاته اللحنية التي تقفز من لحن إلى آخر دون رباط مُوحَّد حيث تتسارع نغماته في الغناء كما لو أنَّه غير قادر على السيطرة على غضبه؛ حيث تتنقل ألحانه من الديناميكيات الواسعة من الناعمة (البيانو) إلى انفجار مفاجئ من الحدة إلى الانفجار بصوت عالٍ، وهي عملية يُكرِّرها موتسارت مِرَارًا وتَكرارًا في أغاني (عثمان).
لا يُمكن لتغييرات الإيقاع إلا أنْ تقوِّي الشعور بعدم الاستقرار؛ حيث يبدأ (عثمان) بالغناء السريع، ثم البطيء لفترة وجيزة، ويعود بعدها إلى الأكثر سُرعة. إنَّ (عثمان) ليس فقط رجلًا أميًّا، كهلًا، غاضبًا، وعاطفيًّا، بل إنه يفتقد للعقلانية، وهي رمز عصر التنوير الأوروبي حيث تؤول صفات العقلانية والرَّشاد للشخصيات الغربية في الأوبرا. ولعلَّ استخدام موتسارت لـ «الموسيقى التركية» لمرافقة غناء (عثمان)، يدعم مشاعر السخرية والضحك، ويتوافق مع الصُّور النمطية الشائعة للشرق في القرن الثامن عشر حيث يرتبط الأتراك بالقسوة والإفراط، ولكن هنا يتم تضخيم هذه السمات إلى درجة الكوميديا الساخرة. فلم تعد هناك تهديدات حقيقية منهم في العام 1783م؛ حيث كان يُنظر إلى الأتراك على أنهم مَوْضِع سخرية حتى في عُنفهم وحُبهم لتقطيع الأوصال.
الموسيقى الكوميدية لموتسارت تجعل غضب (عثمان) «عاجزًا»، ولا يَجِب أخذ تهديداته على مَحْمَل الجد، وعلاوة على ذلك يُشير موتسارت تحديدًا إلى استخدامه لـ«الموسيقى التركية» ككوميديا، وهو نهج استخدمه بالفعل في خَاتمة السوناتا ذات الحركة «التركية» في سُلَّم «لا» كتمثيل كاريكاتوري للموسيقى «التركية».
إنَّها مُوسيقى في زمن الحرب، موسيقى مُرتبطة بالخوف والسخرية من الآخر، ومحاولة لإثبات التفوُّق العرقي والديني والثقافي على الآخر، ولقد قال الحكماء مِرَاراً إنَّه في زمن الحرب لا يوجد مُنتَصِر، فحتى الموسيقى الكلاسيكية النبيلة لم تَسْلَم من التَّسييس والتفرقة والكراهية البغيضة.
ناصر الطائي مؤلف وباحث في الموسيقى