لا تشكّل الحرب -بالنسبة للشعوب التي قُدّر لها أن تعيشها وتتذوق أهوالها- تجربةً آنيةً عابرةً أو حدثا عارضا سريعا ما يغيب ويُنسى، بل هي واحدة من الحوادث الجوهرية في تاريخ الشعوب، وهي التجربة التي تغدو مسؤولةً، ما إن تقع، عن كثير من التجارب الفارقة التي تتكسر على ضفتيها الحجريتين، أهمها قاطبة الولادة والموت، بوصفهما التجربتين الأهم في رحلة الإنسان، وإذا ما عملنا على اقتراح تصوّر للحياة الإنسانية ضمن مكون ثلاثي ركائزه الحرب والولادة والممات، سيكون للحرب موقع جوهري فيه كيفما كانت قراءتنا وكيفما كان تصورنا، إنها سيرورة قوامها الولادة، والحرب، والموت، وهي، بذلك، نقطة الوصل الجهنمية بين بابي الحياة، وخيط الدخان الملبد بين حفرتيها المعتمتين، حفرة الولادة وحفرة الممات، بينهما لا تغير الحرب موقعها، لا تتقدم الولادةَ ولا تتأخر الموت، قلب المعادلة هي وجوهر الشعاع المنطلق من البدء إلى الانتهاء، بلا إبطاء ولا تغيير، ذلك ما أضاءته في ذهني جملة محمود درويش حينما غيّر بوصلة الشعاع وقلب حركته وهو يقول: «نذهب إلى الحرب فنصل إلى الولادة»، أي حربٍ تلك التي عاشها درويش وتحدّث عنها، وأي ولادة؟ وأيَّ موت أسقطه، قبل ذلك، من حساب خياله، لينتج تصورا ركناه الحرب والولادة، كلُّ ذهاب إلى الأولى، في جملة درويش، وصول إلى الثانية، إنها حكمة الشعر التي تعيد تفصيل نسيج التجارب بمقص الخيال. علينا أن نؤكد، قبل أن ننزلق إلى حفرة الصمت المطبقة، على كنائية كلِّ ركن في معادلة الشعر ثلاثية الأركان: الولادةُ ولادةٌ، والحربُ حربٌ، والموتُ موت. يمكن للحرب، في مرايا الشعر، أن تكون ولادةً، ويمكن للولادة أن تكون موتا أو تكون وصولا إلى الحرب التي لا تنتهي، كلُّ حرب تبدأ لا تنتهي، مسكوكة تجد في مدونات الحروب المستمرة مصاديقها، مثلما وجدت في مرايا الشعر مرجعا وشاهدا، يقول محمود البريكان: «والحرب حين ترذّلت بردت، وعاشت في السلام!»، الحرب تترذل وتبرد، أواخر فصولها، لتعيش في السلم زمنا يطول، كما عاشت صباها وفتوتها في ميادين القتال، الحرب، قبل ذلك، لا تموت، تلك الفكرة التي عليها أن تكون واضحةً في ذهن من ينفخ أبواقها ويطلق إشاراتها ويشعل نيرانها.
في المسافة القصيرة الفاصلة بين جملتي درويش والبريكان أرى ظل رجل وحيد يتحرك، بخطوات متأنية يواصل السير على الأرض التي كانت ساحة للقتال ذات يوم بعيد، الرجل بطيء الخطوات هو أنا، والأرض الترابية الواسعة هي شرق مدينتي البصرة، بطريقة ما أدرك ذلك، وأدرك معنى أن أمشي متحرّرا من مخاوف الماضي على أرض لم تكن سوى بوابة للمخاوف والأهوال، وأن السنوات الأربعين التي تفصل خطوات الصبا في ساحة القتال عن خطى الكهولة، لم تتوقف الحرب فيها ولم تغادر خيالاتها يقظتي ومنامي، إنها الحرب التي ترذلت وبردت وعاشت تحت جلد أيامنا، وهي الحرب التي باضت وفقّست حروبا متلاحقة لا تزال أصداؤها تتردد في أجواء المدينة وغبارها يتصاعد في سمائها، أنصتْ في سكينة الليل وستسمع كلَّ شيء.
كلُّ حرب، على أي بقعة من الأرض، هي حرب خاصة بكلٍّ منا، حربنا التي تسدُّ علينا منافذ الضوء وتغيّر مجرى حياتنا، تقلب نهاراتنا ليالي وليالينا نهارات، مثلما تكون استمرارا وتواصلا للحروب التي سبقتها، وإن لم يربط بينها رابط أو تجمعها أسباب السياسة وضغائن الجغرافيا ونعرات التاريخ، فالحروب مثل لقطات متتابعة على شريط سينمائي، كوادر متلاحقة لا يفصل بينها سوى فاصل دقيق يختفي فور انبثاق الضوء ودوران الشريط، ولا يعد أمامنا على الشاشة غير حرب واحدة ممتدة امتداد التاريخ البشري، حروب تتداخل كما لو كانت حربا واحدة طويلة الأمد، لا بدء لها ولا انتهاء، تلمح، على الشاشة، وجهين يتداخلان من دون أن تدرك أيهما من وجوه حرب أوسترلتز التشيكوسلوفاكية، وأيهما من وجوه حرب الأفيون التي وقعت بعدها بعقود، تملأ الأفق عواصف ترابية حمراء، وترى فارسا يلفظ أنفاسه الأخيرة فيخال لك أنه من فرسان الحروب الغالية التي قادها يوليوس قيصر بين عامي 58 ـ 51 قبل الميلاد، وسريعا ما يراودك الشك، فلربما كان الفارس الذي يموت من حرب ثابسوس التي وقعت عام 46 قبل الميلاد جنوب شرقي قرطاجة، تتصفح معاجم الحروب وتقلّب صفحات موسوعاتها بحثا عن الحرب الأولى، أصل الحروب وجوهرها، يستغرق البحث وقتا ليس بالقصير بغير الوصول إلى نتيجة، كل معجم يبتكر أسبابا ليجعل من حرب ما فاتحة الحروب، ولن تجد مهما حاولت معجمين يتفقان على نقطة بدء واحدة، تترك الانشغال بالحرب الأولى وتعود إلى مقدمة المعجم باحثا عن الجملة الأولى، ظنا منك أن العثور على جملة في معجم أسهل من العثور على حرب، «تاريخ البشرية تاريخ مضطرب، تمثل فيه الحروب حيزا واسعا»، إنها عتبة المعجم، وهي الجملة التي تصح أن تكون خلاصة وخاتمة، فليس ثمة، في معاجم الحروب، سوى جملة واحدة تحدّثنا، مهما تغيرت مبانيها، عن جنون الإنسان ووحشيته، التاريخ المضطرب يحدّثنا، من جهته، عن حرب لا انتهاء لها، كلُّ حرب تلفُّ خيوطَ رمادها على الكوكب، تمنع عنه الضوء والهواء، خيوط تزحف في أراضي العقل المعتمة يحدوها أمل واحد: أن تصل في اللحظة التي تُنفخ فيها الأبواق وتُوقد النيران.
لا أغادر مقدمة المعجم بغير أن أؤشر تحت أكثر من سطر من سطورها، تلك عادة تساعدني على التريث أمام الجمل والانتباه لما أقرأ، «فالحرب من ثوابت الحياة البشرية، كما يتضح. غير أنها دائمة التجدد، وبالتالي مختلفة الصياغة والتعابير في كلِّ مرّة»، تحيّرني فكرة أن تكون الحرب من ثوابت الحياة وهي التي لم أحسبها سوى متغيّر ينافي حركة الحياة ويحدّ من فاعليتها، لكن المتغيّر يصبح ثابتا حينما يتكرر وتتقدم قوانينه سائر قوانين الحياة، فتكون الحرب قاعدة والسلام هو الاستثناء، أرفع رأسي عن الكتاب وأرمي نظري بعيدا، أفكر بالخمسين عاما الماضية من الحياة العراقية، الخمسين التي عشتها وشهدت الكثير من حروبها، بطريقة أو بأخرى، ويعود إلى ذهني مشهد سيارة الأجرة التي توقفت ذات يوم صيفي من أيام سنوات السبعينيات الأولى، وقد وقفتُ مع جمع من الأطفال المذهولين، أنظر لمسيل الدم المتيبس على الزجاجة الأمامية مقطرا من زاوية التابوت المربوط بالحبل أعلى السيارة، إنه المشهد البكر الذي أشهده بين مشاهد الحروب التي ستتكرر أمامي، الدم على الزجاج وردة بنية دكناء تلمع قشرتها تحت شمس البصرة الساطعة، الوردة التي ستكون، بالنسبة لي، كلمة الحرب الأولى التي لم يضمها معجم، وسأعرف بعد سنوات أن وردة الدم تفجرت في واحدة من حروب الشمال بين الكرد والحكومة العراقية، ولا أدري من أيِّ حرب منها جاءت السيارة حاملة تابوتها ولأي سبب توقفت في حيّنا، وردة الدم صارت مع حرب الثمانينيات حقلا واسعا من الزهور القشرية تخترقه السيارات السريعة المحملة بالتوابيت، حرب الثمانينيات الطويلة القاهرة لوثت زجاجة العراق الأمامية بمسيل الدم المتيبس حتى لم يعد ثمة منفذ لتبين الاتجاه، ولم يكن ثمة اتجاه واحد تسلكه السيارات، كانت الجهات كلها حقول دم متيبس وأطفالا ينظرون وقد أذهلتهم جسامة المشهد الذي سيرسخ في ذاكراتهم طويلا ويستعيدونه مع كلِّ حرب.
مع حرب الثمانينيات كان الصبي قد أصبح فتىً واسّودَّ الزغب الناعم في وجهه، وصارت مشاهد السيارات المحملة بالتوابيت مألوفةً لديه، لم تعد تذهله أو تخيفه، ولم يعد مرورها أمامه يخلّف هزةً في نفسه لا يُدرك معناها، لكنها بقيت تعيد إلى ذهنه مشهد السيارة الأولى بوردة الدم المتيبس على الزجاج، تفتحت وردة الفتى وسار بخطوات وئيدة حالمة في حقول الأدب، وقد أصبحت للعالم في ذهنه صورتان، صورة واقعية تسطع تحت شمس البصرة، وأخرى حلمية تنتظره في كلِّ كتاب يفتحه، صار لكلِّ مشهد يصادفه في الأولى مشهد قرين، حلمي الطابع، في الثانية، وكان يتسلل من قتامة الأولى ومن ضيق عوالمها إلى شساعة الثانية وشفافية عوالمها، يهرب من سطوة الحرب وعنف أناشيدها التي تتكرر على مسامعه وتملأ الفضاء من حوله إلى فضاءات لا حدود لها، مدينته أصبحت ساحة للقصف ولم تعد الحرب تفرّق بين جبهة قتال ومنطقة سكن آمن، ومع تغوّل كائن الحرب ازدادت حاجة الجيش للوقود البشري، مع معارك شرق البصرة الأولى بدأ تجنيد الكثير من الطلبة فور إكمال الدراسة الإعدادية لسبب أو لآخر، وشاءت الحرب، ولا راد لما تشاء، أن يكون الفتى من بين مواكب الفتيان التي لم يقيّض لها أن تكمل طريق دراستها فسيقت إلى مدارس القتال بدلا من قاعات الدراسة الجامعية، سيقضي الفتى الجندي سبع سنين في دوامة الحرب، سنوات طويلة بين ملاجئ التراب المحفورة من كشك البصري حتى رأس البيشة، في كلِّ ملجأ له حكاية، ومع كل حكاية له حسرة، سنوات تقاس بالحسرات، كانت الحياة تتغير، تدب في أعماقها جراثيم الحرب وتأكل روحها، فتتحول طبيعتها وتتبدل طبائعها، حتى كأن العراق نفسه يتبدد على سواتر القتال، لا تغير الحرب يوميات الإنسان ولا تبدّل سلوكه فحسب، بل تحفر عميقا في النفس، تأكل لبّها وتجهد روحها، ترفع الحدود وتلغي المسافات وتجعل المجتمع امتدادا لها، حرب الثمانينيات الطويلة فتحت الباب لكل ما تبعها من حروب، وهكذا ما إن أسدلت ستائرها في 8/8/ 88 ـ أي رقم هذا، ما أشبهه بالأرقام السرية لخزائن الأموال!ـ حتى رفعت ستارة حرب الخليج الثانية، وقد سميت عالميا بعاصفة الصحراء، في الثاني من أغسطس 1990، وهذه بدورها هيأت الأمر لغزو العراق في نيسان 2003، ما أسرع ما تدور رحى الحرب، وما أفدح ما تطحن من أرواح!
مع كلِّ حرب تقع يتهاوى ركن من أركان السلام في حياتنا، وتترك ثغرة تهبُّ منها رياح العنف والتباغض والجنون، إنها الثغرة التي يزيدها توالي الحروب سعةً فتودي بسلام الدواخل الإنسانية، تكتب فصولا جديدة من حياة الشعوب، أحيا اليوم وأكتب وسط مجتمع لا يمت لمجتمع ما قبل حرب الثمانينيات بصلات كثيرة، مجتمع أثقلته الحرب وهدمت أركانه، كلُّ حرب جديدة، عالمية أو محلية، تجعلنا نُعيد السؤال عن دور المعرفة في تعزيز الحسّ بالطمأنينة والتراحم بين الناس، لن نصل إلى جواب شاف بكل أسف كما لم يصل غيرنا ممن سبقنا في طرحه، لكن عدم الوصول لم يمنع البشريّة من الإيمان بدور الثقافة في الارتقاء بإنسانية الإنسان في أصعب العصور، وأحلكها ظلاما.
لؤي حمزة عباس روائي عراقي
في المسافة القصيرة الفاصلة بين جملتي درويش والبريكان أرى ظل رجل وحيد يتحرك، بخطوات متأنية يواصل السير على الأرض التي كانت ساحة للقتال ذات يوم بعيد، الرجل بطيء الخطوات هو أنا، والأرض الترابية الواسعة هي شرق مدينتي البصرة، بطريقة ما أدرك ذلك، وأدرك معنى أن أمشي متحرّرا من مخاوف الماضي على أرض لم تكن سوى بوابة للمخاوف والأهوال، وأن السنوات الأربعين التي تفصل خطوات الصبا في ساحة القتال عن خطى الكهولة، لم تتوقف الحرب فيها ولم تغادر خيالاتها يقظتي ومنامي، إنها الحرب التي ترذلت وبردت وعاشت تحت جلد أيامنا، وهي الحرب التي باضت وفقّست حروبا متلاحقة لا تزال أصداؤها تتردد في أجواء المدينة وغبارها يتصاعد في سمائها، أنصتْ في سكينة الليل وستسمع كلَّ شيء.
كلُّ حرب، على أي بقعة من الأرض، هي حرب خاصة بكلٍّ منا، حربنا التي تسدُّ علينا منافذ الضوء وتغيّر مجرى حياتنا، تقلب نهاراتنا ليالي وليالينا نهارات، مثلما تكون استمرارا وتواصلا للحروب التي سبقتها، وإن لم يربط بينها رابط أو تجمعها أسباب السياسة وضغائن الجغرافيا ونعرات التاريخ، فالحروب مثل لقطات متتابعة على شريط سينمائي، كوادر متلاحقة لا يفصل بينها سوى فاصل دقيق يختفي فور انبثاق الضوء ودوران الشريط، ولا يعد أمامنا على الشاشة غير حرب واحدة ممتدة امتداد التاريخ البشري، حروب تتداخل كما لو كانت حربا واحدة طويلة الأمد، لا بدء لها ولا انتهاء، تلمح، على الشاشة، وجهين يتداخلان من دون أن تدرك أيهما من وجوه حرب أوسترلتز التشيكوسلوفاكية، وأيهما من وجوه حرب الأفيون التي وقعت بعدها بعقود، تملأ الأفق عواصف ترابية حمراء، وترى فارسا يلفظ أنفاسه الأخيرة فيخال لك أنه من فرسان الحروب الغالية التي قادها يوليوس قيصر بين عامي 58 ـ 51 قبل الميلاد، وسريعا ما يراودك الشك، فلربما كان الفارس الذي يموت من حرب ثابسوس التي وقعت عام 46 قبل الميلاد جنوب شرقي قرطاجة، تتصفح معاجم الحروب وتقلّب صفحات موسوعاتها بحثا عن الحرب الأولى، أصل الحروب وجوهرها، يستغرق البحث وقتا ليس بالقصير بغير الوصول إلى نتيجة، كل معجم يبتكر أسبابا ليجعل من حرب ما فاتحة الحروب، ولن تجد مهما حاولت معجمين يتفقان على نقطة بدء واحدة، تترك الانشغال بالحرب الأولى وتعود إلى مقدمة المعجم باحثا عن الجملة الأولى، ظنا منك أن العثور على جملة في معجم أسهل من العثور على حرب، «تاريخ البشرية تاريخ مضطرب، تمثل فيه الحروب حيزا واسعا»، إنها عتبة المعجم، وهي الجملة التي تصح أن تكون خلاصة وخاتمة، فليس ثمة، في معاجم الحروب، سوى جملة واحدة تحدّثنا، مهما تغيرت مبانيها، عن جنون الإنسان ووحشيته، التاريخ المضطرب يحدّثنا، من جهته، عن حرب لا انتهاء لها، كلُّ حرب تلفُّ خيوطَ رمادها على الكوكب، تمنع عنه الضوء والهواء، خيوط تزحف في أراضي العقل المعتمة يحدوها أمل واحد: أن تصل في اللحظة التي تُنفخ فيها الأبواق وتُوقد النيران.
لا أغادر مقدمة المعجم بغير أن أؤشر تحت أكثر من سطر من سطورها، تلك عادة تساعدني على التريث أمام الجمل والانتباه لما أقرأ، «فالحرب من ثوابت الحياة البشرية، كما يتضح. غير أنها دائمة التجدد، وبالتالي مختلفة الصياغة والتعابير في كلِّ مرّة»، تحيّرني فكرة أن تكون الحرب من ثوابت الحياة وهي التي لم أحسبها سوى متغيّر ينافي حركة الحياة ويحدّ من فاعليتها، لكن المتغيّر يصبح ثابتا حينما يتكرر وتتقدم قوانينه سائر قوانين الحياة، فتكون الحرب قاعدة والسلام هو الاستثناء، أرفع رأسي عن الكتاب وأرمي نظري بعيدا، أفكر بالخمسين عاما الماضية من الحياة العراقية، الخمسين التي عشتها وشهدت الكثير من حروبها، بطريقة أو بأخرى، ويعود إلى ذهني مشهد سيارة الأجرة التي توقفت ذات يوم صيفي من أيام سنوات السبعينيات الأولى، وقد وقفتُ مع جمع من الأطفال المذهولين، أنظر لمسيل الدم المتيبس على الزجاجة الأمامية مقطرا من زاوية التابوت المربوط بالحبل أعلى السيارة، إنه المشهد البكر الذي أشهده بين مشاهد الحروب التي ستتكرر أمامي، الدم على الزجاج وردة بنية دكناء تلمع قشرتها تحت شمس البصرة الساطعة، الوردة التي ستكون، بالنسبة لي، كلمة الحرب الأولى التي لم يضمها معجم، وسأعرف بعد سنوات أن وردة الدم تفجرت في واحدة من حروب الشمال بين الكرد والحكومة العراقية، ولا أدري من أيِّ حرب منها جاءت السيارة حاملة تابوتها ولأي سبب توقفت في حيّنا، وردة الدم صارت مع حرب الثمانينيات حقلا واسعا من الزهور القشرية تخترقه السيارات السريعة المحملة بالتوابيت، حرب الثمانينيات الطويلة القاهرة لوثت زجاجة العراق الأمامية بمسيل الدم المتيبس حتى لم يعد ثمة منفذ لتبين الاتجاه، ولم يكن ثمة اتجاه واحد تسلكه السيارات، كانت الجهات كلها حقول دم متيبس وأطفالا ينظرون وقد أذهلتهم جسامة المشهد الذي سيرسخ في ذاكراتهم طويلا ويستعيدونه مع كلِّ حرب.
مع حرب الثمانينيات كان الصبي قد أصبح فتىً واسّودَّ الزغب الناعم في وجهه، وصارت مشاهد السيارات المحملة بالتوابيت مألوفةً لديه، لم تعد تذهله أو تخيفه، ولم يعد مرورها أمامه يخلّف هزةً في نفسه لا يُدرك معناها، لكنها بقيت تعيد إلى ذهنه مشهد السيارة الأولى بوردة الدم المتيبس على الزجاج، تفتحت وردة الفتى وسار بخطوات وئيدة حالمة في حقول الأدب، وقد أصبحت للعالم في ذهنه صورتان، صورة واقعية تسطع تحت شمس البصرة، وأخرى حلمية تنتظره في كلِّ كتاب يفتحه، صار لكلِّ مشهد يصادفه في الأولى مشهد قرين، حلمي الطابع، في الثانية، وكان يتسلل من قتامة الأولى ومن ضيق عوالمها إلى شساعة الثانية وشفافية عوالمها، يهرب من سطوة الحرب وعنف أناشيدها التي تتكرر على مسامعه وتملأ الفضاء من حوله إلى فضاءات لا حدود لها، مدينته أصبحت ساحة للقصف ولم تعد الحرب تفرّق بين جبهة قتال ومنطقة سكن آمن، ومع تغوّل كائن الحرب ازدادت حاجة الجيش للوقود البشري، مع معارك شرق البصرة الأولى بدأ تجنيد الكثير من الطلبة فور إكمال الدراسة الإعدادية لسبب أو لآخر، وشاءت الحرب، ولا راد لما تشاء، أن يكون الفتى من بين مواكب الفتيان التي لم يقيّض لها أن تكمل طريق دراستها فسيقت إلى مدارس القتال بدلا من قاعات الدراسة الجامعية، سيقضي الفتى الجندي سبع سنين في دوامة الحرب، سنوات طويلة بين ملاجئ التراب المحفورة من كشك البصري حتى رأس البيشة، في كلِّ ملجأ له حكاية، ومع كل حكاية له حسرة، سنوات تقاس بالحسرات، كانت الحياة تتغير، تدب في أعماقها جراثيم الحرب وتأكل روحها، فتتحول طبيعتها وتتبدل طبائعها، حتى كأن العراق نفسه يتبدد على سواتر القتال، لا تغير الحرب يوميات الإنسان ولا تبدّل سلوكه فحسب، بل تحفر عميقا في النفس، تأكل لبّها وتجهد روحها، ترفع الحدود وتلغي المسافات وتجعل المجتمع امتدادا لها، حرب الثمانينيات الطويلة فتحت الباب لكل ما تبعها من حروب، وهكذا ما إن أسدلت ستائرها في 8/8/ 88 ـ أي رقم هذا، ما أشبهه بالأرقام السرية لخزائن الأموال!ـ حتى رفعت ستارة حرب الخليج الثانية، وقد سميت عالميا بعاصفة الصحراء، في الثاني من أغسطس 1990، وهذه بدورها هيأت الأمر لغزو العراق في نيسان 2003، ما أسرع ما تدور رحى الحرب، وما أفدح ما تطحن من أرواح!
مع كلِّ حرب تقع يتهاوى ركن من أركان السلام في حياتنا، وتترك ثغرة تهبُّ منها رياح العنف والتباغض والجنون، إنها الثغرة التي يزيدها توالي الحروب سعةً فتودي بسلام الدواخل الإنسانية، تكتب فصولا جديدة من حياة الشعوب، أحيا اليوم وأكتب وسط مجتمع لا يمت لمجتمع ما قبل حرب الثمانينيات بصلات كثيرة، مجتمع أثقلته الحرب وهدمت أركانه، كلُّ حرب جديدة، عالمية أو محلية، تجعلنا نُعيد السؤال عن دور المعرفة في تعزيز الحسّ بالطمأنينة والتراحم بين الناس، لن نصل إلى جواب شاف بكل أسف كما لم يصل غيرنا ممن سبقنا في طرحه، لكن عدم الوصول لم يمنع البشريّة من الإيمان بدور الثقافة في الارتقاء بإنسانية الإنسان في أصعب العصور، وأحلكها ظلاما.
لؤي حمزة عباس روائي عراقي