لم تكن الهدنة العسكرية التي أعلن عنها فيما بين أطراف الصراع في اليمن ـ التي تزامنت مع بدايات شهر رمضان المبارك لهذا العام بعد انقضاء سبع سنوات من المعارك والاقتتال ـ المحددة بمدة شهرين، لتضيف فرحًا وابتهاجًا بين عامة الناس الذين هم أكثر تضررًا من الحرب وأعبائها الثقيلة، إلا من مشاعر عابرة محفوفة بحذر وانكسار، تملكت المواطنين في عموم البلاد، وهم الذين نالهم ما نالهم من ويلات الحرب ومكابدات العيش حتى باتوا في يأس تراكميّ، وإن كانت الأجواء السياسية تشهد بوادر انفراج تلوح راياته في الأفق الذي لطالما تلبّد بسحابة وأدخنة نارها التي أكلت الأخضر واليابس ونكلت وشردت وزمجرت!
بقليل من أمل، ينظر اليمنيون إلى مضامين اتفاق الهدنة التي تمت مؤخرًا بين أطراف اللعبة السياسية برعاية من منظمة الأمم المتحدة.. لسان حالهم: «اللهم اكفنا شرّ ما بين الهدنة وما بعدها»، لأن ما جرّعتهم الحرب طوال سبع سنين عجاف كان فادحًا، بل كارثيًا بما تحمله الكلمة من معنى.
لم ينس اليمنيون الاندلاعة الأولى للحرب قبل سبع سنوات: مدنًا كبرى تشهد حالة من الكرّ والفرّ، حملات عسكرية واقتحام مدن، اشتباكات متبادلة ومناحات تتغذى وتكبر، الكثير من مشاهد الموت والدمار. لكن لحظة عاصفة كانت مباغتةً ومرعبة: ليل ساكن وقمر منكسر ومدينة في هزيع أخير من رقادها.. فجأةً، اشتعل الأفق بالنار واهتزت الأرض على اتساعها، دويّ مفزع أيقظ النائمين ودفع بهم إلى هول غامض، أعمدة الدخان ترتفع، السواد المعبوء باحمرار النار يضيء، انفجارات تعقب نزول صواريخ ترسلها طائرات «إف 16» تهوي من أفق غير بعيد مثل جبال تساقط على الرؤوس التي خسرت منظوماتها الدفاعية الجوية إلا من النزر القليل من دفاعات تتقافز بين حين وآخر...
مخازن سلاح تخرج عن السيطرة تتقاذف شظاياها في مسارات أفقية وعمودية برغم التحصين في مخابئ وبطون جبال تحيط بمدينة أضاءت وما زالت في كتاب التاريخ، كأنما تحرسها من غدر الزمان وتغدر بها في آن.. ونتيجة لذلك، دماء تسيل، أرواح تشهق ولا تعود، أنين تحت أنقاض تتقطع له القلوب، غير أن ذلك، من بواكير الاحتراب، ما هو إلا نذير بعاصفة من جحيم، ستستمر، لاحقًا، أكثر رعبًا، أكثر ارتجاجًا، أكثر جحيمًا، أكثر نزفًا وتشردًا.
***
يتتابع القصف.. تنطفئ أرواح وآمال وبيوت ومنشآت ومعسكرات تحت وطأة المجنزرات على الأرض وذوات الأجنحة من الأعلى.. تتباعد النوايا أكثر من ذي قبل، تشبّ الاحتقانات بين الساسة والمتحاربين على الشاشات والمنابر... على الأرض، انعكاسات مباشرة: نزوح من مدن كبيرة إلى مدن أصغر لم تكن هي الأخرى في مأمن من الصواريخ أو المواجهات الميدانية. مدنًا عاشت الهول الكبير، وتيرة القصف والاشتباكات أحالتها خرابات مهجورة تشبه مدن الأفلام السينمائية الهوليودية.. مات من مات، جرح من جرح، هرب من هرب. كانت مأهولة بالبشر لكنها ستؤول إلى مسرح صمت وخراب، لا أحد عاد ولا أحد مكث، الجميع نزحوا، لتتقافز الغربان والطيور والضواري بين الثكنات المحترقة حيث كتلًا من أسمنت مبعثرة بلا هوادة على صفيح رملي ساخن ووحيد. وغير بعيد، ثمة مدنًا أجهزت عليها المواجهات اليومية والاشتباكات وتبادل القذائف، فصارت أشبه بمدن أشباح لكنها تمضي في يومياتها بروح مقامرة عنيدة.
في الأسابيع الأولى للحرب: اتجه الناس للنزوح، لا سيما من مدن كبرى هنا وهناك.. اتسع الأفق لدويّ الغارات، قتل من قتل.. موجة نزوح امتلأت لها مدارس وأبنية حكومية في مدن قريبة وبعيدة لم تشهد ضربات جوية بنفس ضراوة ما يحدث لغيرها.. وللحرب ضريبتها المدفوعة بنار الجحيم: رويدًا رويدًا، كل بيت وكل أسرة وكل قرية وكل مدينة في البلاد إما بشكل مباشر أو غير مباشر، دفعت ثمنًا من الأرواح والمعاناة والظلام والفاقة والحزن.
منذ الوهلة الأولى، انبثقت أزمات وقود وطعام، أصابت الحركة في الشارع بالشلل وأضفت على البيوت رائحة خبز بعيد المنال.. انهارت العملة المحلية، تبعًا لذلك، وهبطت قيمة الريال اليمني منذ بواكير الحرب لتصل إلى 600 ريال في مناطق حكومة صنعاء، أما مناطق حكومة عدن فقفز سعر الدولار الواحد إلى 1200 ريالًا، وأكثر من ذلك في أحايين كثيرة.. انهار الاقتصاد، ارتفعت الأسعار رويدًا رويدًا، ضاق الأفق.. تداعى الانفلات ودخل الناس في عتمة من الرؤية والتفاعل، تغلفهم الفاقة ويتربص بهم الفزع والخذلان... انهمك الغلابة في توفير مؤونة حياة لم تكن ـ في سنوات ما قبل الحرب ـ مؤمنةً كما ينبغي، يوم انتعشت البطالة والأوبئة واستفحل الفساد ضمن مساوئ نظام قامت ضده ثورة ما برحت أن تهشمت واهتزّت لتأتي ثورة مضادة في خضمّ التشظي المرير أجهزت على ملامح أمل بازغٍ كقطوف أغنية لم تكتمل، ولتدخل هي الأخرى في نفق التصدي لحرب هبطت مثل نيازك احتشدت في الفضاء الواسع فهبطت على سماء اليمن.
***
قدر الإنسان على هذه الأرض، أن يتشبث بالحياة في أحلك الظروف وأقسى المنايا.. اليمنيون صنّاع حضارة ومجد، ماضيهم ما زال شاهدًا على «البأس الشديد»، عمارتهم ما تزال شاهدةً على براعة إنسان ومخاطرته في تطويع الصخر، نحت بيوته على الشواهق والشرفات وحفر متكأه على حافة تطل على وادٍ سحيق. طوابير مضنية أمام لجان صرف معونات غذائية يقدمها برنامج الغذاء العالمي وتشهد المهمة اختلالات مؤسفة.. طوابير «سقيا الماء» حيث الكرامة مهدورة والبؤس يجرح كل شريان في الجسد المعذب... ولم تكن تداعيات الحرب، فقط، في انعدام وقود المحركات والغاز المنزلي وتهاوي منظومة الكهرباء الوطنية، سببًا في أن يكتب الناس نعيهم وفناءهم، بل على العكس، اتجه اليمني لابتكار أدواته بحرفية توارثها عن أجداده، وبمراسٍ في معتركات الحياة تعلمه من أسلافه، فلم يكن انعدام الغاز المنزلي إلا حافزًا لتصنيع منظومات تقليدية طارئة من التراب والزنك والرماد وأشياء أخرى. كما أن الحرب أعادت البيوت إلى الأزمنة الماضية حيث يوفر الحطب نارًا للطبخ ويطلع الخبز من تنانير طينية شهيًا ساخنًا كانت هي البديل لكل أزمة غاز، غير أن الأمر ليس بالسهولة الممكنة بالنسبة لبيوت تقع في مدينة لا فسحة مكانية فيها لحطب النار وخبز الطين وقهوة الأجداد.
الكهرباء الوطنية، تهاوت في وقت مبكر (إثر تداعيات ثورة 11 فبراير 2011)، ولذلك اتجه شعب مغلوب على أمره لاستجلاب منظومات تعمل بالألواح الشمسية اتسعت لها السوق اليمنية ـ وما زالت ـ قادمة من الصين. حدث ذلك بعد فترة مرعبة من الظلام واستحالة الاستمرار تحت رحمة الوقود المنعدم وباهظ الكلفة من البنزين المشغل للمولدات الكهربائية، عندما اختنقت الشوارع بضجيج المولدات ومخلفاتها الدخانية، وتدثرت العائلات بالظلام والصمت لفترة من مكابدات الحرب ووحشة القفار المسقوفة بأنباء الموت وطقوس الدفن التي اتسعت لها صدور الأمهات الثكالى ودموع أطفال ونساء من قتلتهم الحرب وجهًا لوجه أو من وراء جدار.
***
منذ سبتمبر 2016، لم تدفع سلطات صنعاء مرتبات موظفي الدولة والجيش والقطاعات الملحقة بالدولة.. استمر الحال ولم تُحل المعضلة بعد، إلا من معالجات اضطرارية تتمثل في صرف نصف راتب مع كل مناسبة عيد فطر أو أضحى وبين ذلك في بداية رمضان بشكل غير منتظم... الوضع في مناطق سلطات عدن بدا أفضل قليلًا إذ انتظمت مرتبات الموظفين بين فترة وأخرى، لكن ذلك حاصل في ظروف كدر معيشي يفوق، بأضعاف، ما هو حاصل في أسعار السلع والمنتجات الاستهلاكية في مناطق تحت إدارة سلطة صنعاء. في عدن وجنوب البلاد، أيضًا، معاناة معيشية يخوضها الناس بصبر وتقشف حيث لا أحد يجيب من يستغيث، ويستمر مسلسل اغتيالات تطال شخصيات بشكل مؤسف، مع قليل من ممارسات شبيهة، في صنعاء.
تجهز الحرب على صف واسع من محدودي الدخل وأولئك الذين غادروا وظائفهم لأسباب طبيعية أو تعسفية سياسية وبينهم من وجد نفسه أمام حافظة دوام في مؤسسة حكومية لا تدفع له راتبًا في نهاية الشهر، فاضطر للمغادرة ومزاولة أعمال أخرى يسد من خلالها أمعاء أطفاله الجوعى... ثمة صمود أسطوري لفئات من الموظفين لا سيما العاملين في قطاع التربية والتعليم الذين باتوا في الآونة الأخيرة يتسلمون مبالغ تحفيزية تدفعها منظمات أممية في أشهر السنة الدراسية، وفي مقابل ذلك، اتسعت رقعة التعليم الأهلي في المدن الرئيسية والثانوية، وذاك يدفع بمعلمين لترك وظائفهم الحكومية والاتجاه للعمل في التعليم الأهلي... أما مضمون المنهج الدراسي، لا سيما مناهج الصفوف الأساسية والثانوية، فتشهد اختلالًا مدفوعًا بأفكار سياسية تغذي نزعات مريبة لا تتفق مع ضرورات التنشئة العلمية المنشودة.
موت بطيء يصهر الناس فيما يعاندون ويقاومون متطلبات حياة باتت أثقل من الجبال على أرواحهم وصدورهم المتورمة من فرط السهر والاستغراق في الحيرة والبؤس والجوع الشديد، وخوفهم من قادم أكثر قسوة.
شاشات تلفزيونية ومنابر إعلامية، تقوم بتعبئة طائفية وتخوين وتكفير ومع كل عام جديد تكون نبرة التخوين والهجوم على الطرف الآخر أكثر حدةً وأعمى صوابًا... ملاحقات وسجون ومداهمات منازل واعتقالات وتحشيد مجتمعي وقبلي وطقوس تشييع قتلى باتت في أخبار التلفزيون وجبة يومية تغذيها جبهات مفتوحة وحصار مدن في ظل حياة تكاد تختنق مما بها من ضيق وتضييق ومناحات، ليس آخرها انتشار نقاط التفتيش الأمنية في المدن وعلى طول الطرق الرابطة بينها. ثمة كابوس طوابير الغاز المنزلي كل شهرين أو أقل.
غير بعيد، مطار صنعاء مغلق للسنة السابعة وما يترتب على ذلك من انعكاسات على مرضى لا حول لهم ولا قوة، كان عليهم أن يموتوا في مكانهم أو أن يقطعوا طريقًا مريرة طويلة مضنية تفضي إلى أحد مطارين: عدن أو سيئون ومنهما إلى مستشفيات العلاج في الهند ومصر والأردن وغيرها...
تفجير منازل، مصادرة أملاك، قنص من شواهق الأبنية، تسريح وظيفي غير قانوني، تلقين ثقافة الكراهية وذر رماد الفرقة والتمزق في قارعة نهار دائخ، ضربته شمس الاحتقان السياسي فأحالته صنمًا يركض في بركة العذاب (السبئي) الذي بلغ حدًا لا يطاق، لكنه نهم إلى الدم المسفوح عبثًا وخصامًا.
***
ما سبق، إنما هو غيض من فيض متاهات شعب حزين، اتسعت مقابره وتباعدت مسافاته. وقليل من حيرة طفلة (ابنة الشهيد كما يسمونها)، في عمر الزهور، في يمنٍ هنا أو هناك، ما زالت تسأل نفسها، بعد سنوات من مقتل أبيها: «لِم الناس حينما تموت تُدفن في أكفان بيضاء، إلا أبي جيء به أشلاءً متناثرة ملفوفةً في بطانية»؟!...
صدام الزيدي صحفي وشاعر يمني
بقليل من أمل، ينظر اليمنيون إلى مضامين اتفاق الهدنة التي تمت مؤخرًا بين أطراف اللعبة السياسية برعاية من منظمة الأمم المتحدة.. لسان حالهم: «اللهم اكفنا شرّ ما بين الهدنة وما بعدها»، لأن ما جرّعتهم الحرب طوال سبع سنين عجاف كان فادحًا، بل كارثيًا بما تحمله الكلمة من معنى.
لم ينس اليمنيون الاندلاعة الأولى للحرب قبل سبع سنوات: مدنًا كبرى تشهد حالة من الكرّ والفرّ، حملات عسكرية واقتحام مدن، اشتباكات متبادلة ومناحات تتغذى وتكبر، الكثير من مشاهد الموت والدمار. لكن لحظة عاصفة كانت مباغتةً ومرعبة: ليل ساكن وقمر منكسر ومدينة في هزيع أخير من رقادها.. فجأةً، اشتعل الأفق بالنار واهتزت الأرض على اتساعها، دويّ مفزع أيقظ النائمين ودفع بهم إلى هول غامض، أعمدة الدخان ترتفع، السواد المعبوء باحمرار النار يضيء، انفجارات تعقب نزول صواريخ ترسلها طائرات «إف 16» تهوي من أفق غير بعيد مثل جبال تساقط على الرؤوس التي خسرت منظوماتها الدفاعية الجوية إلا من النزر القليل من دفاعات تتقافز بين حين وآخر...
مخازن سلاح تخرج عن السيطرة تتقاذف شظاياها في مسارات أفقية وعمودية برغم التحصين في مخابئ وبطون جبال تحيط بمدينة أضاءت وما زالت في كتاب التاريخ، كأنما تحرسها من غدر الزمان وتغدر بها في آن.. ونتيجة لذلك، دماء تسيل، أرواح تشهق ولا تعود، أنين تحت أنقاض تتقطع له القلوب، غير أن ذلك، من بواكير الاحتراب، ما هو إلا نذير بعاصفة من جحيم، ستستمر، لاحقًا، أكثر رعبًا، أكثر ارتجاجًا، أكثر جحيمًا، أكثر نزفًا وتشردًا.
***
يتتابع القصف.. تنطفئ أرواح وآمال وبيوت ومنشآت ومعسكرات تحت وطأة المجنزرات على الأرض وذوات الأجنحة من الأعلى.. تتباعد النوايا أكثر من ذي قبل، تشبّ الاحتقانات بين الساسة والمتحاربين على الشاشات والمنابر... على الأرض، انعكاسات مباشرة: نزوح من مدن كبيرة إلى مدن أصغر لم تكن هي الأخرى في مأمن من الصواريخ أو المواجهات الميدانية. مدنًا عاشت الهول الكبير، وتيرة القصف والاشتباكات أحالتها خرابات مهجورة تشبه مدن الأفلام السينمائية الهوليودية.. مات من مات، جرح من جرح، هرب من هرب. كانت مأهولة بالبشر لكنها ستؤول إلى مسرح صمت وخراب، لا أحد عاد ولا أحد مكث، الجميع نزحوا، لتتقافز الغربان والطيور والضواري بين الثكنات المحترقة حيث كتلًا من أسمنت مبعثرة بلا هوادة على صفيح رملي ساخن ووحيد. وغير بعيد، ثمة مدنًا أجهزت عليها المواجهات اليومية والاشتباكات وتبادل القذائف، فصارت أشبه بمدن أشباح لكنها تمضي في يومياتها بروح مقامرة عنيدة.
في الأسابيع الأولى للحرب: اتجه الناس للنزوح، لا سيما من مدن كبرى هنا وهناك.. اتسع الأفق لدويّ الغارات، قتل من قتل.. موجة نزوح امتلأت لها مدارس وأبنية حكومية في مدن قريبة وبعيدة لم تشهد ضربات جوية بنفس ضراوة ما يحدث لغيرها.. وللحرب ضريبتها المدفوعة بنار الجحيم: رويدًا رويدًا، كل بيت وكل أسرة وكل قرية وكل مدينة في البلاد إما بشكل مباشر أو غير مباشر، دفعت ثمنًا من الأرواح والمعاناة والظلام والفاقة والحزن.
منذ الوهلة الأولى، انبثقت أزمات وقود وطعام، أصابت الحركة في الشارع بالشلل وأضفت على البيوت رائحة خبز بعيد المنال.. انهارت العملة المحلية، تبعًا لذلك، وهبطت قيمة الريال اليمني منذ بواكير الحرب لتصل إلى 600 ريال في مناطق حكومة صنعاء، أما مناطق حكومة عدن فقفز سعر الدولار الواحد إلى 1200 ريالًا، وأكثر من ذلك في أحايين كثيرة.. انهار الاقتصاد، ارتفعت الأسعار رويدًا رويدًا، ضاق الأفق.. تداعى الانفلات ودخل الناس في عتمة من الرؤية والتفاعل، تغلفهم الفاقة ويتربص بهم الفزع والخذلان... انهمك الغلابة في توفير مؤونة حياة لم تكن ـ في سنوات ما قبل الحرب ـ مؤمنةً كما ينبغي، يوم انتعشت البطالة والأوبئة واستفحل الفساد ضمن مساوئ نظام قامت ضده ثورة ما برحت أن تهشمت واهتزّت لتأتي ثورة مضادة في خضمّ التشظي المرير أجهزت على ملامح أمل بازغٍ كقطوف أغنية لم تكتمل، ولتدخل هي الأخرى في نفق التصدي لحرب هبطت مثل نيازك احتشدت في الفضاء الواسع فهبطت على سماء اليمن.
***
قدر الإنسان على هذه الأرض، أن يتشبث بالحياة في أحلك الظروف وأقسى المنايا.. اليمنيون صنّاع حضارة ومجد، ماضيهم ما زال شاهدًا على «البأس الشديد»، عمارتهم ما تزال شاهدةً على براعة إنسان ومخاطرته في تطويع الصخر، نحت بيوته على الشواهق والشرفات وحفر متكأه على حافة تطل على وادٍ سحيق. طوابير مضنية أمام لجان صرف معونات غذائية يقدمها برنامج الغذاء العالمي وتشهد المهمة اختلالات مؤسفة.. طوابير «سقيا الماء» حيث الكرامة مهدورة والبؤس يجرح كل شريان في الجسد المعذب... ولم تكن تداعيات الحرب، فقط، في انعدام وقود المحركات والغاز المنزلي وتهاوي منظومة الكهرباء الوطنية، سببًا في أن يكتب الناس نعيهم وفناءهم، بل على العكس، اتجه اليمني لابتكار أدواته بحرفية توارثها عن أجداده، وبمراسٍ في معتركات الحياة تعلمه من أسلافه، فلم يكن انعدام الغاز المنزلي إلا حافزًا لتصنيع منظومات تقليدية طارئة من التراب والزنك والرماد وأشياء أخرى. كما أن الحرب أعادت البيوت إلى الأزمنة الماضية حيث يوفر الحطب نارًا للطبخ ويطلع الخبز من تنانير طينية شهيًا ساخنًا كانت هي البديل لكل أزمة غاز، غير أن الأمر ليس بالسهولة الممكنة بالنسبة لبيوت تقع في مدينة لا فسحة مكانية فيها لحطب النار وخبز الطين وقهوة الأجداد.
الكهرباء الوطنية، تهاوت في وقت مبكر (إثر تداعيات ثورة 11 فبراير 2011)، ولذلك اتجه شعب مغلوب على أمره لاستجلاب منظومات تعمل بالألواح الشمسية اتسعت لها السوق اليمنية ـ وما زالت ـ قادمة من الصين. حدث ذلك بعد فترة مرعبة من الظلام واستحالة الاستمرار تحت رحمة الوقود المنعدم وباهظ الكلفة من البنزين المشغل للمولدات الكهربائية، عندما اختنقت الشوارع بضجيج المولدات ومخلفاتها الدخانية، وتدثرت العائلات بالظلام والصمت لفترة من مكابدات الحرب ووحشة القفار المسقوفة بأنباء الموت وطقوس الدفن التي اتسعت لها صدور الأمهات الثكالى ودموع أطفال ونساء من قتلتهم الحرب وجهًا لوجه أو من وراء جدار.
***
منذ سبتمبر 2016، لم تدفع سلطات صنعاء مرتبات موظفي الدولة والجيش والقطاعات الملحقة بالدولة.. استمر الحال ولم تُحل المعضلة بعد، إلا من معالجات اضطرارية تتمثل في صرف نصف راتب مع كل مناسبة عيد فطر أو أضحى وبين ذلك في بداية رمضان بشكل غير منتظم... الوضع في مناطق سلطات عدن بدا أفضل قليلًا إذ انتظمت مرتبات الموظفين بين فترة وأخرى، لكن ذلك حاصل في ظروف كدر معيشي يفوق، بأضعاف، ما هو حاصل في أسعار السلع والمنتجات الاستهلاكية في مناطق تحت إدارة سلطة صنعاء. في عدن وجنوب البلاد، أيضًا، معاناة معيشية يخوضها الناس بصبر وتقشف حيث لا أحد يجيب من يستغيث، ويستمر مسلسل اغتيالات تطال شخصيات بشكل مؤسف، مع قليل من ممارسات شبيهة، في صنعاء.
تجهز الحرب على صف واسع من محدودي الدخل وأولئك الذين غادروا وظائفهم لأسباب طبيعية أو تعسفية سياسية وبينهم من وجد نفسه أمام حافظة دوام في مؤسسة حكومية لا تدفع له راتبًا في نهاية الشهر، فاضطر للمغادرة ومزاولة أعمال أخرى يسد من خلالها أمعاء أطفاله الجوعى... ثمة صمود أسطوري لفئات من الموظفين لا سيما العاملين في قطاع التربية والتعليم الذين باتوا في الآونة الأخيرة يتسلمون مبالغ تحفيزية تدفعها منظمات أممية في أشهر السنة الدراسية، وفي مقابل ذلك، اتسعت رقعة التعليم الأهلي في المدن الرئيسية والثانوية، وذاك يدفع بمعلمين لترك وظائفهم الحكومية والاتجاه للعمل في التعليم الأهلي... أما مضمون المنهج الدراسي، لا سيما مناهج الصفوف الأساسية والثانوية، فتشهد اختلالًا مدفوعًا بأفكار سياسية تغذي نزعات مريبة لا تتفق مع ضرورات التنشئة العلمية المنشودة.
موت بطيء يصهر الناس فيما يعاندون ويقاومون متطلبات حياة باتت أثقل من الجبال على أرواحهم وصدورهم المتورمة من فرط السهر والاستغراق في الحيرة والبؤس والجوع الشديد، وخوفهم من قادم أكثر قسوة.
شاشات تلفزيونية ومنابر إعلامية، تقوم بتعبئة طائفية وتخوين وتكفير ومع كل عام جديد تكون نبرة التخوين والهجوم على الطرف الآخر أكثر حدةً وأعمى صوابًا... ملاحقات وسجون ومداهمات منازل واعتقالات وتحشيد مجتمعي وقبلي وطقوس تشييع قتلى باتت في أخبار التلفزيون وجبة يومية تغذيها جبهات مفتوحة وحصار مدن في ظل حياة تكاد تختنق مما بها من ضيق وتضييق ومناحات، ليس آخرها انتشار نقاط التفتيش الأمنية في المدن وعلى طول الطرق الرابطة بينها. ثمة كابوس طوابير الغاز المنزلي كل شهرين أو أقل.
غير بعيد، مطار صنعاء مغلق للسنة السابعة وما يترتب على ذلك من انعكاسات على مرضى لا حول لهم ولا قوة، كان عليهم أن يموتوا في مكانهم أو أن يقطعوا طريقًا مريرة طويلة مضنية تفضي إلى أحد مطارين: عدن أو سيئون ومنهما إلى مستشفيات العلاج في الهند ومصر والأردن وغيرها...
تفجير منازل، مصادرة أملاك، قنص من شواهق الأبنية، تسريح وظيفي غير قانوني، تلقين ثقافة الكراهية وذر رماد الفرقة والتمزق في قارعة نهار دائخ، ضربته شمس الاحتقان السياسي فأحالته صنمًا يركض في بركة العذاب (السبئي) الذي بلغ حدًا لا يطاق، لكنه نهم إلى الدم المسفوح عبثًا وخصامًا.
***
ما سبق، إنما هو غيض من فيض متاهات شعب حزين، اتسعت مقابره وتباعدت مسافاته. وقليل من حيرة طفلة (ابنة الشهيد كما يسمونها)، في عمر الزهور، في يمنٍ هنا أو هناك، ما زالت تسأل نفسها، بعد سنوات من مقتل أبيها: «لِم الناس حينما تموت تُدفن في أكفان بيضاء، إلا أبي جيء به أشلاءً متناثرة ملفوفةً في بطانية»؟!...
صدام الزيدي صحفي وشاعر يمني