«أن تحيا هو أن تتذكر»

(خورخي فورتادو، «جزيرة الزهور»)

«1»

أتذكر.

«2»

شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها (خاصة البريطانيون، والأستراليون، والبولنديون، ومن ظهر وبطن من العرب) الحرب الثانية على العراق في 2003 بدعوى أن بلاد ما بين النهرين وأرض جلجامش وتعليم البشريَّة القراءة والكتابة (وهي البلاد المحطَّمة عسكريَّا، ونفسيَّا، وسياسيَّا، وثقافيَّا، منذ حرب «عاصفة الصحراء» التي ورَّط فيها صدام حسين شعبه وأمته في 1991) تحوز على أسلحة للدمار الشامل تكفي لمحق سكان المريخ، وعطارد، وزحل. وفي هذا جنَّد ودبَّج الساسة الغربيون «أدلتهم» و«براهينهم» بأقصى درجات الكذب والتزوير والرياء السياسي من على منصات منظمة الأمم المتحدة، ورديفاتها الببَّغائيَّة من المؤسسات الدوليَّة، لإثبات أن ثمة مزارع للدجاج تقع في غرب بغداد، وهي دجاجات إرهابيَّة شيطانيَّة مؤهلة لحمل القنابل الجرثوميَّة، والغازيَّة، والكيميائية، والنيتروجينية، والبيولوجيَّة، إلخ، والطيران بها بأفضل مما تفعل الصواريخ الباليستية العابرة للقارات لقصف نيويورك، وباريس، ولندن، وبرلين، وعاصمة بلاد جزر الواق واق. وبعد أن اتضحت تفاصيل المذبحة وحججها الزائفة قال أولئك الساسة: في الحقيقة، لم نكن واثقين مما قلناه، لكننا قلناه في أية حال، وقمنا بما قمنا به في أية حال، ولا يردعنا شيء أو أحد في أية حال (الإرشيف الصحفي والإعلامي العالمي يحتفظ بكل ذلك). وفي خضم كل ذلك الغيِّ الماجن والآثم حدثت بعض الصور، وبعض العِبَر لمن يتذكر الصور.

(3)

ثمَّة في تحليل الصورة الفوتوغرافيَّة متكآت منهجيَّة راسخة في النظريَّة النقدية الحديثة؛ فلديك، على سبيل المثال، نموذج رولان بارت كما ورد في كتابه Camera Lucida، ولديك أيضا نموذج ستورت هول كما جاء في بحثه التأسيسي المعروف «تعيينات صور الأخبار». ويمكن للمرء أن يذهب إلى جون برجر في «طُرُقٍ للرؤية»، وبعض أعمال سوزان سونتاج، وكتابات أخرى غيرها.

لكن محاججتي هنا هي الزعم أنه يمكن لنا قراءة الصورة الفوتوغرافية ليس بـ«تحليلها النظري» اتكاء إلى منهجيَّة متداولة وموثوقة في الأوساط الفكرية والأكاديمية، وإنما بـ«وصفها الدقيق من خلال الثقافة» بطريقة تعرض فيها تلك الثقافة شيفراتها ومرجعياتها في نسيج الوصف الذي سيبدو خارجيَّا للوهلة الأولى، وبحيث يصير الأمر قراءة وتوثيقا من خارج النظريات الكبرى. لكن، كيف يمكن ذلك؟ وهل هذا ممكن أصلا؟ هذه محاولة لا ضمان لها إلا المغامرة.

«4»

من الصُّور التي التقطت أثناء غزو العراق وإخضاعه بصورة ماحقة ونهائية (في 2003) هاتان الصورتان، التقطتهما من زاوية بمستوى النظر (EL) كاميرا فيديو ثابتة، وذلك في ما يبدو أنه المكان نفسه وتحت الظروف نفسها التاريخية والخاصة ببيئة التصوير، مع فارق لا يكاد يُذكر إلا على مستوى دقائق معدودة -وربما أقل- في حياة الزمان وعمر الذاكرة الشخصية والعامة. ومع أن الصورتين قد نُشرتا وتداولتا في نفس سياق خبر القيام بالعملية الاستشهاديَّة، إلا أن الكادرين يبدوان معزولَيْن وثابتَيْن في النشر الإلكتروني مثل صورتين فوتوغرافيتين. وتُري تانك الصورتان المواطنتين العراقيتين نور الشُّمري ووداد جميل اللتين نفذتا العمليتين الاستشهاديتين اللتين أودتا بحياة ثلاثة جنود أمريكيين جميعهم من الذكور أثناء مقاومة الغزو الأمريكي (الاحتلالي) للعراق، وتحديدا في أوائل أبريل من عام 2003. وقد التقطت هاتان الصورتان في الوقت نفسه الذي كان فيه «القائد البطل» صدام حسين «يقود المقاومة» (هذا ما كان يقوله الإعلام العراقي الرسمي في الأقل) مختفيا في واحد أو أكثر من مخابئه السريِّة الحصينة، ومحاطا بأفضل رجال ووسائل الحماية وذلك قبل أن يلقي الغزاة القبض عليه بعد وقت طويل نسبيَّا من ذلك بصورة لا تبتعد تفاصيلها أبدا من الإهانة والهوان وهو حرفيَّا، مضطجع في حفرة في أرض الوطن كما يضطجع الجنين في رحم أمِّه، أي بعد أن نفذت المواطنتان العراقيتان نور الشّمري ووداد جميل عمليتيهما الاستشهاديتين، وعادتا إلى الأصل الأول حيث أصبحتا رمادا ورميما مطحونين في ثرى العراق.

في الصورة، تواجه المرأة الأولى (نور الشُّمري) المُشاهِدَ، ولكن نظرتها (بمعنى gaze) لا تتجه إليه مباشرة، بل تنحرف قليلا إلى اليمين (بالنسبة للمنظور البصري للمُشاهِد)؛ بمعنى أن النظرة ليست موجهة إلى الوعي الحاضر للمتفرج بل إلى اللاوعي الغائب؛ إنها موجَّهة إلى الـ«ذلك» وليس إلى الـ«هذا»؛ إلى الـ«هناك» وليس إلى الـ«هنا». وتعتمر هذه المرأة «شماغا» أحمر على هيئة عمامة أو لَفَّة بدوية بصورة مُعْتَنَى بها، وإن كان من الصعب في الصورة تحديد ما إذا كانت العمامة أو لفَّة الرأس رجالية أم نسائية أم هي مزيج من الاثنتين. بَيْدَ أنه ليس من الصعوبة بمكان القول إن لون قماش لفَّة الرأس النسائية، خاصة حين تتخذ هذا الشكل، في البادية العراقية التي يشيع فيها هذا الزي، أسود وليس أحمر؛ فالثاني يكاد يكون حكرا على عمائم ولفّات الرجال بتنويعاتها المختلفة. كما أنه ليس من العسير القول إن هذا النوع من لفَّات الرأس النسائية ترتديه غالبا النساء الأكبر سنَّا من الشابَّات، وإن اللون الأحمر اتَّخذ دوما في الثقافة العربية كما في غيرها من معظم ثقافات العالم دلالات حسيَّة، وأيروسيَّة، وعَرْبَدِيَّة كما في قولنا: «قضيت ليلة حمراء البارحة»، ودلالات أخرى تتعلق بالاستشهاد أو المَصَارِعِ والقتل في الحروب كما في قولنا: «ستكون الأرض حمراء بعد المعركة»؛ غير أن العمامة أو لفَّة الرأس النسائيَّة التي ترتديها نور الشّمري ليست حمراء تماما (وذلك من طبيعة الملبوس نفسه)، فهي مُمَوْسَقَةٌ بصريا بخطوط ونقاط بيضاء نألف رؤيتها في مثل تلك الشّماغات. لونا الشّماغ (الأحمر والأبيض) يتناغمان، إذا، مع لوني الثلثين الأعلى والأوسط من العلم العراقي (الأحمر والأبيض)، وهو طبعا رمز الوطن والشعب في الثقافة العربية كما في غيرها من ثقافات العالم، في خلفية الصورة. كما يتساوق الظهور الجزئي للونِ الثُّلث الأعلى (الأحمر) من العَلَم مع جزئية وجود اللون الأحمر في عمامة أو لفَّة الرأس النسائية لنور الشمِّري، بينما يتناغم بصريا لون ثوبها القاتم مع اللون الأسود للثُّلث الأسفل من العلم المنحنية قماشته؛ بل أن الانطباع اللوني والشكلي للتركيب المشهدي (mise-en-scene) يجعل نور الشمري تبدو وكأنها تقريبا «خرجت» من ذلك الجزء من العَلَم. وفي الوقت الذي تضع فيه المرأة راحة يدها اليمنى على كلمة «الله» كما هي مدوَّنة ومحفوظة في المصحف، وفمها مفتوح وهو يتلفظ بصوتها الأنثوي ناطقا عهد الشهادة الوشيكة، فإن يدها اليسرى تمسك رشَّاشا وتضمُّه قريبا من النصف الأيسر لجسدها.

ومع إن فرويد نفسه يحذِّرنا من مغبَّة الاستسلام للتبسيطيَّة والمجَّانيَّة لدى قراءة الرموز الجنسيَّة في تفسير الأحلام- التي هي طبعا نوع من أنواع الفوتوغرافيا والسينما- كما في مقولته الشهيرة «إن السيجار في بعض الأحيان ليس إلا سيجارا»، إلا أني لا أستطيع أبدا غض النظر عن هذا الرمز «الجنسي» الأكثر كلاسيكية ووضوحا بامتياز في أدبيات القراءة الرمزية عموما وفي الصورة هذي خصوصا، حيث ينتصب الرشاش في وضعٍ قائم، وفوهة ماسورته موجهة إلى الأعلى في الفضاء الواقع خارج إطار الصورة التي تختفي منها بالكامل أيُّ رموز نهديَّة كالاستدارات، والتكوُّرات، والنتوءات، والشقوق، ومثيلاتها. وتظهر النجمة الخضراء الأولى التي تزيِّن الثلث الأوسط من العلم كاملة. أما النجمة الوسطى فيغطيها رأس نور الشُّمري باستثناء خُمْسَيْها اللذين يبدوان وكأنهما منبثقان من رأس المرأة، أو أن رأس المرأة يبدو وكأنه طالع من النجمة، بينما توسطت ماسورة الرَّشاش المسافة بين الرأس والنجمة الخماسيَّة الأولى الواقعة في منتصف الثلث الأوسط للعلم إلى اليمين (بالنسبة إلى المنظور البشري للمشاهِد).

أما المرأة الثانية، وهي وداد جميل الأصغر سنا من الأولى كما يبدو، فتواجه المُشاهِدَ ونظرتها (بمعنى gaze مرة أخرى) تتجه إليه في ما يسمونه «الخطاب المباشر» (direct address) في السينماتوغرافيا والفوتوغرافيا، وذلك على عكس الصورة الأولى؛ إنها، إذا، تتجه إلى الوعي وليس اللاوعي؛ إلى الـ«هذا» وليس إلى الـ«ذلك»؛ إلى الـ«هنا» وليس إلى الـ«هناك». وقد تركت هذه المرأة أحد طرفي الشماغ الأحمر المنقَّط بمساحات جزئية بيضاء (أي أنه من ذات نوع الشماغ الذي رأيناه في الصورة الأولى، بل ربما كان نفسه في الحقيقة).. تركته، إذا، ينسدل بصورة عَرَضِيَّة مثل خصلة شعر كبيرة من نوع «ذيل الجواد» مغناج ومهمَلة على اثنين من أكثر علامات أنوثتها وإنسانيتها، أي ثديها الأيسر وقلبها، هذا في الوقت الذي يُكوِّن فيه الطرف المنسدل للشماغ ما يشبه سهما مخروطيَّا أو شبه مخروطي مُهَلْهَلًا وينتهي رأسه عند المنتصف الأمامي لجسدها تماما، قُرَيْبَ الرمز «الجنسي» المنتصب، الرشّاش، والذي تتجه فوّهة ماسورته إلى الأعلى خارج إطار الصورة التي بدورها تختفي منها بالكامل أيُّ رموز نهديَّة كالاستدارات، والتكوُّرات، والنتوءات، والشقوق، والفتحات، والتجاويف، ومثيلاتها ، والذي -أي الرَّشاش- تُمسك به بيدها اليسرى، في الوقت الذي استقرت فيه يدها اليمنى على كلمة «الله» كما هي مدوَّنة في المصحف. غير أنه على خلاف الصورة الأولى فإن المسافة بين الجسد الأنثوي والرمز «الجنسي» أكبر قليلا (مُذكِّرا هنا بمفارقة أن وداد جميل تبدو أصغر سنَّا من نور الشُّمري). وفي الوقت الذي يُغلِّف فيه الإبهامُ الهوية «الجَنْدَرِيَّة» لِعمامة أو لفَّة الرأس النسائية لنور الشمَّري في الصورة الأولى، فإن الكيفية التي تلفُّ بها وداد جميل «الشماغ» على رأسها وعنقها وكتفيها وصدرها رجاليَّة على نحوٍ لا لبس فيه، وهي صورة مألوفة لدى الجميع في المناطق التي يشيع فيها ارتداء الشماغ كالعراق، وبلاد الشام التاريخية، والخليج العربي. كما أن الهندسة اللونيَّة والشكليَّة في الصورة الثانية مختلفة عنها في الأولى؛ إذ يشير التَّساوق هنا ليس إلى إلغاء الحضور الميثولوجي والميتافيزيقي بالكامل، ولكن إلى تهميشه لصالح انتهاكٍ بصريٍّ يُمثِّله النَّشَازُ الناجم عن اختراق شماغ وداد جميل (الأحمر والأبيض) للثُّلث الأسفل من العَلَم (الأسود) من المنتصف تماما، وإن كانت الثلاثيَّة اللونيَّة هذي تتصادى بصريا مع الألوان الثلاثة للعَلم، أو رمز الشعب والوطن، معيدة بذلك إنتاجه على هذا النحو، والذي -أي العَلَم- حلَّ فيه رأس وداد جميل محل النجمة الخماسيَّة الوسطى في منتصف الثلث الأوسط من العلم تماما، في الوقت الذي غطَّت فيه ماسورة الرشَّاش خُمْسَي النجمة الأولى الواقعة في منتصف الثلث الأوسط للعلم إلى اليمين (بالنسبة إلى منظور المُشاهِد) متيحة بذلك لأسم الجلالة «الله» أن يظهر كاملا وذلك عكس الصورة الأولى. وإن كان هناك أي شيء على الإطلاق تشترك فيه الصورتان فيما يخص الجزئيات والتفاصيل الصغيرة فهو بلا أدنى شك الفم المفتوح في حالة المرأتين كلتيهما، والذي ينطق بعهد الشهادة الوشيكة.

«5»

تُرى، أهناك تِبْيانٌ أكثر صراحةً، وأكثر وضوحا، وأكثر فضيحةً للمأزق التاريخي للذكوريَّة العربيَّة مما يبدو عليه الأمر في هاتين الصورتين؟

«6»

أتذكر.*

عبدالله حبيب شاعر وناقد سينمائي ومؤلف كتاب «مساءلات سينمائية»

• كتبت هذه المادة للمرة الأولى في 2003 (وهذه نسخة عربية معدلة منها). وفي ذلك الوقت كانت صورتا نور الشُّمري ووداد جميل موجودتين في معظم، إن لم يكن جميع، المواقع الإلكترونية المعنية بتلك الحرب وتفاصيلها. بعد تسعة عشر عاما من كتابة المادة بصورتها الأصلية بحثت الليلة (هنا، في مسقط، في 8 أبريل 2022) عن تينك الصورتين والاسمين في كل مكان إلكتروني تقريبا، فلم أجدهما (ولحسن الحظ أني لا أزال أحتفظ بهما في حاسوبي رفق أصل المادة)، بل اندلقت عليَّ المواقع الإلكترونية بصور شبه بورنوغرافيَّة لفتيات، بنفس الاسمين أو قريبا من ذلك، يرتدين بنطلونات جينز ضيقة (أعني: ضيقة جدا). اختفت نور الشُّمري ووداد جميل (الأصليتين، اللتين عنهما هذه المادة) من الذاكرة الجمعيَّة ومن صورة ما حدث في العراق في 2003. أما صورة صدَّام حسين فإنها لا تزال موجودة في كل مكان، وبكل الأشكال (كما في الصورة المنشورة مع هذه المادة).