سالم الرحبي

حرمني صيت المتنبي المشهور بتضخم الذات من الركون إلى ديوانه في سنوات صباي. كان معلمو اللغة العربية يُكرسون هذه الصورة عنه كلما تعرضنا لقصائده في المنهاج المدرسي، ويَعدون غرور موهبته من أهم مؤهلاته الشخصية والفنية، الأمر الذي لم أعد أجادل فيه، متهيبين في ذات الوقت الطعن في سيرته الاجتماعية والسياسية من خلال ثغرات وانزلاقات عديدة تركها هذا الشاعر العظيم مجالا في سيرته لأقلام الناقدين والعابثين، المحبين والمبغضين، على حد سواء. فلم يُعفِه المجد الشعري من إدانته الصريحة في تملقه لرجال السلطة، مُستخدماً الشعر استخداما في سبيل غاياته السلطوية هو الآخر. ولم ترض عنه أجيال متأخرة احتقاره المبالغ به -وهو سيد المبالغات دائماً- لأبناء القوميات الأخرى لحساب جنسه العربي كاحتقاره لبني زمانه من بني لغته:

وما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم

ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ

كان المعلمون مختطفين بنبرته العربية القحة، التي تمتزج فيها حضارة المدينة العربية ببداوة الصحراء، كما تُختطف الجماهير المحرومة من البيان بخطاب زعيم سياسي فصيح. ومن يدري، فربما كانوا لا يجرؤون على النيل منه أمام طلابهم لأسباب تربوية؟ في الواقع لم تكن صورة المتنبي التي تتملك خيالهم تختلف كثيراً عن صورته السائدة في الثقافة العربية العمومية، الأمر الذي يذكرني بإعجاب أبي بعنترة دون أن يطالع شيئاً من شعره في ديوان أو كتاب، مكتفياً بذكرياته مع فارس بني عبس وشاعرهم في سهرات دور السينما البحرينية التي لا تمل من عرض فِيلم «عنتر وعبلة» في ستينات القرن الماضي، أيام كان أبي كغيره من العمانيين، في تلك السنوات التي نراها بعيدة ويرونها قريبة، يبحث بين المنامة والمحرق عن لقمة العيش. ولعل الحديث عن عنترة والمتنبي في سياق واحد سيؤدي بنا إلى التفكر قليلاً في شاعرية البطولة التي هيمنت على القرون الأولى من تجربة الشعر العربي، بل كان على الشاعر أن يتمثل البطولة فعلياً في ساحة المعركة حتى يخدمها شعرياً، فنجد أن أشهر أعلام العرب من الفرسان والقادة والأمراء كانوا شعراء أو قالوا الشعر في مناسبات مأثورة. وهكذا عاش المتنبي كما يُؤرخَ له شاعراً على صهوة الريح وشاعراً على البلاط، حتى مات اغتيالاً كما ينبغي لشخصية درامية مثله أن تموت.

وعلى الأرجح أن المعلم الذي شرح لنا في حصة اللغة العربية ميمية المتنبي، التي تضمنت بيته الشهير «الخيل والليل والبيداء تعرفني...»، لم يكن قد قرأ كتاب طه حسين النفيس والجريء الذي خرج للقُراء في أواسط ثلاثينات القرن الماضي تحت عنوان «مع المتنبي»، وذلك بمناسبة مرور ألف عام على حادثة «اغتيال» أبي الطيب، كما نقول بلغة اليوم، الحادثة التي صادفت شهر رمضان من سنة ٣٥٤ للهجرة/ ٩٦٥م. فلو أن معلمي الحبيب أعاد التعرف على المتنبي من خلال طه حسين لكان الرأي والموقف قد تغيرا إلى حد يمكن أن يصالحني مع هذا الشاعر في ذلك العمر، رغم القسوة الضرورية التي لسع بها الكتاب عُشاق المتنبي المتأخرين، لكنها قسوة يناور بها طه حسين حول إعجاب سري أنفق عميد الأدب العربي سطور مقدمته ليواريه، كما أنفق صيف عام 1936 في تأليف كتابه: «وليس المتنبي مع هذا من أحب الشعراء إليَّ وآثرهم عندي، ولعلّه بعيد كل البعد عن أن يبلغ من نفسي منزلة الحب أو الإيثار، ولقد أتى عليَّ حينٌ من الدهر لم يكن يخطر ببالي أني سأعُنى بالمتنبي أو أطيل صحبته، أو أدُيم التفكير فيه»، هكذا يفتتح طه حسين حديثه عن المتنبي قبل أن يُعمل مشرَطه النقدي في شخصه ونصه. أعتقد أن المتنبي لو بُعث اليوم في حياتنا لاستأنف على نحو أعنف احتقار واقعنا وناسه، إلا أن الشخصية الوحيدة في زماننا التي لن يتمكن المتنبي من تصويب عينيه إلى عينيها هي شخصية طه حسين، فهذا الأعمى البصر الثقاف البصيرة قد استطاع النفاذ إلى أغوار المتنبي النفسية بشكل مخيف، معتمدا على دراسة طفولته التي حُرم فيها من الأب والنسب الصريح: «كان، في شبابه، لا يطمح إلا إلى الحرية، ولا يطمع إلا في الاستقلال، وهو قد ألقى نفسه في السجن، وعرَّض نفسه للموت في سبيل حريته واستقلاله، ولكنه لم يكد يظفر برعاية أمير من الأمراء أو سيد من السادة، حتى نزل عن نفسه، وضحّى في سبيله بهذه الحرية».

وفي ظل ريبتي من المتنبي «المدَّاح» و«الهجَّاء»، كما انطبعت عنه للوهلة الأولى، وجدتني أتطلع إلى أحمد شوقي بإعجاب صبي يتعثر في لغته البدائية بحثاً عن أبٍ شعري يليق بالمرحلة. أجد اليوم أن شوقي كان النموذج الأكثر عصرية وحداثة لشخصية المتنبي الشعرية بما يليق بفاتحة القرن العشرين والمناخ السياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه مصر والوطن العربي في حقبة الانتداب الإنجليزي. يشبه شوقي أبا الطيب المتنبي من حيث دوره التأسيسي للغة شعرية أعادت اكتشاف اللغة العربية وطوعت تراثها ليكون حرياً بالمستقبل لا بالمعاجم. غير أن شوقي لم يكن شاعراً إشكالياً -في حصة اللغة العربية على الأقل- مثلما كان المتنبي في حياته وكما ظل بعد مماته يطور قصيدته في ذاكرتنا العربية بأساليب مثيرة لتناقضاتنا الشخصية والعامة قبل أن تكون صوتا يعبر عن تناقضاته هو. لكن إشعاع الشوقيات في الشعرية العربية كان أقصر بكثير من إشعاع ديوان المتنبي طبعا.

المتنبي حاضر أيضا في درس التاريخ، ليس التاريخ المدرسي بالطبع، بل التاريخ الإنساني بتراجيدياته الكبرى وسير شخصياته المتداخلة والمتنافرة. فالقارئ المتدبر في سيرته يشعر بأنه يطالع في سيرة رجل دولة لا شاعر، ابتداءً من ظروف نشأته في الكوفة ثم صعوده الخاطف، وانتهاءً باغتياله على يد شخص يدعى فاتك بن أبي جهل الأسدي، الذي لم يكن لاسمه طيف في ذكرى الزمان لولا قتله للمتنبي. وكثيراً ما كان الزعيم العربي جمال عبدالناصر يمثل بالنسبة لي الاستعارة السياسية لشخصية المتنبي، خاصة بكبريائه الجريح. وإذا كان الزعيم الراحل قد جسد في شخصه القومية العربية ببعدها السياسي فإن المتنبي كان وما زال الرمز الثقافي للقومية العربية، فهو كما يقول طه حسين: «ﻛﺎن ﻳﺮى أﻧﻪ ﻋﺮبي، وسار حياته كلها سيرة ملائمة لهذا الرأي، ولعل هذا الرأي كان أبلغ المؤثرات في حياته العملية».

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني