(1)
لا أظنّها المرة الأولى التي يثار فيها الحديث عن الجنسية الأصلية للممثل أو المبدع أو المهندس وغيرها من الحقول. وكثيرة هي النقاشات التي تذهب وتأتي بشأن انتماء الفنان للبلد الذي عاش فيه وترعرع، وأنتج نتاجا يشار إليه، في مقابل تراجع المنتمي الأصلي للبلد عن تقديم أي نجاح، والاكتفاء بالحد الأدنى من الحياة. والناظر إلى الإنسان العربي الموجود رغبة أو قسرًا في المنافي وغيرها يمكنه التدليل في أحسن الأحوال على نماذج كثيرة منها الأدمغة العربية وهجرتها إلى الغرب بأنواعه. فكم دفعت الظروف السياسية أو الحرب أو ظروف المعيشة القاسية في بلد عربي إنسان ذلك المجتمع إلى مغادرة بلده، للبحث عن حياة آدمية كريمة، ويكفي أن تكون جالسا في جلسة عائلية وتذكر بلدا عربيا واحدا عانى من ويلات الاحتلال أو الحروب أو الطائفية أو السجن السياسي، حتى تتتالى في دقائق معدودة عشرات الدول!
والناظر إلى هذه القضايا وما يتعلق بها، يستطيع أن يستدعي معها الكثير من المفارقات، سواء تعلقت بوظيفة الإنسان ونتاجه، أو مقدار ما يحمله في داخله من أحلام أو مخاوف، فالعامل العربي الذي يهاجر إلى بلد أجنبية، لا يحمل معه من المؤهلات العلمية أو الثقافية شيئا كبيرا، لا يظن أنه سيشغل وظيفة مرموقة في البلد الذي هاجر إليه أو سافر أو هرب. وكذلك اللاجئ السياسي المحاصر بعقوبات تاريخية لعائلته ستختلف ظروف إقامته وعمله في البلد الأجنبي كما سيختلف طبيعة إنتاجه الذي يستطيع أن يقدمه في المجتمع الجديد، وهذا أمر بديهي فالمقدّر للعمل الذي يقدر أن يقدمه الشاعر المهاجر أو الممثل أو الخبير في علوم بحتة كالفيزياء والكيمياء، سيختلف بحسب الظروف التي قدموا فيها إلى بلدان غير بلدانهم التي غادروها. ولا يخفى على الكثيرين مشكلات الهجرة، فيكفي أن يضع المرء على محرك البحث جوجل ما يتعلق بالهجرة وتظهر أمامه العديد من العناوين.
(2)
استوقفني على حائط فيسبوك الناقدة والإعلامية ليلى أحمد عدة نقاشات حول مسلسل (من شارع الهرم إلى...) تأليف هبة مشاري حمادة، إخراج المثنى صبح، بطولة الفنانة هدى حسين، ويعرض العمل على قناة إم بي سي، وكان بعض الذي أثير ما يتعلق بالأصل غير الكويتي للفنانة هدى حسين! جاءت تلك النقطة في سؤال وجهه مذيع إحدى القنوات لأحد الممثلين عندما سأله عن أهم خمس ممثلات كويتيات، فلم يذكر الممثل من بينهن الفنانة هدى حسين لأنها غير كويتية، والناقدة ليلى أحمد التي أصيبت بالدهشة من ذلك الجواب مستغربة عنصرية الوسط الفني تجاه الآخر أوضحت أن هدى حسين "ولدت طفلة موهوبة في الإذاعة والتلفزيون والمسرح واستمرت بنجاح وقوة حتى يومنا هذا وصاحبة شهادة جامعية في الأدب الإنجليزي، هي كويتية بالضرورة، انطلقت من هذه الأرض مو مهم الأوراق [...] هدى رافعة اسم الكويت ثقل وسنع وعقل... إلخ"
إن أول تعليق يتبادر إلى الذهن يرد كسؤال: كيف يفكر أمثال هؤلاء الذين ينطلقون من أفكار عنصرية تخص اللون أو الشكل أو الوضع الاجتماعي؟ إنهم بالضرورة ينطلقون من ذلك المكون الذي نشأووا عليه. ومتى سيُقيم الإنسان وفق الحقوق المدنية؟ من بين التعليقات على هذا الطرح ما قالته إحداهن أن: "هوليوود كانت وما تزال قبلة فنانين من أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، يقولون عنهم نجوم هوليوود بكل فخر[...] في الفن لا يوجد جواز سفر ولا لون ولا أصل... إلخ" وكلامها صحيح حول المقارنة، فهوليوود قطعت أشواطا تاريخية كبيرة -سواء اختلفنا معها أو اتفقنا- فقد وضعت المعايير ليس في الفن، بل في صناعة المدنية وتذويب الفروقات العنصرية واللونية، وعندما تجري المقارنة معها، فلا يقتصر هذا التمثيل في مجال الفن، بل في حقول كثيرة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا انطلقنا من مقولة إن المقارنة مع الفرق لا تصح، فهل لدينا نماذج مجتمعية متطورة فنيا يقاس عليها؟ سنقول مصر ولكن لها أيضا نزاعاتها ومشكلاتها، فقديما كان يثار النقاش حول بعض الفنانين العرب الذين قادتهم الظروف السيئة في بلدانهم إلى الاستقرار في مصر، ومشاركتهم في العديد من الأعمال الفنية، فهناك من أزعجه وجودهم!
ثمة جدل وأفكار ستظل دائرة حول قيمة الفنان في المجتمع؟ فهل تؤمن المجتمعات ومؤسسات الدولة بقيمته؟ هل قطعت المجتمعات شوطا مع المدنية؟ الأسئلة والمخاوف حول قيمة الفنان في مجتمعه، وكيف يجري تقييمه بمعايير السياسة وحمولة التاريخ والأيديولوجيا، وكيف يمكن لإنسان وُلد على أرض بلاد خليجية أو عربية أو قَدَم إليها وعاش ونما وأنتج ولا يُمنح جنسيتها؟ تنطبق هذه المخاوف كما أشرتُ على حقول أخرى غير الفنانين، ولكن صورتها الصارخة في هذا المقال تتجسد في نموذج الفنانة هدى حسين. ويبدو أن الفنان مهما قدم من أعمال بلغة بلده التي ترعرع فيها وأحبها ودافع عن ترابها سيظل عبئا أو عالة أو غير مرئي وأن هويته أو منحه الجنسية سيبقى محل خلاف. لا يشير هذا إلى تغلغل العنصرية أو أطيافها وحدها في الذهنية، لكنه يأخذنا بعيدا إلى مفهوم الدولة المدنية الغائب في الأطروحات والأفكار. إن استشراء الجهل والتخلّف في أوساط المجتمعات شيء خطير، وأن الدفع إلى تكريس العلم والتفكير المستنير ما زال أمامه الكثير من العمل الجّاد.
لا أظنّها المرة الأولى التي يثار فيها الحديث عن الجنسية الأصلية للممثل أو المبدع أو المهندس وغيرها من الحقول. وكثيرة هي النقاشات التي تذهب وتأتي بشأن انتماء الفنان للبلد الذي عاش فيه وترعرع، وأنتج نتاجا يشار إليه، في مقابل تراجع المنتمي الأصلي للبلد عن تقديم أي نجاح، والاكتفاء بالحد الأدنى من الحياة. والناظر إلى الإنسان العربي الموجود رغبة أو قسرًا في المنافي وغيرها يمكنه التدليل في أحسن الأحوال على نماذج كثيرة منها الأدمغة العربية وهجرتها إلى الغرب بأنواعه. فكم دفعت الظروف السياسية أو الحرب أو ظروف المعيشة القاسية في بلد عربي إنسان ذلك المجتمع إلى مغادرة بلده، للبحث عن حياة آدمية كريمة، ويكفي أن تكون جالسا في جلسة عائلية وتذكر بلدا عربيا واحدا عانى من ويلات الاحتلال أو الحروب أو الطائفية أو السجن السياسي، حتى تتتالى في دقائق معدودة عشرات الدول!
والناظر إلى هذه القضايا وما يتعلق بها، يستطيع أن يستدعي معها الكثير من المفارقات، سواء تعلقت بوظيفة الإنسان ونتاجه، أو مقدار ما يحمله في داخله من أحلام أو مخاوف، فالعامل العربي الذي يهاجر إلى بلد أجنبية، لا يحمل معه من المؤهلات العلمية أو الثقافية شيئا كبيرا، لا يظن أنه سيشغل وظيفة مرموقة في البلد الذي هاجر إليه أو سافر أو هرب. وكذلك اللاجئ السياسي المحاصر بعقوبات تاريخية لعائلته ستختلف ظروف إقامته وعمله في البلد الأجنبي كما سيختلف طبيعة إنتاجه الذي يستطيع أن يقدمه في المجتمع الجديد، وهذا أمر بديهي فالمقدّر للعمل الذي يقدر أن يقدمه الشاعر المهاجر أو الممثل أو الخبير في علوم بحتة كالفيزياء والكيمياء، سيختلف بحسب الظروف التي قدموا فيها إلى بلدان غير بلدانهم التي غادروها. ولا يخفى على الكثيرين مشكلات الهجرة، فيكفي أن يضع المرء على محرك البحث جوجل ما يتعلق بالهجرة وتظهر أمامه العديد من العناوين.
(2)
استوقفني على حائط فيسبوك الناقدة والإعلامية ليلى أحمد عدة نقاشات حول مسلسل (من شارع الهرم إلى...) تأليف هبة مشاري حمادة، إخراج المثنى صبح، بطولة الفنانة هدى حسين، ويعرض العمل على قناة إم بي سي، وكان بعض الذي أثير ما يتعلق بالأصل غير الكويتي للفنانة هدى حسين! جاءت تلك النقطة في سؤال وجهه مذيع إحدى القنوات لأحد الممثلين عندما سأله عن أهم خمس ممثلات كويتيات، فلم يذكر الممثل من بينهن الفنانة هدى حسين لأنها غير كويتية، والناقدة ليلى أحمد التي أصيبت بالدهشة من ذلك الجواب مستغربة عنصرية الوسط الفني تجاه الآخر أوضحت أن هدى حسين "ولدت طفلة موهوبة في الإذاعة والتلفزيون والمسرح واستمرت بنجاح وقوة حتى يومنا هذا وصاحبة شهادة جامعية في الأدب الإنجليزي، هي كويتية بالضرورة، انطلقت من هذه الأرض مو مهم الأوراق [...] هدى رافعة اسم الكويت ثقل وسنع وعقل... إلخ"
إن أول تعليق يتبادر إلى الذهن يرد كسؤال: كيف يفكر أمثال هؤلاء الذين ينطلقون من أفكار عنصرية تخص اللون أو الشكل أو الوضع الاجتماعي؟ إنهم بالضرورة ينطلقون من ذلك المكون الذي نشأووا عليه. ومتى سيُقيم الإنسان وفق الحقوق المدنية؟ من بين التعليقات على هذا الطرح ما قالته إحداهن أن: "هوليوود كانت وما تزال قبلة فنانين من أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، يقولون عنهم نجوم هوليوود بكل فخر[...] في الفن لا يوجد جواز سفر ولا لون ولا أصل... إلخ" وكلامها صحيح حول المقارنة، فهوليوود قطعت أشواطا تاريخية كبيرة -سواء اختلفنا معها أو اتفقنا- فقد وضعت المعايير ليس في الفن، بل في صناعة المدنية وتذويب الفروقات العنصرية واللونية، وعندما تجري المقارنة معها، فلا يقتصر هذا التمثيل في مجال الفن، بل في حقول كثيرة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا انطلقنا من مقولة إن المقارنة مع الفرق لا تصح، فهل لدينا نماذج مجتمعية متطورة فنيا يقاس عليها؟ سنقول مصر ولكن لها أيضا نزاعاتها ومشكلاتها، فقديما كان يثار النقاش حول بعض الفنانين العرب الذين قادتهم الظروف السيئة في بلدانهم إلى الاستقرار في مصر، ومشاركتهم في العديد من الأعمال الفنية، فهناك من أزعجه وجودهم!
ثمة جدل وأفكار ستظل دائرة حول قيمة الفنان في المجتمع؟ فهل تؤمن المجتمعات ومؤسسات الدولة بقيمته؟ هل قطعت المجتمعات شوطا مع المدنية؟ الأسئلة والمخاوف حول قيمة الفنان في مجتمعه، وكيف يجري تقييمه بمعايير السياسة وحمولة التاريخ والأيديولوجيا، وكيف يمكن لإنسان وُلد على أرض بلاد خليجية أو عربية أو قَدَم إليها وعاش ونما وأنتج ولا يُمنح جنسيتها؟ تنطبق هذه المخاوف كما أشرتُ على حقول أخرى غير الفنانين، ولكن صورتها الصارخة في هذا المقال تتجسد في نموذج الفنانة هدى حسين. ويبدو أن الفنان مهما قدم من أعمال بلغة بلده التي ترعرع فيها وأحبها ودافع عن ترابها سيظل عبئا أو عالة أو غير مرئي وأن هويته أو منحه الجنسية سيبقى محل خلاف. لا يشير هذا إلى تغلغل العنصرية أو أطيافها وحدها في الذهنية، لكنه يأخذنا بعيدا إلى مفهوم الدولة المدنية الغائب في الأطروحات والأفكار. إن استشراء الجهل والتخلّف في أوساط المجتمعات شيء خطير، وأن الدفع إلى تكريس العلم والتفكير المستنير ما زال أمامه الكثير من العمل الجّاد.