بدا شائعًا خلال العقد الأخير ومع تصاعد المخاطر العالمية وتشارك المجتمعات الإنسانية في ذات مستويات التعرض للخطر أن تسمع لسردية جيل ما أو تساؤلاته أو وصمه لذاته بأننا "نحن الجيل الذي عايش “H1N2 أو نحن "الجيل الذي مر بسلام من الأنواء المناخية الفلانية"، أو "الدفعة الدراسية التي تخرجت في زمن كوفيد 19" وسواها من التوسيمات التي يحاول جيل معين سحبها على ذاته قاصدًا إبراز أربع دلالات أساسية: أولها فرضية أسبقية الجيل إلى طبيعة الحدث، وثانيها تعبير ضمني عن المكابدة والمعاناة المفترضة، وثالثها محاولة لتوسيم الجيل بسمة تجعله مميزًا في الخط التاريخي، ورابعها محاولة للوصول إلى موارد الذاكرة المجتمعية. قد تظهر هذه التوسيمات في شكل تعبيرات جادة أو ساخرة، وقد يكون معبر عنها في هيئة مكتوبة نصًا، أو في تعبير مجسد فنيًا، قد تطرح في شكل كاريكاتير أو مقطع فيديو أو "ميمز" تهكمي ساخر. لكن كل تلك المحاولات للتوسيم تقودنا فعلًا إلى سؤال رئيس: كيف ستشكل المخاطر الراهنة ذاكرة الجيل الحالي؟ وحين نتحدث عن المخاطر فيمكن لنا أن نقتصرها على ما حدث في الثلاثة أعوام الماضية بدءا من الوباء وصولًا إلى الحرب الروسية – الأوكرانية وما تخلل هذه الأعوام على الهامش من أحداث سياسية وصحية وعلمية واقتصادية ومناخية وشعبية، وكيف يمكن أن يصوغ كل ذلك نظرة الجيل الراهن إلى نفسه وسياقه التاريخي ونظرته إلى البنى من حوله ومفردات العالم والنظام العالمي والدولة والمجتمع والمؤسسة المجتمعية وسواها؟ ولا يقتصر الأمر بالتأثر المباشر بتلك الأحداث أو التعرض الإعلامي والإخباري لها فحسب، وإنما العيش في فضاء غير متناه من السرديات الاجتماعية والإعلامية حولها.
للكاتبة الأمريكية ليز راجبير تقسيمة ملفتة للأجيال بناء على الأحداث العالمية التي عايشتها، فهي تقول: إن هناك ما يُعرف بالجيل الأعظم المزعوم (الذين ولدوا قبل عام 1928 وعايشو الكساد العظيم)، ثم جاء الجيل الصامت (المولود بين عامي 1929 و 1945 وعايش الحروب والكساد الاقتصادي)، تلاه جيل طفرة المواليد (بين عامي 1946 و 1965 وقد عايش الارتفاع الكبير في عدد السكان بعد الحرب العالمية الثانية). ثم الجيل X (بين عامي 1965 و1980 الذي شهد التأثير البيئي المتزايد للرأسمالية). وختمت تصنيفها بجيل الألفية (الذي ولد بعد 1980، نشأوا مع ريغانوميكس، 11 سبتمبر، والأزمة المالية لعام 2008). ويمكننا استعارة نظرية عالم الاجتماع الشهير هارتموت روزا حول "التسارع الاجتماعي"، والذي يسم فيها الطريقة التي يتحرك فيها الأفراد والمجتمع بشكل سريع جدًا دون إحساس بذلك التسارع، ومع توالي الأحداث وهوس الأفراد بكل شيء سريع يقابل ذلك شعور داخلي لديهم أنهم لازالوا متوطنين في أماكنهم لا ينجزون شيئًا ولا يتغير على أحوالهم شيئًا. تفيدنا هذه النظرية في فهم طبيعة تشكل ذاكرة الجيل الراهن، الجيل الذي رأى تعرجات التغيير السياسي في العالم العربي بعد 2011 وعايش أزمة النفط الممتدة من أواخر 2014 وصارع ولا يزال الجائحة منذ 2019 وصولًا إلى الحرب الراهنة في 2022 سمة هذا الجيل أن كل هذه الأحداث جعلته قسرًا يبطئ من تسارعه، ويعيد التفكير في الماهية التاريخية لذاكرته وتشكله، وفي إعادة النظر بفلسفة الواقع إلى الممارسات التي توارثها، وفي الطريقة الأنسب لعيش نمط حياته. في ورقته بعنوان: "الخاتمة: عوالم الذاكرة في زمن كورونا" يلخص أستريد إرل من جامعة غوته ثلاث متغيرات في ذاكرة الجيل يخلقها كوفيد 19:
1- إيقاعات جديدة: حيث اهتز بحسب رؤيته شعورنا وتقسيمنا للوقت لدرجة التلاشي، أتاح العمل من المنزل فكرة العمل غير المحدود بزمن، وتداخل المهام بين العمل والتعليم من المنزل ورعاية الأطفال ولا وقت محدد للأكل والنوم والاستحمام، فهو يقول إن الوقت قد اهتز كما عرفناه وعفا الزمن على الفواصل الزمنية الواضحة، وكأن الجميع باقٍ في مكانه والمتحرك الوحيد هو الشمس.
2- تحفيز الذاكرة المسيئة: حيث عمل الوباء كإشارات لاسترجاع الذاكرة الجماعية بدءا من المقارنات التاريخية المرسومة وصولًا إلى الصور النمطية الناشئة غير الواعية.
3- التسابق نحو السرد: وهنا يشير إلى محاولة وصف الفيروس في منشأه ببلد بعينه وهي عملة استخدمها السياسيون للتسابق نحو السرد حيث لا يمكن الاستهانة حسب قوله بقوة السرد في بناء عوالم الذاكرة وبالتالي تحديد ذاكرة الجيل أجمع.
وفي المحصلة فإن الجيل الراهن في تقديرنا سيكون معجونًا بهذا "التسارع الاجتماعي" للأحداث وهو يشعر معها أنه باقٍ في حيزه، سيتمكن الجيل حتمًا من الاستثمار في سؤال الافتراضي مقابل قيود الواقعي، وسيغير مفهومه للتعليم المؤسسي المحصور بوقت ومؤسسة وقيود محددة، سيتكشف على أنماط جديدة للتعبير عن انتمائه المجتمعي والشروع في شبكة علاقاته الاجتماعية وتأدية الواجب الاجتماعي، وقد تتغير مفاهيمه للرغبات الشائعة والمعولمة بما فيها تجارب السفر الجديدة والمقتنيات وتجارب الطعام وسواها، وسيغير من خارطة الأشخاص الذين يقدرهم والمصادر العالمة التي يستمع لها ويثق بها، لكن على الجانب الآخر فإن ثلاثية "عدم اليقين – الغموض – البقاء على قيد الخوف" ستظل محددة للكثير من سلوكيات الجيل، وقد تنسحب بطريقة أو بأخرى على ما ينقله للجيل الآخر، على ما يورثه من أفكار وأنماط تربوية، وعلى ما ينسجه من معتقدات علمية وممارسات في تشكيل حياة الجيل اللاحق الاجتماعية. ميزة أخيرة يمكننا أن نلحظها على ذاكرة هذا الجيل، وهي أنه فاقد لخيار "الانسحاب"، أو "التواري"، لا يمكن اليوم القول بأن لدي خيار في الانفصال عن متابعة الخبر السياسي والعلمي والصحي والاقتصادي، لأنني سأجد شاخصًا غدًا أمامي كحادثة/ كواقعة/ كإجراء/ كسلوك، وهذه هي ميزة التشكل العالمي الجديد للمجتمعات الإنسانية.
للكاتبة الأمريكية ليز راجبير تقسيمة ملفتة للأجيال بناء على الأحداث العالمية التي عايشتها، فهي تقول: إن هناك ما يُعرف بالجيل الأعظم المزعوم (الذين ولدوا قبل عام 1928 وعايشو الكساد العظيم)، ثم جاء الجيل الصامت (المولود بين عامي 1929 و 1945 وعايش الحروب والكساد الاقتصادي)، تلاه جيل طفرة المواليد (بين عامي 1946 و 1965 وقد عايش الارتفاع الكبير في عدد السكان بعد الحرب العالمية الثانية). ثم الجيل X (بين عامي 1965 و1980 الذي شهد التأثير البيئي المتزايد للرأسمالية). وختمت تصنيفها بجيل الألفية (الذي ولد بعد 1980، نشأوا مع ريغانوميكس، 11 سبتمبر، والأزمة المالية لعام 2008). ويمكننا استعارة نظرية عالم الاجتماع الشهير هارتموت روزا حول "التسارع الاجتماعي"، والذي يسم فيها الطريقة التي يتحرك فيها الأفراد والمجتمع بشكل سريع جدًا دون إحساس بذلك التسارع، ومع توالي الأحداث وهوس الأفراد بكل شيء سريع يقابل ذلك شعور داخلي لديهم أنهم لازالوا متوطنين في أماكنهم لا ينجزون شيئًا ولا يتغير على أحوالهم شيئًا. تفيدنا هذه النظرية في فهم طبيعة تشكل ذاكرة الجيل الراهن، الجيل الذي رأى تعرجات التغيير السياسي في العالم العربي بعد 2011 وعايش أزمة النفط الممتدة من أواخر 2014 وصارع ولا يزال الجائحة منذ 2019 وصولًا إلى الحرب الراهنة في 2022 سمة هذا الجيل أن كل هذه الأحداث جعلته قسرًا يبطئ من تسارعه، ويعيد التفكير في الماهية التاريخية لذاكرته وتشكله، وفي إعادة النظر بفلسفة الواقع إلى الممارسات التي توارثها، وفي الطريقة الأنسب لعيش نمط حياته. في ورقته بعنوان: "الخاتمة: عوالم الذاكرة في زمن كورونا" يلخص أستريد إرل من جامعة غوته ثلاث متغيرات في ذاكرة الجيل يخلقها كوفيد 19:
1- إيقاعات جديدة: حيث اهتز بحسب رؤيته شعورنا وتقسيمنا للوقت لدرجة التلاشي، أتاح العمل من المنزل فكرة العمل غير المحدود بزمن، وتداخل المهام بين العمل والتعليم من المنزل ورعاية الأطفال ولا وقت محدد للأكل والنوم والاستحمام، فهو يقول إن الوقت قد اهتز كما عرفناه وعفا الزمن على الفواصل الزمنية الواضحة، وكأن الجميع باقٍ في مكانه والمتحرك الوحيد هو الشمس.
2- تحفيز الذاكرة المسيئة: حيث عمل الوباء كإشارات لاسترجاع الذاكرة الجماعية بدءا من المقارنات التاريخية المرسومة وصولًا إلى الصور النمطية الناشئة غير الواعية.
3- التسابق نحو السرد: وهنا يشير إلى محاولة وصف الفيروس في منشأه ببلد بعينه وهي عملة استخدمها السياسيون للتسابق نحو السرد حيث لا يمكن الاستهانة حسب قوله بقوة السرد في بناء عوالم الذاكرة وبالتالي تحديد ذاكرة الجيل أجمع.
وفي المحصلة فإن الجيل الراهن في تقديرنا سيكون معجونًا بهذا "التسارع الاجتماعي" للأحداث وهو يشعر معها أنه باقٍ في حيزه، سيتمكن الجيل حتمًا من الاستثمار في سؤال الافتراضي مقابل قيود الواقعي، وسيغير مفهومه للتعليم المؤسسي المحصور بوقت ومؤسسة وقيود محددة، سيتكشف على أنماط جديدة للتعبير عن انتمائه المجتمعي والشروع في شبكة علاقاته الاجتماعية وتأدية الواجب الاجتماعي، وقد تتغير مفاهيمه للرغبات الشائعة والمعولمة بما فيها تجارب السفر الجديدة والمقتنيات وتجارب الطعام وسواها، وسيغير من خارطة الأشخاص الذين يقدرهم والمصادر العالمة التي يستمع لها ويثق بها، لكن على الجانب الآخر فإن ثلاثية "عدم اليقين – الغموض – البقاء على قيد الخوف" ستظل محددة للكثير من سلوكيات الجيل، وقد تنسحب بطريقة أو بأخرى على ما ينقله للجيل الآخر، على ما يورثه من أفكار وأنماط تربوية، وعلى ما ينسجه من معتقدات علمية وممارسات في تشكيل حياة الجيل اللاحق الاجتماعية. ميزة أخيرة يمكننا أن نلحظها على ذاكرة هذا الجيل، وهي أنه فاقد لخيار "الانسحاب"، أو "التواري"، لا يمكن اليوم القول بأن لدي خيار في الانفصال عن متابعة الخبر السياسي والعلمي والصحي والاقتصادي، لأنني سأجد شاخصًا غدًا أمامي كحادثة/ كواقعة/ كإجراء/ كسلوك، وهذه هي ميزة التشكل العالمي الجديد للمجتمعات الإنسانية.