يتعمق فيَّ شعور كل يوم بأن اللغة هي مدخل كل شيء في الحياة، من أعمق شيء في الحياة كـ «الدين» إلى أبسط معاملاتنا اليومية. فنحن نحكم على شخص ما إن كان ودودا أو عدوانيا تجاهنا من خلال لغته التي يستعملها والصوت أو النبرة المصاحبة لتلك اللغة الموجهة إلينا، وبناء عليه يكون رد فعلنا اللغوي أو الجسدي.

أما إذا جئنا للدين، فالنصوص المقدسة ذات لغة عالية لا يمكن أن تُقرأ حسب ظاهرها إن كلمةً أو معنى. أي أنه يجب أن نفهم معاني تلك الكلمة في حقبتها التي وردت فيها وفي السياق الذي وردت فيه لنفهم المعنى الذي تحيل إليه تلك اللغة. ومن يقرأ كتب اللغة، يستشعر ضآلته أمام جبلها العالي وبحرها اللانهائي. فنجد أن للغة وجوها كثيرة يقصر العلماء عن الإحاطة بها؛ فضلا عمن يتحسس الطريق وبدأ المسير لتوه. ففي العربية على سبيل المثال، تتعدد وجوه اللغة لتصل إلى سبعة وعشرين وجهًا كما ذكرها العوتبي في الإبانة في المجلد الأول من الكتاب الصادر عن «وزارة التراث والثقافة» سابقًا. ويقف المرء مشدوها فاغرا فاه أمام ما ظنه طوال حياته شيئا بدهيا لا يتطلب تفسيرا ولا تمحيص نظر؛ غير أنه ما إن يبدأ القراءة شيئا فشيئا حتى تتعمق فيه بذرة التساؤل والبحث عن المعنى في كل كلمة وإن بدت سهلة واضحة لا يُحتاج في معرفتها إلى دليل أو قاموس. وقد ضمّن العوتبي في كتابه آنف الذكر -يقع الكتاب في أربعة مجلدات- شواهد شعرية وآيات قرآنية بجانب كل وجه من الوجوه التي ذكرها، ويتكرر هذا الأمر ليسري على الكتاب بمجلداته كلها. ومن الأمثلة على ذلك من وجه الضمير والإضمار «(واختار موسى قومه سبعين رجلا) يعني: من قومه». «(واسأل القرية التي كنا فيها) ، مجازه: سل أهل القرية ومن في العِير». «(وما منا إلا له مقام معلوم) أي: إلا من له مقام معلوم». ومن وجه الحذف قال: «(منهم من كلم الله) يريد: كلَّمهُ اللهُ». ومما أورده في وجه الاختصار «(فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) المعنى: فضرب فانفجرت». وهذا غيض من فيض، ولولا الإطالة لأخذت من كل وجه من وجوه اللغة بطرف. وإن كنت قد أوردت هذه الأمثلة لأشير إلى أن هذا النزر من اللغة ذو مغازٍ يتبدى ظاهرها جليَّ المعنى مباشِرَهُ، ويختبئ خلفها المعنى الحقيقي حذفا وإضمارا؛ فأين نحن من لغة القرآن ككل؟، أو من لغة فحول الشعراء وأرباب البيان ومآربهم التي كانت سليقية محضة.

والفكرة الإجمالية التي خلُصت إليها؛ أن اللغة محيط لا يَبلغُ أحد شطريه. ورغم ذلك، فإنني أدعو كل أحد أخلص في بحثه وتقصيه أن يجدَّ في معرفة مآرب اللغة عموما، ومآرب اللغة في سياقاتها المتعددة في كل فن من فنون المعرفة خصوصا.

يتنبه القارئ لكتب التراث -بجميع علومه- إلى حقيقة أن الأولين يجمعون في كتبهم علوما متعددة، حتى الكتب التي تبدو وكأنها تختص بعلم ما فحسب. فمن يقرأ كتب الأدب على سبيل المثال لا الحصر، يجد فيها هوامش بل فصولا -في أحايين كثيرة- تندرج تحت علوم أخرى قائمة بذاتها، كالمنطق والفلسفة والرياضات والتاريخ والسير. وقد تكرر هذا الأمر إلى فترة قريبة جدا، ففي قُطرنا العماني؛ نجد في كتب الفقه -على سبيل المثال- مادة دسمة تشكل كتابا مستقلا في اللغة أو البلاغة أو بعض القضايا التاريخية والمعاملات الاجتماعية التي حدثت في حقبة ما. ومن هذا المنطلق، أرى بأننا اليوم في حاجة لباحثين جادين يشرّحون كتب التراث ليستخلصوا منها العلوم الفرعية التي وردت في تلك الكتب. كما أنني أرى بأن للعلوم الحديثة كعلم النفس نصيبا من كتب التراث، ولم نهمل هذه العلوم إلا لأننا نقرأها بمنظورنا الحالي بعيدا عن سياقها التاريخي والحقبة المكتوبة فيها. فنجد فيلسوفا كابن مسكويه -يذهب بعضهم إلى أن اسمه مسكويه- في كتابه البديع «تهذيب الأخلاق» يشرّح علل النفس وعلاج تلك العلل وأضدادها، ثم يأتي باحث ما ليقصر فائدة هذا الكتاب في فلسفة الأخلاق فحسب!؛ غاضا الطرف عن شمولية الكتاب وأصالته. ثم إن من يقرأ رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، يجد أصالة وإبداعًا يقف القارئ أمامها حائرا من طلائعية الفكرة والمحتوى، فهو وإن كان يشبه فن الرواية اليوم؛ إلا أنه يتضمن آراء نقدية للمعري وأفكارًا سبقت أوانها. وهذا يحيلنا بدوره إلى أمر بالغ الأهمية، وهو قوة التراث العربي وحداثته التي سبقت حداثة الثقافة الغربية، ومن استفاد من الآخر. ولست من الحماقة بأن أنفي دور الحداثة في تطوير وتحسين الثقافة العالمية، ولكنني أرى أن العودة إلى كتب التراث لا تقل أهمية عن الاستفادة من معين العلوم الحديثة ذات النشأة الغربية؛ فالعلم هو العلم، وهو يتزيا بزي من يحترمه ويجله في كل زمان ومكان.

عود على بدء؛ أرى أن على الباحثين اليوم، أن يعيدوا كتابة التراث بلغة اليوم، دون المساس بجوهر المكتوب. أي أن يكون دورهم أشبه بدور المترجم، لا أن يغيروا في جوهر الكتاب شيئا، وهو عمل مضنٍ ولكنه عذبٌ خالد. وإن تم هذا الأمر، فلست أشك في أننا سنجني من كتب الأقدمين معرفة لا تقل قوة وقيمة عن معرفة اليوم.

قراءة الأمس بعين اليوم مما يضر بالأمس واليوم على السواء، فكلمة مثل «ملحد» كانت تشير قديما إلى المائل عن الشيء، ألحد عن الطريق أي مال عنه وانحرف. ولكن تطور المصطلح؛ جعلنا لا نعرف للكلمة سوى معنى واحد، وهو الإنكار والجحود. وهذه كلمة واحدة فحسب، فكيف بقاموس هائل يتضمن ملايين الكلمات التي لا حصر لها، ووجوها لا سبيل للإحاطة بها لكثرتها وتعددها. من يريد أن يفهم القرآن ومقاصد الدين فعليه باللغة، فهي مفتاح الكتاب. ومن أراد أن يفهم معرفة العرب فعليه باللغة أيضا.

ومن تقاعس عن نيل المطلوب، ونكص عن تحقيق المرغوب، فلا يبتئس من أن يجد في مرحلة متأخرة من حياته أنه كان يلج تلك المعرفة من غير أبوابها المشرعة أمامه، فتَسوَّرها إلى وعورة الوهم ومَيلٍ عن الطريق.