قبل خمسين عاما أو يزيد في مدينة فالون بالسويد قَبَّل عامل منجم شاب عروسه الشابة الجميلة وقال لها: «سيبارك الكاهن حبنا في عيد سانت لوسيا، فنصبح زوجا وزوجة، ونبني لنا عشا صغيرا». فابتسمت العروس الجميلة في عذوبة وأكملت: «يسكنه الحب والوئام. فأنت حبي الأوحد والوحيد. والموت عندي أفضل من الحياة بدونك». ولكن حين نادى الكاهن قبل عيد سانت لوسيا للمرة الثانية قائلا: «من يعرف مانعا يحول دون زواج هذين الشخصين، فليتكلم!»، قال الموت كلمته. ذلك أن الشاب عندما مر ببيت عروسه في الصباح التالي وهو يرتدي زي عمال المناجم الأسود، كان يرتدي في الحقيقة كفنه. فقد طرق نافذة عروسه وقال لها: «صباح الخير»، ولكنه لم يقل لها بعد ذلك «مساء الخير» أبدا. فهو لم يعد من المنجم قط. وبلا جدوى حاكت العروس لعريسها في الصباح نفسه كوفية سوداء بحرف أحمر ليرتديها في يوم الزفاف، وعندما لم يعد قط، نحّت الكوفية جانبا، وبكت عليه ولم تنسه أبدا.
في غضون ذلك ضرب زلزال مدينة لشبونة البرتغالية فدمرها، وانتهت حرب السنوات السبع. ومات الإمبراطور فرانز الأول. وحُظرت جماعة اليسوعيين، وقُسمت بولندا، وماتت الإمبراطورة ماريا تيرزيا وأُعدم الطبيب الوزير شترونزيه في الدنمارك، وتحررت أمريكا، ولم تتمكن القوة الإسبانية الفرنسية الموحدة من الاستيلاء على جبل طارق، وحاصر الأتراك الجنرال شتاين في كهف بالمجر، ومات الإمبراطور جوزيف. واستولى جوستاف ملك السويد على فنلندا الروسية، واندلعت الثروة الفرنسية، وبدأت الحرب الكبرى. ووُري الإمبراطور ليبولد الثاني الثرى هو الآخر، واستولى نابليون على پروسيا، وضربت المدفعية الإنجليزية كوبنهاجن، بينما الفلاحون يزرعون ويقلعون، وعمال المطاحن يطحنون، والحدادون بمطارقهم يدقون، وعمال المناجم تحت الأرض عن عروق المعادن ينقبون.
وفي عام 1809 قبل أو بعد ذكرى مولد يوحنا المعمدان بقليل، إذ كان عمال المنجم في فالون يهمّون بحفر فتحة بين منجمين على عمق نحو ثلاثمائة ذراع تحت الأرض، انتشلوا من بين الركام والمياه الكبريتية جثة شاب مطمورة تماما بكبريتات الحديد، إلا أنها لم تتعفن أو تتغير بحيث أمكن التعرف على ملامح وجهه وتحديد عمره بسهولة، وكأنه لم يمت إلا منذ ساعة أو غفا أثناء العمل. ولكن عندما أخرجوه إلى سطح الأرض، كان الموت قد أدرك أباه وأمه وأصدقاءه ومعارفه منذ زمن بعيد، فلم يتعرف عليه أو يعرف بنكبته مخلوق، حتى جاءت خطيبة عامل المنجم الذي ذهب لورديته يوما ولم يعد أبدا. أتت وقد بلغت من العمر أرذله متكئة على عكاز، فتعرفت على عريسها، وتهاوت بجانبه وقد طغت فرحتها على آلامها، ثم قالت بعد أن هدأت نفسها من رجفة انفعال شديدة هزت كيانها: «هذا خطيبي الذي حزنت عليه طيلة خمسين عاما. وها ربي يمن عليّ بلقياه قبل موتي. كان قد نزل تحت الأرض قبل زفافنا بثمانية أيام ولم يصعد مرة أخرى أبدا». غمر الحزن قلوب الحاضرين وترقرق الدمع في أعينهم وهم يشاهدون العروس في خريف عمرها بينما العريس في ريعان شبابه، وجذوة حب الشباب تشتعل في قلب العروس مرة أخرى بعد خمسين عاما بينما عريسها لم يحرك ساكنا، فلا ارتسمت على شفتيه ابتسامة ولا فتح عينيه ليراها. وبصفتها قريبته الوحيدة وصاحبة حق فيه طلبت من عمال المنجم أن ينقلوه إلى بيتها حتى يتم إعداد قبره في جبانة الكنيسة. وحين عاد عمال المنجم بعد أن تم إعداد قبره ليحملوه إليه، فتحت صندوقا صغيرا وأخرجت منه الكوفية الحريرية السوداء ذات الحرف الأحمر ولفتها حول رقبته، ثم صحبته في ثوب يوم الأحد وكأنه يوم زفافهما وليس يوم جنازته. وخاطبته بعد أن دفنوه في جبانة الكنيسة قائلة: «فلتنم قرير العين في سرير الزفاف البارد يوما أو بضعة أيام. لن أتأخر عليك، لم يبقَ لي إلا القليل، وسآتي إليك قريبا. وقريبا ستشرق الشمس من جديد». ومضت ثم التفت خلفها مرة أخيرة وقالت: «ما جادت به الأرض مرةً، لن تبخل به في المرة الثانية».
2- كَانِيتْفِرِسْطَان
تمنح الحياة الإنسان - سواء أكان في قرية صغيرة مثل دُوتْلِينْجِن أو في مدينة كبيرة مثل أمستردام- الفرصة يوميا للتأمل في الدنيا ومتاعها الزائل، إن أراد. وكذلك فإنها تمنحه الفرصة ليقنع بقدره، ولو لم يولد وفي فمه ملعقة ذهبية. إلا أن عاملا ألمانيا متجولا أدرك في أمستردام عبر الخطأ وبطريق ملتف غريب الحقيقة كاملة إدراكا تاما. ذلك أنه عندما وصل إلى المدينة التجارية الغنية الكبيرة ببيوتها الفخمة وسفنها الضخمة وناسها في سعيهم المحموم، استرعى انتباهه بيت جميل كبير لم يرَ مثيلا له طوال ترحاله الذي بدأه من قريته دُوتْلِينْجِن وانتهى به في أمستردام. أجال بصره في إعجاب في البيت البهي والمداخن الست فوق السقف والأفاريز الجميلة والنوافذ الضخمة التي تفوق في علوها باب أبيه في قريته بألمانيا. ولم يتمكن في النهاية من أن يمنع نفسه من سؤال أحد المارة قائلا: «قل لي يا صاحِ: لمن هذا البيت الرائع بنوافذه المزدانة بزهور التيوليب والنجم والمتيولا؟» ولكن الرجل - الذي كان مشغولا على الأرجح بأمر مهم، ولسوء الحظ لم تتجاوز معرفته باللغة الألمانية معرفة السائل باللغة الهولندية، أي أنه لا يفقه منها حرفا واحدا- رد باقتضاب وفظاظة: «كَانِيتْفِرِسْطَان!»، ومضى. لم تكن هذه إلا كلمة هولندية، أو ثلاث إن شئنا الدقة، وتعني بالألمانية: «لا أفهمك». إلا أن صاحبنا الطيب ظن أنها اسم الرجل الذي سأل عنه وقال في نفسه: «لا بد أن كَانِيتْفِرِسْطَان رجل بالغ الثراء.». ومضى في طريقه متنقلا من زقاق إلى زقاق حتى انتهى به المطاف إلى الخليج الذي يطلقون عليه بالهولندية هيت إي، أي حرف الـ Y. فراعه منظر السفن المصطفة بصواريها المتجاورة، ولم يدر في البداية كيف يتسنى له بعينين اثنتين فقط أن يوفي كل هذه العجائب حقها من النظر والمشاهدة، حتى جذبت انتباهه سفينة كبيرة - قدمت منذ قليل من شرق الهند - يجري تفريغ حمولتها. كانت الأرض قد امتلأت بالصناديق والبالات المرصوصة بجانب وفوق بعضها البعض. ورغم ذلك كان يجري استخراج المزيد من البضائع من بطن السفينة: براميل ممتلئة بالسكر والبن والأرز والفلفل، وتحت هذه البراميل توجد - مع الاعتذار للقارئ الكريم- فضلات فئران. بعد أن تأمل صاحبنا المنظر طويلا، سأل عاملا، كان يأخذ لتوه صندوقا تحت إبطه، عن اسم المحظوظ الذي يجلب له البحر كل هذه البضائع. فرد العامل: «كَانِيتْفِرِسْطَان!». هنا حدّث صاحبنا الطيب نفسه قائلا: «ها قد اتضح كل شيء. لا عجب أن يقدر مَنْ يقذف له البحر بكل هذه الخيرات على بناء مثل هذه البيوت ووضع زهور التيوليب في أصص مذهبة أمام نوافذها. ثم عاد أدراجه، وتأمل حاله في حزن شديد قائلا: «يا لي من رجل فقير في هذا العالم الذي يعج بالأثرياء». وبينما كان يقول في نفسه: «يا ليت لي مثل ما أوتي كَانِيتْفِرِسْطَان!». مر بناصية، فأبصر جنازة كبيرة: أربع خيول موشحة بالسواد تجر عربة نعش، مكسوة هي الأخرى باللون الأسود، ببطء وحزن، وكأنها تعرف أنها تحمل ميتا إلى مثواه الأخير. ويسير خلف العربة في صمت موكب طويل من أصدقاء ومعارف المتوفى، مثنى مثنى، متدثرين بمعاطف سوداء. وفي الأفق البعيد دق صوت جرس وحيد. فتملك صاحبنا الغريب شعور شجي، لا بدّ وأن يعتري كل ذي قلب طيب يرى ميتا، ووقف ممسكا قبعته في يديه في خشوع حتى مر الموكب. ثم اتجه صوب آخر رجل في الموكب، كان يحسب في صمت الربح الذي سيعود عليه في تجارته إذا ارتفع سعر قنطار القطن بمقدار عشرة جلدر، وجذبه جذبة خفيفة من معطفه واستماح منه عذرا في سذاجة قائلا: «لا بد أنه كان صديقا عزيزا عليكم ذلك الذي دق له الجرس، فأنتم تمشون في جنازته مغمومين مهمومين.». فرد الرجل: «كَانِيتْفِرِسْطَان!». هنا انهمرت الدموع من عيني صاحبنا، وانقبض صدره، ولكن سرعان ما عاد للانشراح وصاح قائلا: «يا لك من مسكين يا كَانِيتْفِرِسْطَان! ماذا أخذت من كل ثروتك الطائلة؟ لم تأخذ أكثر مما سآخذ أنا العامل الفقير معي يوما ما: كفنا وربما من كل زهورك الجميلة هذه نبتة من حصا البان على الصدر البارد أو نبتة سَذاب.». سار صاحبنا، وهذه الأفكار تدور في رأسه، في الجنازة وكأنه أحد خلصاء المتوفى حتى وصل إلى القبر. ورأى من يظن أنه كَانِيتْفِرِسْطَان وهو يُوارى الثرى. وأثرت فيه كلمات الواعظ الهولندي الذي لم يفهم منه حرفا واحدا أكثر مما أثر فيه بعض الوعاظ الألمان الذين لم يعرهم اهتماما. وفي نهاية المطاف مضى مع من مضى رخي البال. وأكل بشهية مفتوحة قطعة من جبن الليمبورج في نُزُل يتحدثون فيه باللغة الألمانية. وكان كلما يحز في نفسه أنه يوجد في هذا العالم أناس أثرياء جدا بينما هو فقير جدا، كان يُذكّر نفسه بكَانِيتْفِرِسْطَان في أمستردام، ويَذْكُر بيته الكبير وسفينته العامرة ولحده الضيق.
• يوهان پيتر هيبل (1760 - 1826)، كاتب ورجل دين إنجيلي ومدرس. تشمل أعماله شذرات شعرية وقصائد باللهجة الأليمانيّة (لهجة محلية في جنوب غرب ألمانيا) ومجموعة كبيرة من قصص الرزنامة، وتعد الأخيرة السبب الأهم لشهرته ككاتب. وامتاز هيبل بين أدباء عصره بأنه كان قادرا على ربط ما هو شعبي وبسيط بالأفكار الفلسفية العميقة، مما أكسبه محبة وتقدير مُجايليه من كُتّاب القرن التاسع عشر أمثال يوهان فولفجانج فون جوته، والأخوان جريم، وجوتفريد كيلر، ثم كُتّاب ونُقّاد القرن العشرين مثل هرمان هسه ومارسيل رايش رانتسيكي. اختار هيبل مجموعة من أمتع القصص التي ألفها للروزنامات الشعبية في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وجمعها في كتاب يحمل عنوان «تحفة الأسرة السعيدة في الأخبار والقصص الفريدة» (Schatzkästlein des rheinischen Hausfreundes)، نُشر في عام 1811، ومنه اخترنا قصتين نقدّمهما للقارئ العربي على سبيل التعريف برائد القصة القصيرة في الأدب الألماني. وصف الفيلسوف إرنست بلوخ «وبعدما ظَنَّا ألا تَلاقِيَا!» بأنها أجمل قصة في العالم، ولا نبالغ إن قلنا إنَّ « كَانِيتْفِرِسْطَان» أشهر قصة قصيرة في تاريخ الأدب الألماني.
محمود حسنين مترجم ومدرس بجامعة ماينتس، ألمانيا
في غضون ذلك ضرب زلزال مدينة لشبونة البرتغالية فدمرها، وانتهت حرب السنوات السبع. ومات الإمبراطور فرانز الأول. وحُظرت جماعة اليسوعيين، وقُسمت بولندا، وماتت الإمبراطورة ماريا تيرزيا وأُعدم الطبيب الوزير شترونزيه في الدنمارك، وتحررت أمريكا، ولم تتمكن القوة الإسبانية الفرنسية الموحدة من الاستيلاء على جبل طارق، وحاصر الأتراك الجنرال شتاين في كهف بالمجر، ومات الإمبراطور جوزيف. واستولى جوستاف ملك السويد على فنلندا الروسية، واندلعت الثروة الفرنسية، وبدأت الحرب الكبرى. ووُري الإمبراطور ليبولد الثاني الثرى هو الآخر، واستولى نابليون على پروسيا، وضربت المدفعية الإنجليزية كوبنهاجن، بينما الفلاحون يزرعون ويقلعون، وعمال المطاحن يطحنون، والحدادون بمطارقهم يدقون، وعمال المناجم تحت الأرض عن عروق المعادن ينقبون.
وفي عام 1809 قبل أو بعد ذكرى مولد يوحنا المعمدان بقليل، إذ كان عمال المنجم في فالون يهمّون بحفر فتحة بين منجمين على عمق نحو ثلاثمائة ذراع تحت الأرض، انتشلوا من بين الركام والمياه الكبريتية جثة شاب مطمورة تماما بكبريتات الحديد، إلا أنها لم تتعفن أو تتغير بحيث أمكن التعرف على ملامح وجهه وتحديد عمره بسهولة، وكأنه لم يمت إلا منذ ساعة أو غفا أثناء العمل. ولكن عندما أخرجوه إلى سطح الأرض، كان الموت قد أدرك أباه وأمه وأصدقاءه ومعارفه منذ زمن بعيد، فلم يتعرف عليه أو يعرف بنكبته مخلوق، حتى جاءت خطيبة عامل المنجم الذي ذهب لورديته يوما ولم يعد أبدا. أتت وقد بلغت من العمر أرذله متكئة على عكاز، فتعرفت على عريسها، وتهاوت بجانبه وقد طغت فرحتها على آلامها، ثم قالت بعد أن هدأت نفسها من رجفة انفعال شديدة هزت كيانها: «هذا خطيبي الذي حزنت عليه طيلة خمسين عاما. وها ربي يمن عليّ بلقياه قبل موتي. كان قد نزل تحت الأرض قبل زفافنا بثمانية أيام ولم يصعد مرة أخرى أبدا». غمر الحزن قلوب الحاضرين وترقرق الدمع في أعينهم وهم يشاهدون العروس في خريف عمرها بينما العريس في ريعان شبابه، وجذوة حب الشباب تشتعل في قلب العروس مرة أخرى بعد خمسين عاما بينما عريسها لم يحرك ساكنا، فلا ارتسمت على شفتيه ابتسامة ولا فتح عينيه ليراها. وبصفتها قريبته الوحيدة وصاحبة حق فيه طلبت من عمال المنجم أن ينقلوه إلى بيتها حتى يتم إعداد قبره في جبانة الكنيسة. وحين عاد عمال المنجم بعد أن تم إعداد قبره ليحملوه إليه، فتحت صندوقا صغيرا وأخرجت منه الكوفية الحريرية السوداء ذات الحرف الأحمر ولفتها حول رقبته، ثم صحبته في ثوب يوم الأحد وكأنه يوم زفافهما وليس يوم جنازته. وخاطبته بعد أن دفنوه في جبانة الكنيسة قائلة: «فلتنم قرير العين في سرير الزفاف البارد يوما أو بضعة أيام. لن أتأخر عليك، لم يبقَ لي إلا القليل، وسآتي إليك قريبا. وقريبا ستشرق الشمس من جديد». ومضت ثم التفت خلفها مرة أخيرة وقالت: «ما جادت به الأرض مرةً، لن تبخل به في المرة الثانية».
2- كَانِيتْفِرِسْطَان
تمنح الحياة الإنسان - سواء أكان في قرية صغيرة مثل دُوتْلِينْجِن أو في مدينة كبيرة مثل أمستردام- الفرصة يوميا للتأمل في الدنيا ومتاعها الزائل، إن أراد. وكذلك فإنها تمنحه الفرصة ليقنع بقدره، ولو لم يولد وفي فمه ملعقة ذهبية. إلا أن عاملا ألمانيا متجولا أدرك في أمستردام عبر الخطأ وبطريق ملتف غريب الحقيقة كاملة إدراكا تاما. ذلك أنه عندما وصل إلى المدينة التجارية الغنية الكبيرة ببيوتها الفخمة وسفنها الضخمة وناسها في سعيهم المحموم، استرعى انتباهه بيت جميل كبير لم يرَ مثيلا له طوال ترحاله الذي بدأه من قريته دُوتْلِينْجِن وانتهى به في أمستردام. أجال بصره في إعجاب في البيت البهي والمداخن الست فوق السقف والأفاريز الجميلة والنوافذ الضخمة التي تفوق في علوها باب أبيه في قريته بألمانيا. ولم يتمكن في النهاية من أن يمنع نفسه من سؤال أحد المارة قائلا: «قل لي يا صاحِ: لمن هذا البيت الرائع بنوافذه المزدانة بزهور التيوليب والنجم والمتيولا؟» ولكن الرجل - الذي كان مشغولا على الأرجح بأمر مهم، ولسوء الحظ لم تتجاوز معرفته باللغة الألمانية معرفة السائل باللغة الهولندية، أي أنه لا يفقه منها حرفا واحدا- رد باقتضاب وفظاظة: «كَانِيتْفِرِسْطَان!»، ومضى. لم تكن هذه إلا كلمة هولندية، أو ثلاث إن شئنا الدقة، وتعني بالألمانية: «لا أفهمك». إلا أن صاحبنا الطيب ظن أنها اسم الرجل الذي سأل عنه وقال في نفسه: «لا بد أن كَانِيتْفِرِسْطَان رجل بالغ الثراء.». ومضى في طريقه متنقلا من زقاق إلى زقاق حتى انتهى به المطاف إلى الخليج الذي يطلقون عليه بالهولندية هيت إي، أي حرف الـ Y. فراعه منظر السفن المصطفة بصواريها المتجاورة، ولم يدر في البداية كيف يتسنى له بعينين اثنتين فقط أن يوفي كل هذه العجائب حقها من النظر والمشاهدة، حتى جذبت انتباهه سفينة كبيرة - قدمت منذ قليل من شرق الهند - يجري تفريغ حمولتها. كانت الأرض قد امتلأت بالصناديق والبالات المرصوصة بجانب وفوق بعضها البعض. ورغم ذلك كان يجري استخراج المزيد من البضائع من بطن السفينة: براميل ممتلئة بالسكر والبن والأرز والفلفل، وتحت هذه البراميل توجد - مع الاعتذار للقارئ الكريم- فضلات فئران. بعد أن تأمل صاحبنا المنظر طويلا، سأل عاملا، كان يأخذ لتوه صندوقا تحت إبطه، عن اسم المحظوظ الذي يجلب له البحر كل هذه البضائع. فرد العامل: «كَانِيتْفِرِسْطَان!». هنا حدّث صاحبنا الطيب نفسه قائلا: «ها قد اتضح كل شيء. لا عجب أن يقدر مَنْ يقذف له البحر بكل هذه الخيرات على بناء مثل هذه البيوت ووضع زهور التيوليب في أصص مذهبة أمام نوافذها. ثم عاد أدراجه، وتأمل حاله في حزن شديد قائلا: «يا لي من رجل فقير في هذا العالم الذي يعج بالأثرياء». وبينما كان يقول في نفسه: «يا ليت لي مثل ما أوتي كَانِيتْفِرِسْطَان!». مر بناصية، فأبصر جنازة كبيرة: أربع خيول موشحة بالسواد تجر عربة نعش، مكسوة هي الأخرى باللون الأسود، ببطء وحزن، وكأنها تعرف أنها تحمل ميتا إلى مثواه الأخير. ويسير خلف العربة في صمت موكب طويل من أصدقاء ومعارف المتوفى، مثنى مثنى، متدثرين بمعاطف سوداء. وفي الأفق البعيد دق صوت جرس وحيد. فتملك صاحبنا الغريب شعور شجي، لا بدّ وأن يعتري كل ذي قلب طيب يرى ميتا، ووقف ممسكا قبعته في يديه في خشوع حتى مر الموكب. ثم اتجه صوب آخر رجل في الموكب، كان يحسب في صمت الربح الذي سيعود عليه في تجارته إذا ارتفع سعر قنطار القطن بمقدار عشرة جلدر، وجذبه جذبة خفيفة من معطفه واستماح منه عذرا في سذاجة قائلا: «لا بد أنه كان صديقا عزيزا عليكم ذلك الذي دق له الجرس، فأنتم تمشون في جنازته مغمومين مهمومين.». فرد الرجل: «كَانِيتْفِرِسْطَان!». هنا انهمرت الدموع من عيني صاحبنا، وانقبض صدره، ولكن سرعان ما عاد للانشراح وصاح قائلا: «يا لك من مسكين يا كَانِيتْفِرِسْطَان! ماذا أخذت من كل ثروتك الطائلة؟ لم تأخذ أكثر مما سآخذ أنا العامل الفقير معي يوما ما: كفنا وربما من كل زهورك الجميلة هذه نبتة من حصا البان على الصدر البارد أو نبتة سَذاب.». سار صاحبنا، وهذه الأفكار تدور في رأسه، في الجنازة وكأنه أحد خلصاء المتوفى حتى وصل إلى القبر. ورأى من يظن أنه كَانِيتْفِرِسْطَان وهو يُوارى الثرى. وأثرت فيه كلمات الواعظ الهولندي الذي لم يفهم منه حرفا واحدا أكثر مما أثر فيه بعض الوعاظ الألمان الذين لم يعرهم اهتماما. وفي نهاية المطاف مضى مع من مضى رخي البال. وأكل بشهية مفتوحة قطعة من جبن الليمبورج في نُزُل يتحدثون فيه باللغة الألمانية. وكان كلما يحز في نفسه أنه يوجد في هذا العالم أناس أثرياء جدا بينما هو فقير جدا، كان يُذكّر نفسه بكَانِيتْفِرِسْطَان في أمستردام، ويَذْكُر بيته الكبير وسفينته العامرة ولحده الضيق.
• يوهان پيتر هيبل (1760 - 1826)، كاتب ورجل دين إنجيلي ومدرس. تشمل أعماله شذرات شعرية وقصائد باللهجة الأليمانيّة (لهجة محلية في جنوب غرب ألمانيا) ومجموعة كبيرة من قصص الرزنامة، وتعد الأخيرة السبب الأهم لشهرته ككاتب. وامتاز هيبل بين أدباء عصره بأنه كان قادرا على ربط ما هو شعبي وبسيط بالأفكار الفلسفية العميقة، مما أكسبه محبة وتقدير مُجايليه من كُتّاب القرن التاسع عشر أمثال يوهان فولفجانج فون جوته، والأخوان جريم، وجوتفريد كيلر، ثم كُتّاب ونُقّاد القرن العشرين مثل هرمان هسه ومارسيل رايش رانتسيكي. اختار هيبل مجموعة من أمتع القصص التي ألفها للروزنامات الشعبية في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وجمعها في كتاب يحمل عنوان «تحفة الأسرة السعيدة في الأخبار والقصص الفريدة» (Schatzkästlein des rheinischen Hausfreundes)، نُشر في عام 1811، ومنه اخترنا قصتين نقدّمهما للقارئ العربي على سبيل التعريف برائد القصة القصيرة في الأدب الألماني. وصف الفيلسوف إرنست بلوخ «وبعدما ظَنَّا ألا تَلاقِيَا!» بأنها أجمل قصة في العالم، ولا نبالغ إن قلنا إنَّ « كَانِيتْفِرِسْطَان» أشهر قصة قصيرة في تاريخ الأدب الألماني.
محمود حسنين مترجم ومدرس بجامعة ماينتس، ألمانيا