«نهاية العالم كما نألفه» وصف لا تعوزه الدقة لحالة كونية يمر بها العالم اليوم، لكنه، أيضا وهنا، يمثل العنوان الذي اختاره الشاعر إبراهيم المصري لمجموعته الشعرية الجديدة، الصادرة عن منشورات المتوسط. وربما يذكرنا أو يحيلنا إلى عنوان قريب الشبه، لكتاب آخر في الفكر وعلم الاجتماع هو كتاب «نهاية العالم كما نعرفه» لإيمانويل فالرشتاين.
تقدم نصوص الكتاب نسقا أو خطابا شعريا، يدور في فلك حالة قلق وجودي أثارته العزلة التي ضرب بها انتشار وباء كوفيد 19 العالم، وتسبب في مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي لم يعرفها العالم على هذا النحو العولمي من قبل. ظواهر نتجت عن العزلة التي عايشها سكان العالم. العزلة التي فُرضت عليهم وأبقتهم مقيدي الحركة في أماكن إقامتهم، مسكونين بالمخاوف والهواجس وبملاحقة أشباح مرض غامض وبارانويا المؤامرة.
لكن النصوص لا تشير أبدا لشيء من ذلك بهذه المباشرة، بقدر ما تحاول أن تحدق في مستقبل هذا العالم، وقد استحال العلم فيه إلى وسيلة تغيير لم يعد من الممكن معرفة مدى جودة الحياة التي يمكن أن يتسبب فيها، بعد ما يزيد على نحو قرنين، على الأقل، من شيوع ارتباط العلوم بجودة الحياة. أي أنها تختبر الأفكار التي استقر الفكر البشري عليها مطولا ورسخت علاقة العلم بالحداثة، حتى ثبت، أن العلم لم يعد شرطا لا لهذه الحداثة ولا لجودة الحياة المأمولة. وأن التغيير الذي تسبب فيه قد يؤدي إلى خلق واقع جديد، على أنقاض آخر كان مألوفا.
وهذا العالم الجديد يبدو أنه يميل لطابع الديستوبيا أكثر بكثير مما يبشر باليوتوبيا، على عكس نبوءات العلم التي بشر بها مطولا، بوصفه صنوا للحداثة.
قسّم الشاعر الكتاب إلى فقرات متوالية مرقمة، تأخذ كل منها هيئة النبوءة أو البشارة عن تغير ما، تشرح سمة من سمات العالم القديم كما ألفناه، وتبشر بعالم منبثق من معادلات العلم، ومختبرات الكيمياء والفيزياء، وظواهر استخدام شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومنجزات العلم الحديث.
مع ذلك فليس في لغة المجموعة أية ميوعة عاطفية، أو رومانسية، أو محاولة لدغدغة مشاعر البكاء على لبن مسكوب أو على عالم جميل بسبب ألفته، بل لغة تحتكم للعلم والمنطق، لتضمر حسا بالسخرية يبدو الأنسب في خطاب شعري يتناول الأفق الذي تناهت إليه البشرية، ويقدم تصورا للعالم الذي تسعى إليه، بعد تفريغه من قيم كثيرة.
فالنصوص في مجملها لا تتغيا النوستالجيا، بل تهتم بالمستقبل، بل وتحدق فيه من خلال استخدام عدسات ترى واقعا راهنا له ملامح محددة وترصد ملامح المستجدات التي ستخلق الواقع الجديد، أو المستقبل المرتقب.
تسخر النصوص من اختلاقات البشر لما يتوهمون، أو من غفلتهم، أو لعلها بالأحرى تقدم نقدا وتوصيفا لأوهام بشرية كثيرة. الأوهام التي غيّب البشر بها عقولهم وتسلحوا بها، رغم مظاهر الخواء التي تجلت فيه من إيديولوجيات أو أوهام فكرية زخر بها تاريخ الفكر البشري، وتبشر بالعنصر الوحيد المفتقد، الذي يتحدث الجميع عنه، ويدعون معرفته بينما لا يبدو أنهم قادرون على استخدامه؛ وهو العقل.
تمنح النصوص سمتا له، طابع نبوئي، من خلال اليقين الذي أسبغه الكاتب على النصوص، بحيث تبدو في مجملها كأنها تقدم خطابا يقينيا، فقد انتهى زمن الشكوك التي تقلقل حولها البشر من دون أن يتمكنوا من حسم سبل حياة يتحقق فيها أي قيمة مما أثارتها خطابات اليوتيوبيات والرومانسيات.
كأن الكتاب يسعى لأن يقدم الإجابة اليقينية لزمن كامل من الشكوك أسفر عن حقيقة أو نبوءة عبر تفاصيل في مجموعها ترى أنه لم يعد أمام البشرية إلا الديستوبيا أو الفناء. هذا هو اليقين الوحيد. وهي مفارقة للسخرية الضمنية التي تبدو كغاية من غايات نصوص الكتاب.
الشعر يصالح العلم
هذا اليقين يأتي أيضا بين مفردات ومصطلحات وإشارات مستعارة من معجم العلم، ومن قلب مختبرات التجارب العلمية، ومن كشوف الفيزياء الحديثة ونظرياتها، ومستجدات العلم الحديث. لا يكتفي الكاتب بإيراد المصطلح العلمي في متن النصوص، بل وعبر هوامش شارحة عديدة لمصطلحات وإشارات من مدونات البحث العلمي، وهي إضافة غير مألوفة في نصوص القصيدة النثرية، في حدود اطلاعي على الأقل.
على سبيل المثال يقول الشاعر في فقرة من فقرات الكتاب:
«الساعةُ التي حول معصمك، وتحصي دقات قلبك، وتعطيك جداولَ النبضِ مصنّفة بنضوج غاياتك، وإن تسوّسَ ضرسُكَ تنبئك بتسوّس الضرس الثاني، وتقيس حرارتك وتحسب كم عدد الخطوات التي مشيتها اليوم، والتي تحفظ جداول الضرب ومواعيد العمل، وتؤشر بلهب غامق على تكدس الدهون حول خصرك، وتختار لك أن تأكل هذا الطعام وأن تتجنب ذاك، فلا تنهار مناعتك أمام فيروس ماكر. الساعة التي هي أمك حين تمسك معصمك وقد أضناها السهر، لتطمئن على جريان دمك نظيفا، مما تأتي به جداول غاياتك».
في هذه الفقرة ما يكشف الكثير من سمات هذه النصوص، التي تلعب على وتر المفارقات التي خلقتها ومتوقع أن تصل إليها منجزات العلم الحديث، لتستبدل أفقا أليفا لمعاني الحياة ونمطها، لكي تحل المنجزات العلمية محلها، كما نرى هنا في الإشارة الساخرة لكيف تصبح الساعة في مواصفاتها الجديدة بديلا لنموذج الرعاية الأمومي الذي لم تعرف له البشرية مثيلا مجسدا سوى في الأم أو الأمومة. فيبدو كما لو أنه يبشر بأمومة الآلة والتقنية الحديثة. أمومة رأس المال التي تبدو أنها حريصة على الفرد، حرص الأم، بينما الفارق الرئيس أنها لن تمنح شيئا إلا بمقابل.
«الله في قلبك، وذلك كنز لا تعرضه للأتربة، ولا تفقد إيمانك إن قلت لك العلم في عقلك، وبالبلاهة المنطقية لفاصل إعلاني، يمكننا العيش بدون وخزة الحقد، ويمكننا أيضا، إضاءة بيتك بمصابيح موفرة للطاقة، ينتجها العلم الذي أتمنى، أن يسكن عقلك ولا يتورط في الحقد».
وفي هذه الفقرة أيضا نرى لعبا على المفارقة بين العلم والإيمان. بين المفارقات التي تتولد اليوم باسم الإيمان بينما لا تخلو من مشاعر سلبية مثل الحقد والضغائن، بينما تحاول الفقرة أن تكشف أن العلم سبيل إلى أن يغدو الإيمان إذا ما تسلح بالعلم، أقرب لتجسيد جوهره الحقيقي.
«في المسيرة الطويلة من الأساطير إلى مختبر سيرن لفيزياء الجسيمات، كالجسيم الرب مثلا (هذا مصطلح علمي يورد الشاعر شرحا له في الهامش)، فقد الشعر إحدى ساقيه ويوشك على فقد الثانية. ما يحير العلماء أن الشعر وإن كان يعرج الآن، لا يزال يلمع في النموذج الجمالي للذرّة وفي الفطر الهائل لأول اختبار نووي، حيث رأى البشر صورة الموت لأول مرة، وحيث قال أوبنهايمر بدون أن يرف له جفن الجملة التي يعجز الشعر والشعراء عن قولها:
Now. I’m become Death, the destroyer of worlds.»
وفي الهامش يشير الشاعر: روبرت أوبنهايمر، عالم فيزياء نظرية، والمدير العلمي لمشروع مانهاتن الأمريكي لتصنيع القنبلة النووية في الولايات المتحدة في أربعينيات القرن العشرين الماضي، ويعرف بـ أب القنبلة النووية. ويشرح تجربة سيرن أيضا، كما يقدم ترجمة الجملة الإنجليزية لأوبنهايمر: «الآن أصبحتُ الموتَ مدمر العوالم».
يبدو العلم هنا كما لو أنه بقدر ما كان واعدا بتحطيم أوثان الأساطير والخرافات، بقدر ما ضلله الوعي البشري، فبدلا من تحقيق اليوتوبيا الموعودة إذا به يخلق جحيم الدمار النووي.
لكن النص يلعب على هذا التناقض بين العلم والغرائز البشرية، وبين العقل والعاطفة، وبين المشاعر والمعادلات الرياضية والحقائق الفيزيائية، يفتح أفقا جديدا لقصيدة النثر، أو للخطاب الشعري بشكل عام، وأيضا لنا لكي نعيد تأمل العالم في هذه اللحظة الغامضة من عمر البشرية. لأن نهاية العالم كما ألفناه لا تعني بالضرورة أن نعيش في ديستوبيا خلقها العلم على عكس المتوقع، بل قد تعني أن البشر الذين عاشوا لقرون في الظلام وخلقوا في العتمة مملكة الخرافات بوصفها كائنات الظلام الأثيرة، لا يمكنهم أن يروا في ضوء العلم إلا طريقا لا يمكن لمن يسلكها إلا أن يعود إلى زمن ما قبل العلم وبداية التاريخ، كما لو أن الكائن البشري يستخدم العلم في البحث عن سبل الفناء، أو العودة لما قبل زمن الإنارة والضوء؛ زمن أساطير العتمة والظلمات.
لكن النصوص لا تلعب على هذه المفارقة فقط، بل توجه خطابا نقديا يتزيا بالسخرية المبطنة أو المكشوفة في حالات عديدة، من علاقة الثقافة العربية بالعلم بشكل عام، وغيابها تقريبا في الذهنية العربية بكل ما يرتبط بها من عقلانية وتدبر.
ولهذا فإن النصوص تقدم اقتراحا بين ما تقترحه لمصالحة الشعر على العلم، وهو أمر نادر في الخطاب الشعري العربي، إن لم يكن معدوما في الحقيقة.
في فقرة لاحقة يأتي في النصوص: «سوف يتاح لك قريبا أن تشتري Online، جرعات إدمانك للعاطفة كأن تشتري جرعة أن تحب والديك ولا تنهرهما، وجرعة أن تحب زوجتك وأولادك وتحنو عليهم، وإن كنت عاشقا فقد تشتري Online جرعة الموت عشقا».
ويضع الكاتب مفردة Online بالحروف اللاتينية، بكل حمولاتها الافتراضية والاصطلاحية، ليصنع من مفهوم التجارة الإلكترونية عبر فضاء الإنترنت معادلا لفكرة بيع وشراء كل شيء بما في ذلك القيم والمشاعر! بل وقيم العلم. فقد تم تسليع كل شيء، من المشاعر والقيم إلى منجزات العلم!
هناك طابع عام أقرب إلى النقد الساخر، اللاذع أيضا في أحيان كثيرة، من تناقضات السلوكيات العربية المبنية على ذهنية تآلفت مع التناقض فأصبحت صنوا له. ليس فقط على مستوى غياب العقل والعقلانية، بل في مستويات أدبية مثل الشعر وقصيدة النثر. ثمة سخرية من الشعر، ليس من جوهره، ولكن من الحال العام التي بلغها الشعر مثل أشياء عديدة أخرى تتغير في العالم الذي كنا نألفه.
ويذكر الكاتب القراء، بين آن وآخر، بطبيعة الوسيط الذي انتقلت إليه هذه النصوص، وهو الوسيط الافتراضي، وصفحات التواصل الاجتماعي، إذ يجعل من التفاعل المباشر بين بعض الفقرات والنصوص التي نشرها مع قراء أو شعراء موضوعا لنصوص لاحقة. من بين سمات المجموعة أيضا الكثافة، فالأفكار شديدة التكثيف، والصور مبنية على الأفكار المجردة، وهو ما يجعل من القراءة المتأنية ضرورة، لكنها في الوقت نفسه تقدم نصوص الكتاب ليس بوصفها قصائد، بل كنصوص شعرية، أو كنصوص تقدم خطابا شعريا وجماليا لكنه يبحث في موضوعات عميقة حول المستقبل، ونقد العقل العربي.
يمكن القول إذن إن كتاب «نهاية العالم كما نألفه» يشكل مغامرة ابتغت، ونجحت في، كتابة نصوص حرة بعيدة عن التصنيف، تحاول استشراف المستقبل، وتستلهم واقعا متغيرا يشعر الفرد بملامح التغيير في كل وجه من وجوه الحياة فيه، ولكن ربما لا يمكن لهذا الفرد أن يعيه كامل الوعي، وهذا جانب إضافي لما يقترحه نهاية العالم كما نألفه.
إبراهيم فرغلي روائي وصحفي مصري
تقدم نصوص الكتاب نسقا أو خطابا شعريا، يدور في فلك حالة قلق وجودي أثارته العزلة التي ضرب بها انتشار وباء كوفيد 19 العالم، وتسبب في مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي لم يعرفها العالم على هذا النحو العولمي من قبل. ظواهر نتجت عن العزلة التي عايشها سكان العالم. العزلة التي فُرضت عليهم وأبقتهم مقيدي الحركة في أماكن إقامتهم، مسكونين بالمخاوف والهواجس وبملاحقة أشباح مرض غامض وبارانويا المؤامرة.
لكن النصوص لا تشير أبدا لشيء من ذلك بهذه المباشرة، بقدر ما تحاول أن تحدق في مستقبل هذا العالم، وقد استحال العلم فيه إلى وسيلة تغيير لم يعد من الممكن معرفة مدى جودة الحياة التي يمكن أن يتسبب فيها، بعد ما يزيد على نحو قرنين، على الأقل، من شيوع ارتباط العلوم بجودة الحياة. أي أنها تختبر الأفكار التي استقر الفكر البشري عليها مطولا ورسخت علاقة العلم بالحداثة، حتى ثبت، أن العلم لم يعد شرطا لا لهذه الحداثة ولا لجودة الحياة المأمولة. وأن التغيير الذي تسبب فيه قد يؤدي إلى خلق واقع جديد، على أنقاض آخر كان مألوفا.
وهذا العالم الجديد يبدو أنه يميل لطابع الديستوبيا أكثر بكثير مما يبشر باليوتوبيا، على عكس نبوءات العلم التي بشر بها مطولا، بوصفه صنوا للحداثة.
قسّم الشاعر الكتاب إلى فقرات متوالية مرقمة، تأخذ كل منها هيئة النبوءة أو البشارة عن تغير ما، تشرح سمة من سمات العالم القديم كما ألفناه، وتبشر بعالم منبثق من معادلات العلم، ومختبرات الكيمياء والفيزياء، وظواهر استخدام شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومنجزات العلم الحديث.
مع ذلك فليس في لغة المجموعة أية ميوعة عاطفية، أو رومانسية، أو محاولة لدغدغة مشاعر البكاء على لبن مسكوب أو على عالم جميل بسبب ألفته، بل لغة تحتكم للعلم والمنطق، لتضمر حسا بالسخرية يبدو الأنسب في خطاب شعري يتناول الأفق الذي تناهت إليه البشرية، ويقدم تصورا للعالم الذي تسعى إليه، بعد تفريغه من قيم كثيرة.
فالنصوص في مجملها لا تتغيا النوستالجيا، بل تهتم بالمستقبل، بل وتحدق فيه من خلال استخدام عدسات ترى واقعا راهنا له ملامح محددة وترصد ملامح المستجدات التي ستخلق الواقع الجديد، أو المستقبل المرتقب.
تسخر النصوص من اختلاقات البشر لما يتوهمون، أو من غفلتهم، أو لعلها بالأحرى تقدم نقدا وتوصيفا لأوهام بشرية كثيرة. الأوهام التي غيّب البشر بها عقولهم وتسلحوا بها، رغم مظاهر الخواء التي تجلت فيه من إيديولوجيات أو أوهام فكرية زخر بها تاريخ الفكر البشري، وتبشر بالعنصر الوحيد المفتقد، الذي يتحدث الجميع عنه، ويدعون معرفته بينما لا يبدو أنهم قادرون على استخدامه؛ وهو العقل.
تمنح النصوص سمتا له، طابع نبوئي، من خلال اليقين الذي أسبغه الكاتب على النصوص، بحيث تبدو في مجملها كأنها تقدم خطابا يقينيا، فقد انتهى زمن الشكوك التي تقلقل حولها البشر من دون أن يتمكنوا من حسم سبل حياة يتحقق فيها أي قيمة مما أثارتها خطابات اليوتيوبيات والرومانسيات.
كأن الكتاب يسعى لأن يقدم الإجابة اليقينية لزمن كامل من الشكوك أسفر عن حقيقة أو نبوءة عبر تفاصيل في مجموعها ترى أنه لم يعد أمام البشرية إلا الديستوبيا أو الفناء. هذا هو اليقين الوحيد. وهي مفارقة للسخرية الضمنية التي تبدو كغاية من غايات نصوص الكتاب.
الشعر يصالح العلم
هذا اليقين يأتي أيضا بين مفردات ومصطلحات وإشارات مستعارة من معجم العلم، ومن قلب مختبرات التجارب العلمية، ومن كشوف الفيزياء الحديثة ونظرياتها، ومستجدات العلم الحديث. لا يكتفي الكاتب بإيراد المصطلح العلمي في متن النصوص، بل وعبر هوامش شارحة عديدة لمصطلحات وإشارات من مدونات البحث العلمي، وهي إضافة غير مألوفة في نصوص القصيدة النثرية، في حدود اطلاعي على الأقل.
على سبيل المثال يقول الشاعر في فقرة من فقرات الكتاب:
«الساعةُ التي حول معصمك، وتحصي دقات قلبك، وتعطيك جداولَ النبضِ مصنّفة بنضوج غاياتك، وإن تسوّسَ ضرسُكَ تنبئك بتسوّس الضرس الثاني، وتقيس حرارتك وتحسب كم عدد الخطوات التي مشيتها اليوم، والتي تحفظ جداول الضرب ومواعيد العمل، وتؤشر بلهب غامق على تكدس الدهون حول خصرك، وتختار لك أن تأكل هذا الطعام وأن تتجنب ذاك، فلا تنهار مناعتك أمام فيروس ماكر. الساعة التي هي أمك حين تمسك معصمك وقد أضناها السهر، لتطمئن على جريان دمك نظيفا، مما تأتي به جداول غاياتك».
في هذه الفقرة ما يكشف الكثير من سمات هذه النصوص، التي تلعب على وتر المفارقات التي خلقتها ومتوقع أن تصل إليها منجزات العلم الحديث، لتستبدل أفقا أليفا لمعاني الحياة ونمطها، لكي تحل المنجزات العلمية محلها، كما نرى هنا في الإشارة الساخرة لكيف تصبح الساعة في مواصفاتها الجديدة بديلا لنموذج الرعاية الأمومي الذي لم تعرف له البشرية مثيلا مجسدا سوى في الأم أو الأمومة. فيبدو كما لو أنه يبشر بأمومة الآلة والتقنية الحديثة. أمومة رأس المال التي تبدو أنها حريصة على الفرد، حرص الأم، بينما الفارق الرئيس أنها لن تمنح شيئا إلا بمقابل.
«الله في قلبك، وذلك كنز لا تعرضه للأتربة، ولا تفقد إيمانك إن قلت لك العلم في عقلك، وبالبلاهة المنطقية لفاصل إعلاني، يمكننا العيش بدون وخزة الحقد، ويمكننا أيضا، إضاءة بيتك بمصابيح موفرة للطاقة، ينتجها العلم الذي أتمنى، أن يسكن عقلك ولا يتورط في الحقد».
وفي هذه الفقرة أيضا نرى لعبا على المفارقة بين العلم والإيمان. بين المفارقات التي تتولد اليوم باسم الإيمان بينما لا تخلو من مشاعر سلبية مثل الحقد والضغائن، بينما تحاول الفقرة أن تكشف أن العلم سبيل إلى أن يغدو الإيمان إذا ما تسلح بالعلم، أقرب لتجسيد جوهره الحقيقي.
«في المسيرة الطويلة من الأساطير إلى مختبر سيرن لفيزياء الجسيمات، كالجسيم الرب مثلا (هذا مصطلح علمي يورد الشاعر شرحا له في الهامش)، فقد الشعر إحدى ساقيه ويوشك على فقد الثانية. ما يحير العلماء أن الشعر وإن كان يعرج الآن، لا يزال يلمع في النموذج الجمالي للذرّة وفي الفطر الهائل لأول اختبار نووي، حيث رأى البشر صورة الموت لأول مرة، وحيث قال أوبنهايمر بدون أن يرف له جفن الجملة التي يعجز الشعر والشعراء عن قولها:
Now. I’m become Death, the destroyer of worlds.»
وفي الهامش يشير الشاعر: روبرت أوبنهايمر، عالم فيزياء نظرية، والمدير العلمي لمشروع مانهاتن الأمريكي لتصنيع القنبلة النووية في الولايات المتحدة في أربعينيات القرن العشرين الماضي، ويعرف بـ أب القنبلة النووية. ويشرح تجربة سيرن أيضا، كما يقدم ترجمة الجملة الإنجليزية لأوبنهايمر: «الآن أصبحتُ الموتَ مدمر العوالم».
يبدو العلم هنا كما لو أنه بقدر ما كان واعدا بتحطيم أوثان الأساطير والخرافات، بقدر ما ضلله الوعي البشري، فبدلا من تحقيق اليوتوبيا الموعودة إذا به يخلق جحيم الدمار النووي.
لكن النص يلعب على هذا التناقض بين العلم والغرائز البشرية، وبين العقل والعاطفة، وبين المشاعر والمعادلات الرياضية والحقائق الفيزيائية، يفتح أفقا جديدا لقصيدة النثر، أو للخطاب الشعري بشكل عام، وأيضا لنا لكي نعيد تأمل العالم في هذه اللحظة الغامضة من عمر البشرية. لأن نهاية العالم كما ألفناه لا تعني بالضرورة أن نعيش في ديستوبيا خلقها العلم على عكس المتوقع، بل قد تعني أن البشر الذين عاشوا لقرون في الظلام وخلقوا في العتمة مملكة الخرافات بوصفها كائنات الظلام الأثيرة، لا يمكنهم أن يروا في ضوء العلم إلا طريقا لا يمكن لمن يسلكها إلا أن يعود إلى زمن ما قبل العلم وبداية التاريخ، كما لو أن الكائن البشري يستخدم العلم في البحث عن سبل الفناء، أو العودة لما قبل زمن الإنارة والضوء؛ زمن أساطير العتمة والظلمات.
لكن النصوص لا تلعب على هذه المفارقة فقط، بل توجه خطابا نقديا يتزيا بالسخرية المبطنة أو المكشوفة في حالات عديدة، من علاقة الثقافة العربية بالعلم بشكل عام، وغيابها تقريبا في الذهنية العربية بكل ما يرتبط بها من عقلانية وتدبر.
ولهذا فإن النصوص تقدم اقتراحا بين ما تقترحه لمصالحة الشعر على العلم، وهو أمر نادر في الخطاب الشعري العربي، إن لم يكن معدوما في الحقيقة.
في فقرة لاحقة يأتي في النصوص: «سوف يتاح لك قريبا أن تشتري Online، جرعات إدمانك للعاطفة كأن تشتري جرعة أن تحب والديك ولا تنهرهما، وجرعة أن تحب زوجتك وأولادك وتحنو عليهم، وإن كنت عاشقا فقد تشتري Online جرعة الموت عشقا».
ويضع الكاتب مفردة Online بالحروف اللاتينية، بكل حمولاتها الافتراضية والاصطلاحية، ليصنع من مفهوم التجارة الإلكترونية عبر فضاء الإنترنت معادلا لفكرة بيع وشراء كل شيء بما في ذلك القيم والمشاعر! بل وقيم العلم. فقد تم تسليع كل شيء، من المشاعر والقيم إلى منجزات العلم!
هناك طابع عام أقرب إلى النقد الساخر، اللاذع أيضا في أحيان كثيرة، من تناقضات السلوكيات العربية المبنية على ذهنية تآلفت مع التناقض فأصبحت صنوا له. ليس فقط على مستوى غياب العقل والعقلانية، بل في مستويات أدبية مثل الشعر وقصيدة النثر. ثمة سخرية من الشعر، ليس من جوهره، ولكن من الحال العام التي بلغها الشعر مثل أشياء عديدة أخرى تتغير في العالم الذي كنا نألفه.
ويذكر الكاتب القراء، بين آن وآخر، بطبيعة الوسيط الذي انتقلت إليه هذه النصوص، وهو الوسيط الافتراضي، وصفحات التواصل الاجتماعي، إذ يجعل من التفاعل المباشر بين بعض الفقرات والنصوص التي نشرها مع قراء أو شعراء موضوعا لنصوص لاحقة. من بين سمات المجموعة أيضا الكثافة، فالأفكار شديدة التكثيف، والصور مبنية على الأفكار المجردة، وهو ما يجعل من القراءة المتأنية ضرورة، لكنها في الوقت نفسه تقدم نصوص الكتاب ليس بوصفها قصائد، بل كنصوص شعرية، أو كنصوص تقدم خطابا شعريا وجماليا لكنه يبحث في موضوعات عميقة حول المستقبل، ونقد العقل العربي.
يمكن القول إذن إن كتاب «نهاية العالم كما نألفه» يشكل مغامرة ابتغت، ونجحت في، كتابة نصوص حرة بعيدة عن التصنيف، تحاول استشراف المستقبل، وتستلهم واقعا متغيرا يشعر الفرد بملامح التغيير في كل وجه من وجوه الحياة فيه، ولكن ربما لا يمكن لهذا الفرد أن يعيه كامل الوعي، وهذا جانب إضافي لما يقترحه نهاية العالم كما نألفه.
إبراهيم فرغلي روائي وصحفي مصري