يفترض أن تكون الحرب الروسية على أوكرانيا، والعودة غير الدائمة وغير الآمنة للعصر الذهبي للنفط، عاملين قويين يعززان الرهانات التي أفرزتها آخر قمتين خليجيتين، وهما العلا والرياض اللتان عقدتا في عام 2021، وقد رفعتا سقف الطموحات والآمال للشعوب الخليجية إلى عنان السماء، وكذلك عاملا يدعم قوة المسار الثنائي الجديد بين مسقط والرياض من جهة، ومسقط والدوحة من جهة ثانية التي جعلت من شعوب هذه الدول تطلق الطموحات من كل محاذيرها التاريخية، وتنظر للمستقبل بفكر شبابها لا كهولها، فهذه الحرب توفر كل الظروف التي تحقق أجندات تلكم القمتين الخليجيتين على الصعيد الجماعي، وتحرر الثنائيات من تبعات أي قيود أجنبية.

فالحليف الأمريكي قد أظهرته هذه الحرب في مشهد يذكرنا بالمشهد البريطاني الضعيف الذي أدى إلى سحب وجوده العسكري من الخليج في أواخر الستينيات، فمن سيكون البديل؟ لا يمكن الاعتماد على لندن لعدم توفرها على مقومات الإحلال الآن، وسيكون قدرها أن تكون القوة الداعمة للدولة الأولى في العالم، حتى الآن الأولى هي واشنطن، لكن الحرب على أوكرانيا تفتح إمكانية كسر احتكار هذا الاستفراد، فلربما عليها أن تختار لندن لاحقا بين المحور الذي فيه بكين القوية اقتصاديا، والمتنامية عسكريا، وبين أوروبا التي فيها تستيقظ برلين على هاجس صناعة قوة عسكرية رادعة، وترى أنها أمنيا أقرب لموسكو من واشنطن، واقتصاديا لبكين.

الأهم هنا، أننا أمام صيرورة زمنية جديدة، تشهد تبدلات وتغيرات في ميزان القوى العالمي، وقد كنت أتوقع من النهج الثنائي الخليجي أن يكون أكثر ديناميكية من النهج الجماعي في مواكبة التطورات، واستغلال الفرص التي تنتجها الأزمات، غير أن هذا لم يظهر للرأي العام الخليجي حتى الآن، لن أحاول وأد التفاؤل الكبير الذي خرج من آخر القمتين ومن تلكم الشراكتين الثنائيتين، وإنما سأعبر هنا عن ما كان ينبغي القيام به عاجلا كحتمية تفرضها الدروس التي تقدمها الحرب الروسية على أوكرانيا حتى الآن.

كنت أتوقع أن المبادرة إلى تأسيس شراكات عاجلة في الأمن الغذائي بعد اندلاع الحرب على كييف تعجل بما اتفقت عليه الشراكتان الثنائيتان في مجال الأمن الغذائي خصوصا، فهذه الحرب توفر كل الدواعي اللازمة للتعجيل بملف الأمن الغذائي، حيث يفترض أن تكون هناك مشاريع غذائية مشتركة على الأرض في ظل ما تقدمه عمان من إمكانيات متاحة لكي تكون سلة غذاء الخليج.

وتظهر سلطنة عمان الآن أكثر العواصم الخليجية قدرة وإمكانية لأن تؤمن هذه السلة، فهناك محافظات زراعية عديدة قد أثبتت إنتاج الكثير من المحاصيل الزراعية ذات الجودة العالية كالطماطم والباذنجان والخس والبطاطا الحلوة والبقوليات والتمر والموز والنارجيل والليمون والجزر، فمثلا ستنتج مزارع النجد قريبا من محصول البطيخ والشمام ما يقارب 27 ألفا و638 طنا، وهذا مثال فقط على إمكانية الاعتماد الخليجي على الإنتاج الزراعي في سلطنة عمان.

كما أن تجربة سلطنة عمان في إنتاج القمح خاصة في سهل الباطنة والنجد في ظفار قد أصبحت مشجعة الآن، ويتوقع أن تنتج النجد قرابة ألفي طن بجهود متواضعة لمزارعين عاديين، فكيف لو تم دعمهم لزيادة إنتاجهم؟ فمن بين أهم التحديات التي تواجههم التمويل المالي، وارتفاع تسعيرة الكهرباء، ولو حُلّت مثل هذه التحديات، لسخروا التكنولوجيا في الإنتاج، وقلة التكلفة الإنتاجية، ووفروا المحاصيل الزراعية على مدار العام، فالحاجة الآن إلى إقامة صندوق خليجي للدعم المالي للمزارعين وفق صفقة استيراد حاجة كل دولة خليجية، وهذا أكثر ضمانة وأمنا من تجربة الاستثمار الخليجي في الخارج، وذلك لاكتنافه الكثير من المخاطر، لعل أبرزها:

منع التصدير للخارج رغم أن الإنتاج خليجي "شركات وأموال" لكنها على أراضي أجنبية، ومن كان يعتقد أن نقل الخليج نشاطه الزراعي إلى دول أخرى، كأوكرانيا وأوروبا عملية إبداعية وراءها ذكاء، فقد انكشفت الآن الحقيقة، فالتصدير من كييف قد توقف، وعودة إنتاجها إذا ما توقفت الحرب يحتاج لفترة زمنية طويلة، وأوروبا ترى أنها الأولى بإنتاجها المحلي في ظل شبح أزمة غذاء عالمية، لذلك لا ثقة ولا أمان إلا أن تعتمد الدول الخليجية على مقومات بعضها البعض، وحتى لو وقعت أزمات، فسيكون اعتمادها على الخارج أقل تأثيرا.

وكانت الكويت قد اقترحت في أبريل 2020 إنشاء شبكة أمن غذائية خليجية لتأمين الإمدادات الغذائية الكافية للخليج خاصة وقت الأزمات، وهذا المقترح يمكن تطويره الآن عبر اتجاهين، داخلي يتمثل في الإنتاج الزراعي الخليجي، وخارجي لتغطية النواقص، ولن تثور هنا مشكلة التمويل، فكل دولة تخصص موازنات كبيرة لأمنها الغذائي، فمثلا الكويت، فقد أسست لأمنها الغذائي شركة أطلقت عليها الأمن الغذائي برأسمال مليار دولار، وهكذا شأن بقية الدول الخليجية، فلماذا لا يوظف جزء من هذه الأموال للإنتاج الداخلي في سلطنة عمان لصالح هذه الدول وعبر صفقات مع المزارعين أو شركات معهم لتعظيم الفائدة المشتركة.

وسواء في حالة الإنتاج الخليجي أو الخارجي، فإن الحاجة القصوى تحتم ربط عواصم الدول الست بشبكة قطار عاجلا، وهذا مشروع خليجي قديم، تستدعيه الآن حقبة الأزمات المتتالية والمتراكمة، وبصورة أدق دروس الحرب على أوكرانيا، وهي متعددة، لكني أشير هنا إلى خيار القطارات في التخفيف من العقوبات على موسكو، ودورها العسكري والاقتصادي والاجتماعي، فربط الدول الست بالقطار الخليجي، حتمية لا تؤجل، وسيسهل نقل البضائع والأشخاص والمعدات في الأوقات الاعتيادية والأزمات معا، وهذه الأخيرة، ينبغي التأمل فيها بعيدا، وبرؤية استشرافية، وتفتحها لنا الحرب على أوكرانيا من أوسع أبوابها، ولنا في تحويل بضاعة دول الخليج إلى ميناء صلالة وقت الأزمات رؤية يمكن البناء عليها للمستقبل.

لا أعتقد أن قضية الأمن الغذائي الخليجي، بشقيه الثنائي أو الجماعي، تحتاج إلى إرادة سياسية متجددة، فلو أخذنا مثلا الشراكة العمانية السعودية، فسنجد أن قيادتي البلدين قد فوضت مجلس تنسيقي برئاسة وزيري خارجية البلدين كامل الصلاحيات في تحقيق أجندات الشراكة، وكل ما يتعلق بتعميق الروابط بين البلدين من منظور المصلحة المشتركة، وتوظيف حتى المقومات الجيوسياسية والجيوستراتيجية والاقتصادية لصالحها.

وبالتالي، فإن هذا المجلس التنسيقي يعبر هنا عن الإرادة السياسية الثابتة لكلا القيادتين، لكن يبدو أن الثنائية الرئاسية للمجلس قد غرقت في الانشغالات السياسية لحرب كييف ومفاوضات البرنامج النووي الإيراني، ولم ترفع رأسها لرؤية الفرص التي تنتجها الحرب على كييف، ربما كان ينبغي إشراك مجلسي الشورى في كلا البلدين في المجلس التنسيقي، فهما سيشكلان القلب النابض والمستدام للمصلحتين، سيذكران بالاستحقاقات النفعية المشتركة للبلدين في كل الأوقات، وبالذات وقت الأزمات عندما تنشغل بها السياسة، وكذلك الشأن لو أضيف لهذا المجلس مفكرون من كلا البلدين من مختلف التخصصات، لتقديم رؤى وأفكار استشرافية للمجلس، وتوضيح أهمية استحقاقاتها في أزمنتها العاجلة، ففي الأزمات تولد فرص لا تتوفر في الأحوال الاعتيادية، وإذا لم تستحق في حينها، فإنه يتم تفويتها، والحديث هنا في كل المجالات، وقضية الأمن الغذائي على وجه الخصوص.

• عبدالله باحجاج مهتم بقضايا الشأن الخليجي