ترجمة ـ قاسم مكي -

قال فلاديمير بوتين مرَّة أنه لا يحب سماع وصف روسيا بقوة الطاقة العظمى. فذلك حسب قوله يذكره أكثر مما ينبغي بالحرب الباردة.

لكنه سعد كثيرا بما حققته له موارد الطاقة من نفوذ سياسي دولي وإيرادات ضخمة. غير أن عواقب حرب أوكرانيا ستحوِّل روسيا إلى "قوة طاقة متقلِّصة".

هذا (المآل) يؤشر إلى نهاية حقبة بدأت قبل ثلاثة عقود مع انهيار الاتحاد السوفييتي. ففي السنوات التي تلت ذلك ولأول مرة منذ الثورة البلشفية اندمجت صناعة النفط الروسية المتعافية في الصناعة العالمية.

روسيا اليوم واحدة من أكبر ثلاثة منتجين للنفط في العالم (بعد أمريكا ومساوية تقريبا للسعودية). كما هي أيضا أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم وثاني أكبر منتج له أيضا بعد أمريكا.

لكن في أسابيع قليلة فقط دمر بوتين الاقتصاد المعولم الذي ظل يبنيه لأكثر من 20 عاما وكذلك السمعة التي حققتها روسيا كجهة إمداد مضمونة.

وهي الآن تعتبر مصدرا لا يمكن الاعتماد عليه لموارد الطاقة وغير مرغوب فيه إلى حد بعيد بالنسبة لأوروبا.

في عام 2021 أمدَّت روسيا أوروبا بحوالي 29% من احتياجاتها من الغاز و35% من النفط. وعلى الرغم من أنها مصدر إمداد ضروري في الوقت الحالي، إلا أن دورها من المؤكد سيتلاشى.

لقد وضح أن فصل روسيا من اقتصاد العالم بعقوبات ضخمة يشكل تحديا. فهي كبلد تصدير تتعامل أساسا في سلع ومواد خام لا يمكن إحلال أي منها بسهولة في أوقات التضخم.

يحتل النفط والغاز أعلى قائمة هذه الصادرات. فهما يشكلان نصف إجمالي حصيلة صادرات روسيا وفي بعض السنوات ما يزيد عن 40% من إجمالي موازنتها.

ما تحتاج إليه أوروبا على الفور مع انقضاء فصل الشتاء ضمانُ تخزينٍ كميات كافية من الغاز الطبيعي للشتاء القادم. من أجل هذا تلزمها الإمدادات الروسية.

لكن إجمالا، ستشهد مبيعات الغاز الروسية إلى أوروبا انخفاضا مثيرا خلال السنوات الخمس القادمة. فأوروبا ستعزز اندفاعها نحو الموارد المتجددة الآن لأسباب تتعلق بالأمن إلى جانب المناخ. لقد أعلنت فرنسا عن تشييد محطات نووية جديدة لتوليد الكهرباء. وتبحث القارة حول العالم عن المزيد من الغاز الطبيعي المسال.

هذه السوق بحاجة إلى المزيد من الإمدادات. لكن أمريكا ستتوسع في طاقتها الإنتاجية هذا العام مما يجعلها أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم. وستعزز أوروبا كفاءة استخدام الطاقة. لكنها أيضا ستحرق المزيد من الفحم الحجري مؤقتا على الأقل. ويتسارع طرح السيارات الكهربائية. كما ستحتاج أوروبا أيضا إلى تسريع إجراءات التصديق على الإنتاج الجديد للنفط والغاز. فموارد الغاز الطبيعي غير المستكشفة ستكون مساوية لكميات الغاز الذي تصدره روسيا إلى القارة على مدار عقود عديدة.

يمكن لروسيا ضخ المزيد عبر الأنابيب إلى الصين. لكن تشغيل نظام أنابيب الغاز المتجه غربا (إلى أوروبا) سيكون عند مستوى أدنى كثيرا من طاقته التصديرية الفعلية.

في الأعوام العادية تحقق صادرات النفط الروسية أكثر من ثلاثة أضعاف عائدات الغاز. لكن صادراتها من النفط حتى الآن أقل انسيابا إلى حد بعيد. فحوالي نصف صادراتها التي تصل إلى 7.5 مليون برميل في اليوم يذهب إلى أوروبا.

رغم استثناء تلك الصادرات علنا من العقوبات الرسمية (إلى أن تم استهدافها على وجه التحديد بواسطة أمريكا وبريطانيا)، إلا أنها تخضع بشكل غير مباشر لعقوبات ذاتية بواسطة المشترين وشركات الشحن البحري والتأمين وكذلك بعدم حماس البنوك للتمويل التجاري.

هنالك عامل آخر يؤثر على أسواق النفط وهو قوة الرأي العام المرتاع من الحرب في أوكرانيا والضغوط الناتجة من ذلك على الشركات للتخلي عن النفط الروسي.

هذا الوضع يشكل معضلة للبلدان الأوروبية تتمثل في عدم شراء نفط روسيا استجابة لرأي عام غاضب من الدمار في أوكرانيا في مقابل توقعات مرجحة بنقص إمدادات الوقود حول القارة.

اعتقد بوتين أنه يملك رافعة بشن الحرب في أوضاع عدم كفاية الإمدادات في سوق الطاقة. وتوقع احتجاج بلدان الاتحاد الأوروبي لكن دون أن تفعل شيئا.

اتضح أن ذلك كان خطأ فادحا في تقديراته. فكميات النفط التي يجري تحميلها على متن الناقلات الروسية تراجعت الآن كما يبدو بحوالي مليون إلى مليوني برميل في اليوم. كما توجد شحنات إضافية هائمة في البحر لعدم وجود مشترين.

من جانبها، تتحرك الحكومات الغربية حول العالم، بعد إعادة اكتشافها لمفهوم أمن الطاقة بحثا عن إمدادات إضافية. ويلزمها التخطيط على أساس فرضيةِ تعاظمِ رفض شراء النفط الروسي أو لجوء بوتين إلى استخدام "سلاح النفط" ووقف الإمدادات.

وسواء تحققت هذه الفرضية أو تلك، على الحكومات الغربية التعاون بشكل أوثق مع شركات النفط والغاز لفهم اللوجستيات المتغيرة. ومن أجل تيسير التعاون ستُحسِن هذه الحكومات صُنعا إذا تخلت عن اللغة الشعبوية المعتادة عن التلاعب بالسوق والتي عادة ما يتم استدعاؤها عندما ترتفع الأسعار.

هذا يقودنا إلى سؤال "التبادلية." إنها تلك الكلمة الغريبة التي تصف سهولة (أو صعوبة) استبدال سلعة بسلعة أخرى.

نظريا سوق النفط ستتوازن مجددا. فبراميل النفط الروسية التي لم تعد تتجه إلى أوروبا ستذهب إلى مكان آخر وأساسا إلى آسيا. والنفط القادم من أماكن أخرى سيأتي إلى أوروبا. فالبلدان التي تشتري النفط كالهند (تستورد 85% من احتياجاتها النفطية) والصين ستكون متلهفة لشراء النفط الروسي بأسعار متدنية.

لكن النظام المعقد الذي ينقل حوالي 100 مليون برميل في اليوم حول العالم ليس من اليسير إعادة ضبطه. وسيتعقد أداؤه بالتطورات الجديدة مثل صعوبات ترتيب التمويل والنقل من البحر الأسود وموانئ البلطيق والعقوبات الجديدة. وسيكون مطلوبا استخدام أنظمة الدفع الثنائية التي تتجنب الدولار. بل من الممكن جدا أن تعود تجارة المقايضة. عن الإيكونومست.

كان نظام "أوبك بلس" الذي تديره السعودية وروسيا يعمل في سوق معولمة. لكن من الصعب أن يتماسك في عالم مبلقَن (مفتَّت) لن يسهل على البلدان فيه "الامتناع" عن اختيار أحد الطرفين كما فعلت في التصويت الأخير لإدانة غزو أوكرانيا. وما يزيد التوتر وسط المصدِّرين أن البلدان الشرق أوسطية ستجد نفسها متنافسة في سوق آسيا ضد "هجمة" النفط الروسي الرخيص.

في العقود الثلاثة الأخيرة شجعت الحكومات الغربية بشدة استثمارات الشركات الغربية في قطاع الطاقة في روسيا. لقد أرادت تدعيم علاقتها بموسكو في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي بأساس اقتصادي وجلب إمداداتٍ أكثر تنوعا إلى سوق النفط العالمية بعد أزمة الخليج في أوائل التسعينات.

تلك الشركات تتخلى الآن عن استثماراتها هناك. وستحاول شركات من بلدان الأسواق الناشئة الحصول على الموجودات المهجورة بأسعار زهيدة. لكنها ستكون بحاجة إلى العمل على تجنب العقوبات.

تم استبعاد شركات الطاقة الروسية الآن من التمويل الدولي وتدفقات التقنية. وسيعني كل هذا أن إنتاج روسيا من النفط والغاز سينخفض.

لقد شن بوتين الحرب بدعوى "الوحدة". بمعنى أن الروس والأوكرانيين "أمة واحدة". وأيضا كخطوة مهمة لتحقيق طموحه الكبير بإعادة تأكيد مكانة روسيا كقوة عظمى. لكن ما فعله، إلى جانب تمزيق مثل هذه "الوحدة"، هو تقويض والحطّ من قيمة أهم مصدَر لقوة روسيا الاقتصادية.

دانييل يرجين مؤلف كتاب "الخارطة الجديدة: الطاقة والمناخ وصدام الأمم"ونائب رئيس شركة ستاندارد آند بورز جلوبال. حصل على جائزة بوليتزر عن كتابه "الجائزة: ملحمة البحث عن النفط والمال والنفوذ ".