يتيح التحول في سلطنة عُمان إلى "اللامركزية" ضمن محددات النموذج التنموي لرؤية عُمان 2040 فرصة لإعادة التفكير في مستقبل المدن، في ظل النقاشات العالمية الموسعة حول أبعاد من قبيل تمركز السكان في المدن، والحاجة إلى نماذج المدن المرنة Flexible Cities بالإضافة إلى الدور الريادي المنتظر للمدن في إعادة تشكيل سلوك ساكنيها من نواحي الاستهلاك والبصمة البيئية إلى نواحي المشاركة والتكيف مع المخاطر ودعم الاقتصادات والأنشطة الخضراء وتعزيز فعل الاستدامة. كل تلك النقاشات تشغل اليوم مراكز الفكر والقيمون على صنع السياسات العمرانية كما تشغل علماء الاجتماع أنثروبولوجيا والاقتصاد. يحدد تقرير "الوقت الأمثل للاستعداد للمستقبل: خارطة طريق لتعزيز مرونة المدن" الصادر عن القمة العالمية للحكومات 8 مزايا رئيسية تتسم بها المدن المرنة وهي (الاستباقية – الاستعداد للمستقبل – استغلال الموارد – سهولة التكيف – المشاركة – التركيز على المواطنين – الابتكار – الشمولية) وتحمل كل ميزة من هذه المزايا قائمة من الاعتبارات والممكنات التي يمكن أن تدفع المدن نحو هذا التحول، ولتبسيط المسألة بشكل أكبر فإن مفهوم المدن المرنة يتمحور حول الطريقة التي تستطيع من خلالها المدن التعامل مع المتغيرات الاقتصادية والبيئية والصحية والاجتماعية بفكر استباقي وتهيئ منظومات العمل فيها وبناها التحتية وقدراتها البشرية بطريقة تمكنها من عدم الولوج إلى صدمة المدينة City Shock كما سماها ويني ماس.

تشير التقديرات إلى أنه قد ينتقل إلى المدن بحلول عام 2050 ما يقرب من 2.5 مليار شخص إضافي للساكنة الحاليين فيها، وحسب تقرير "آفاق التحضر في العالم" يتم اليوم "تسجيل 85 مقيمًا جديدًا في لاغوس، و 79 في نيودلهي، و 53 في شنغهاي، و 51 في مومباي ،و 22 في مكسيكو سيتي كل ساعة". وهذا التفجر في الهجرة إلى المدن يضغط شبكات الخدمات العامة، والبنى التحتية، وتركيبة المجتمعات، والبنى الثقافية لها، كلها تحت الضغوط وفرضيات التحول، ومع تعاظم المخاطر الصحية والمناخية على وجه التحديد، تحدث صدمة المدن. الأمر الذي يستوجب التفكير في أحد خيارين: إما ضبط الهجرات (وهو أمر أصبح نسبيًا من الصعب التحكم فيها عالميًا)، وإما تعزيز مرونة المدن. وفي الحالة العُمانية فإن توقيت التحول إلى اللامركزية في تقديرنا يتسق مع احتياجات التركيبة السكانية والحضرية والعمرانية الراهنة ويمكن من التحول نحو المدن المرنة في حالة تم استدماج مفاهيمها في أنماط التخطيط العمراني من ناحية وفي السياسات العامة للامركزية بشكل عام، وهذا يقتضي التنبه إلى عدة اعتبارات في تقديرنا، منها:

1- إدماج احتمالية كافة أشكال المخاطر في التخطيط العمراني سواء للوحدات العمرانية الصغرى أو الكبرى.

2- إدماج ثقافة التكيف مع المخاطر بأشكالها الاقتصادية والطبيعية والصحية في نمط الثقافة العامة داخل المدن لتقليل ما يعرف اختصارًا (Vuca) والذي يعبر عن نمط العالم الذي يسمه أربع خصائص رئيسية وهي "التقلب Volatility وعدم اليقين Uncertainty والغموض Ambiguity والتعقيد Complexity"

3- تعزيز قواعد البيانات والمعرفة والبحث حول أنماط العيش والاستهلاك وجودة الحياة داخل المدن، والأنشطة الاقتصادية والإنتاجية للساكنين، وممارساتهم الصحية والثقافية، وكل ما يتصل بمعيشهم وذلك لتمكين المحافظات/ المدن من تخير السياسات الملاءمة لتجويد أنماط الحياة وتحسين مستوى إنتاجية الأفراد وتعزيز مرونتهم، وبالتالي زيادة درجة تكيف المحافظة/ المدينة.

4- توزيع المسؤوليات والمستهدفات الوطنية بشكل واضح وتنافسي بين المحافظات/المدن على سبيل المثال إن كانت هناك مستهدفات مرتبطة بالانبعاثات، أو البصمة البيئية أو مستهدفات مرتبطة بالصحة وقضاياها كالسمنة وغيرها، أو مستهدفات مرتبطة بالإنتاج ومضاعفته فيستوجب أن تقسم على إطار مكاني وهو إطار المحافظات/ المدن لتعزيز التنافسية في سبيل تحقيق المستهدف الوطني/ الكلي وبالتالي دفع هذه المحافظات/ المدن لاستشعار أكبر للتحدي، وتنافسية في ابتكار الوسائل، وتنويع للممكنات الهادفة للوصول إلى المستهدف.

يقول طوبيا زيفي متحدثًا عن مدينة ما بعد كوفيد 19: " أننا بحاجة إلى تحسين جودة الأماكن العامة لتعزيز الأنشطة الخارجية والحفاظ على المجتمعات شاملة وصحية. وأن تكون المدن أكثر إنصافًا لأن المجتمعات المنفصلة هي الأكثر تضررًا من الوباء، وتصميم نماذج جديدة للمدن، مثل مدينة 15 دقيقة المطبقة في باريس وميلانو: في جوهرها، تدعم المبادرة مفهوم العيش والعمل واللعب على مسافة 15 دقيقة سيرًا على الأقدام أو ركوب الدراجات". وشكلت حالة التعايش مع تقلبات جائحة كورونا كوفيد 19 وما فرضته من أنماط مكانية وسلوكية في إجراءاتها الاحترازية بالإضافة إلى حالات الأنواء المناخية المختلفة التي تعرضت لها سلطنة عُمان تاريخيًا رصيدًا معتبرًا أمام صانع السياسة العمرانية لاختيار التدخلات المناسبة في إعادة التفكير في مستقبل المدينة العُمانية وفي التحول بها نحو نمط المدينة المرنة.

وفي تقديرنا هناك عدد من الممكنات في اللحظة الراهنة التي تمكن من هذا الانتقال أولها: وجود الاستراتيجية العمرانية التي تشك إطارًا للتوجهات العامة في التخطيط والعمران، والنقاش المجتمعي الموسع حول محدداتها ومستهدفاتها، الأمر الآخر هو التعهيد الاجتماعي Crowdsourcing الذي يمكن أن يطور بعض الأفكار المنبثقة من المعرفة الاجتماعية/ الشعبية حول المدن، فهذه المعرفة التي ترتكز على الحدس التاريخي والحدس المكاني وحدس المعايشة قد تشكل رصيدًا معمقًا من الفهم للمحافظة/ المدينة يساعد صانع السياسة العمرانية على اختيار البدائل الأنسب لنقلها لتكون مدينة مرنة، الممكن الثالث والمهم كذلك هو استدماج أفكار الشباب ودمج الابتكار في تفاصيل إدارة المدن وتخطيط الفضاءات الحضرية والتحول نحو تجويد الخدمات المقدمة في المساحات العامة لتعزيز التكامل والانسجام والإندماج الاجتماعي الذي يشكل أيضًا عنصرًا مهمًا من عناصر المدينة المرنة. ومن هذا المنطلق فإن المبادرات الساعية في هذه الفترة إلى استدماج أفكار الشباب في تخطيط مشروعات تنمية المحافظات يجب أن تكون مستديمة ومركزة على أولويات محددة، وحافزة للابتكار، ومهيئة بشكل أكبر للإدماج الاجتماعي، لتحويل المحافظات إلى خلايا عمل تستعصف الأفكار وتمهد للتحولات المنتظرة.