الناس في الغالب صنفان، صنف نذرَ نفسه من أجل خدمة الآخرين والمساعدة في قضاء الحاجات وزراعة الأمل في النفوس، فتجده دائما رحب الصدر، حسن الخلق، يجتهد ليجعل الممتنع سهلا والمستحيل ممكناً. وهذا الصنف من الناس ينطبق عليهم ما قاله أحد حكماء العرب وهو الشاعر زهير بن أبي سلمى، واصفاً سيد قبيلة ذبيان، الكريم الجواد المعروف، هَرَم بن سنان:

"تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائلهْ"

وهناك صنف آخر من الناس جعل حرفَتَه أو بضاعته غلق الأبواب وتصنيع اليأس، فيجعل السهل صعباً والممكن مستحيلا، سواء قصد أن يكون كذلك أو أنه لم يوجَّه كما يجب أو لم يمكّن كما ينبغي بكيفية القيام بواجباته أو بكيفية التعامل مع الآخرين في إطار عمله ومسؤولياته. ولا شك أن عدم القدرة على تحقيق بعض الأمور التي هي سهلة التحقيق قريبة المنال، خاصة إذا أصبح ظاهرة متكررة، له أثر كبير على معنويات البعض من الناس، فتجعلهم يشعرون بانسداد الأفق أمامهم، وهو ما قد يدفعهم إلى اليأس والقنوط، وفي ذلك آثار سلبية على المجتمع.

وأود هنا الحديث عن مثالين من الواقع، وجدت أنهما يمثلان ذينك النوعين من الناس. وقد تعمدت اختيار عنوان المقال بهذه الصورة، "تصنيع اليأس" و"زرع الأمل"، لأن الأمل في اعتقدي طبيعي عند أكثر الناس، وإحياؤه في نفوسهم لا يحتاج إلى جهد كبير، حيث إنه حتى الكلمة الطيبة كثيرا ما تحيي الأمل و تفتح الآفاق المسدودة، خاصة إذا اعتاد الناس على رؤية أن الأقوال تسبقها أو تصحبها أو تليها أفعال وإنجازات ملموسة. أما اليأس فلا يأتي لأكثر الناس إلا إذا تكررت الإخفاقات وانسد الأفق أمامهم، بمعنى أنه كالتصنيع يحتاج في معظمه إلى عمليات معقدة. مع الإشارة هنا إلى أنه في كثير من الحالات يكون اليأس الجمعي والشعور العام بانسداد الآفاق ناتج عن خلل مؤسسي، أي قصور في الأنظمة واللوائح التي تسير عليها بعض المؤسسات، أكثر من كونه تقصيرا من فرد أو مجموعة أفراد.

قبل أسابيع توجهت إلى إحدى المؤسسات في محافظة مسقط للحصول على خدمة تتضمن استخراج وثيقة معينة. وعند مدخل تلك المؤسسة توجهت إلى موظف الاستقبال فيها، وكان هو الموْكَل إليه إرشاد المراجعين لما ينبغي عليهم عمله للحصول على تلك الخدمة. فقال لي موظف الاستقبال إذا لم يكن لديك موعد مسبق مع المسؤول عن تلك الخدمة فعليك أولا أخذ موعد من خلال الموقع أو الرابط الإلكتروني المخصص لذلك، وأشار إلى اللوحة المكتوب عليها عنوان الموقع أو الرابط، ثم استدرك قائلا: "يمكن الرابط ما يشتغل الآن".

حاولت الدخول إلى الرابط، وبالفعل وجدته لا يعمل، أو لا يفتح. ولا أخفي أنني كنت بحاجة إلى تلك الوثيقة منذ زمن طويل، وكان يجب أن يحصل عليها أيضاً آخرون معي، ولكننا كنا نؤجل الذهاب للحصول عليها، على أمل أن نرتب موعدا فيما بيننا لنذهب مجتمعين لأخذها. ثم جاء وباء كوفيد-١٩، و ما ترتب عليه من اضطراب في إدارة أكثر المؤسسات وسيرورة عملها، فكان أحد أسباب التأخر في إنجاز ذلك.

كنت أظن أن مسألة الحصول على تلك الوثيقة أمر هين، خاصة وأنها خدمة بسيطة ومطلوبة على نطاق واسع في المجتمع. وحسب معرفتي وعلمي فإن ذلك يتم في بعض البلدان خلال دقائق معدودة، عن طريق ملء استمارة قصيرة بمعلومات محددة. لكن من حديث موظف الاستقبال معي أدركتُ أنه لا أمل في الحصول على المطلوب إلا بموعد يتم من خلال الموقع الإلكتروني المحدد. أما الدخول إلى الشخص المعني بتقديم الخدمة مباشرة فشيء يصعب حتى مجرد الحديث في طلبه. تساءلتُ في نفسي ما العمل! خاصة وأن حاجتي لتلك الوثيقة أصبحت ماسة، ويجب الحصول عليها خلال يوم أو يومين. شعرت من كلام موظف الاستقبال ومن كثرة عدد الذين كان ينتظرون دورهم للدخول إلى المعنيين أن لا أمل في الحصول على ما أردته إلا بعد عدة أيام، إن لم تكن أسابيع، حيث لا أعرف متى سيتم إصلاح الخلل الفني في الرابط أو الموقع الإلكتروني، وحتى إن تم إصلاح العطل أو الخلل فلا أعرف متى سأحصل على الموعد المطلوب! كما لا يمكن قطعاً الدخول مباشرة إلى الشخص المعني بالموضوع! فقلت "فصبرٌ جميلٌ والله المستعان"، هكذا يتم تصنيع اليأس ودفع الناس إليه، وهذه الحالة من حالات السهل الممتنع.

كانت الساعة حوالي العاشرة صباحاً، فتذكرت أنني تحدثت سابقاً مع شخص يعمل في مؤسسة لها علاقة بالمؤسسة التي تقدم تلك الخدمة، فاتصلت به فأعطاني رقم هاتف الشخص المعني بالموضوع، ولم تكن لي معرفة سابقة بذلك الشخص. تواصلت معه عبر الهاتف واستفسرت منه عن إمكانية إنجاز الخدمة المطلوبة خلال ما تبقى من ساعات العمل في ذلك اليوم، فرد أنه يمكنه أن يتم ذلك، على شرط أن أصل إليه قبل الساعة الواحدة ظهرا، لأنهم بعدها سيقومون بإنجاز ما تبقى لديهم من أعمال مشابهة، وسأضطر إلى الانتظار إلى اليوم التالي للحصول على المطلوب. وبعد حوالي ساعتين وصلت إلى المكان الذي قصدته، واتصلت بالشخص المعني وعرّفته بنفسي، فطلب مني أن أقدم المستندات اللازمة لاستخراج الوثيقة المطلوبة للأشخاص الذين هم على مكتب الاستقبال في تلك المؤسسة. بعد مرور أقل من نصف ساعة خرج الشخص المفوض بتقديم الخدمة ومعه الوثيقة المطلوبة، واستلمتها منه. ذلك كان سليمان كريم النفس، عالي الهمة، وممن تقضى به حوائج الناس و يجعلون الممتنع سهلا.

وقبل أيام كنت أتحدث مع أحد رواد الأعمال عن هذا الموضوع، وقلت له يبدو أن إنجاز بعض الأعمال في المحافظات الأخرى ربما يكون أسهل مما هو عليه في محافظة مسقط، وربما يكون ذلك بسبب الازدحام وكثرة المراجعين في مسقط. فقال أنت محظوظ، لأننا نعاني الكثير من تأخر إنجاز معاملاتنا في بعض المؤسسات التي في المحافظات. ما أود قوله هنا أن موضوع التأخر في إنجاز المعاملات والحصول عليها ليس بجديد ويدور على ألسنة الكثيرين، وقد أثير في أكثر من مناسبة، وتم طرحه في أكثر ندوة ومنتدى. وللأسف تتكرر الشكاوى من مشاكل قد تبدو صغيرة، وهي في الغالب كذلك، لكنها تتسبب بلا شك في إضاعة فرص كثيرة، أو تزيد من التكاليف المادية على المستوى الاقتصادي، بالإضافة إلى أنها تزيد من عناء ومعانات بعض الأفراد والأسَر. ومع وجود بعض التحسن نتيجة لاستخدام الأتمتة والحوسبة في بعض الخدمات، إلا إنه ما زال هناك تأخر وبطء لا داعي له، ويُرجعه البعض إلى عدم إلمام البعض بالنظم والإجراءات، وإلى النقص في عدد الموظفين في بعض الجهات، وكذلك عدم تمكين الموظفين المُجيدين أو تحفيزهم لتشجيعهم على بذل مزيد من الجهد والعطاء.

لذلك فإنه لا بد من معالجة المشاكل وإزالة المعوقات التي تحد من تحسين الأداء ورفع الكفاءة، وإيجاد حلول لها على وجه السرعة، سواء بزيادة أعداد الموظفين حين تكون هناك حاجة إلى الزيادة، أو بالتمكين والتحفيز، أو بالمساءلة والمحاسبة. وكما هو معلوم أن المعالجة في الإدارة عملية مستمرة للتجاوب مع المستجدات في الحاجات والمعارف، والتطوير والإصلاح الإداري ضروري من أجل التسهيل على الناس عامة.

• عبدالملك الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية