أصيبت توما بوعكة صحية ألزمتها الفراش لكنها كانت تجاهد لممارسة عملها رغم تحذيراتي لها وإصراري أن تأخذ قسطا من الراحة، حتى أنني أحضرت لها دواء يساعدها على النوم، اكتشفت سره فأصبحت لا تستخدمه إلا في الليل.

في أحد الأيام ضاقت بي ذرعا على ما يبدو فقالت لي: أنا لا أستطيع التوقف عن العمل، إنه رياضتي الوحيدة، ومتنفسي، إذا جلست في غرفتي ستقتلني الأفكار، تذكرت عبارتها تلك وأنا أراها مؤخرا تمسك بمكنسة وتجاهد لتنظيف فناء البيت، إنها في الواقع لا تنظف الفناء، إنها تنظف عقلها من الأفكار التي تتكالب عليها عند أدنى وعكة صحية تتعرض لها، المرض متعب لكنه يصبح مخيفا أيضا في الغربة، فأبسط وعكة صحية تأتي بسيناريوهات مظلمة لا يقوى عليها المرء.

كإنسان عشت الغربة سنوات طويلة أستطيع أن أتفهم خوف توما من البقاء في غرفتها وحيدة، وإصرارها أن تضع كل طاقتها في العمل، العمل الذي تجد أنه ملجأها، ورياضتها، و متنفسها، فهي بلا أصدقاء ولا أهل تستطيع اللجوء إليهم، نادرا ما تغادر البيت خوفا مما قد يعترض طريقها من أخطار في مجتمع لا تعرف عنه شيئا، رغم إصراري عليها بأن عمان بلد آمن، لكن يبدوا أنها تحمل في تصورها صورة أخرى عن بلادي لا أعرفها، فبلادنا مهما كانت خطرة نجد كل الأمان فيها، وبلد الآخرين حتى لو كانت عمان أرض السلم والسلام نجدها مخيفة.

كل منا يتمنى أن يحصل على عمال يعشقون العمل للدرجة التي تجعلهم لا يتوقفون لحظة عنه، وفي الغالب نفسر هذا بحبهم للعمل، ونشجعهم عليه، لكن توما تعلمني كل يوم أنها لا تعمل حبا، وإنما خوفا، خوفا من البقاء وحيدة مع أفكارها وهمومها، هي التي صرحت لي بأنها لم تأت للعمل كعاملة في منزل إلا بعد أن ضاقت بها الحياة في بلادها بحثا عن عمل.

"الأشياء ليست كما تبدوا دائما" حدثت نفسي وأنا أفكر في توما في أحد المساءات، وأنا أرى شابا عمانيا يجلس وحيدا على أحد شواطئ مسقط الجميلة، يناجي هاتفه، هو أيضا يتغلب بهذا الهاتف على وحدته وغربته، هو أيضا لم يختر أن يترك قريته الصغيرة ليهيم في المدينة وحيدا، الغربة مؤلمة حتى وأن كانت في قلب وطن تحبه ويحبك، فما بالك بغربة توما وأمثالها.

hamdahus@yahoo.com