فتحت ملف علاقة المحافظين الأمريكيين المتطرفين باليمين المتطرف في أوروبا، وخرجت منه بوجود علاقة مباشرة فيما يحدث حاليا في أوروبا من صعود اليمين المتطرف، واستعدائه لكل المظاهر الإسلامية، وكم كانت مفاجأتي عندما رأيت أن هذه التجربة يمكن أن تنسخ داخل منطقتنا الخليجية من حيث الفكرة والأهداف، مع اختلاف الوسائل والأدوات.

والمدهش في مفاجآتي أن بيئات نجاحها في الخليج تصنع الآن بسياسات محلية، والمؤشرات واضحة الآن، رصدتها في مؤسسات عابرة للحدود وصلت للخليج، ومعها الأموال والنفوذ، وهذا كفيل بنجاح أهدافها في المنطقة في ضوء تداعيات السياسة المالية الخليجية التي تفرغ المكون الديموغرافي من ثوابته السياسية.

والسؤال الجدير بالطرح، هل يتوقع أن لا يكون هناك ردة فعل مجتمعية/ نخبوية ملونة؟ هذا التساؤل ينبغي أن ينظر إليه من مفهوم شامل، وليس حصريا على اليمين الأمريكي والأوروبي المتطرف، فهناك أيديولوجيات متشددة قد فتحت لها مراكز في بعض العواصم العربية، ومساعٍ دولية نجحت فيها في المساس بجوهر منظومة التأسيس الذهنية الخليجية تحت بواعث الانفتاح على الآخر المختلف معه أيديولوجيا، وهذا في الواقع لم يكن انفتاحا وإنما تنازلا له، وتمكين توغله على حساب أيديولوجية أهل الأرض.

كما أن كل ما يفعله اليمين المتطرف في أوروبا الآن، يثير استياء أهل الخليج، بل كل مسلم في العالم، وهو يتم استعداء كل المظاهر الإسلامية في أوروبا بقسوة تنم عن كراهية دفينة في النفوس، فالحرية الحقيقية أصحبت من منظور اليمين المتطرف التخلص من العباءة، وكل المظاهر الإسلامية الأخرى، ورفض تعايش المسلمين المهاجرين معهم.

وقد أصبحت أوروبا منتجة لحركات قومية يمينية متطرفة، وهذه ليست صناعة أوروبية خالصة، وإنما هي من قبيل المجموعات المحافظة المسيحية في أمريكا، ويعتبر ستيف بانون الذي كان مستشارا لترامب الموجه السياسي لليمين في أوروبا، فقد استقر في بروكسل، ومنها ينتقل من عاصمة أوروبية إلى أخرى لتقوية اليمين، وتسهيل وصوله للسلطة قبل أن يتهموه في أمريكا بالاختلاس.. الأهم النتيجة.

ونجدها في تأسيس يمين متطرف بجيل جديد مثير للجدل الآن في أوروبا، ومتطلع بطموحات كبيرة للوصول لأعلى قمة في السلطة، من أمثال سالفيني في إيطاليا ولوبان وأوربان في فرنسا.. رافعين شعار إنقاذ جذور أوروبا المسيحية اليهودية، وكذلك عصر جديد في السياسة الأوروبية.

وقد وقفت على حجم الدعم المالي الأمريكي لليمين المتطرف في أوروبا، فالمصادر تشير إلى أن اليمين المسيحي الأمريكي أنفق ما لا يقل عن 50 مليون دولار من ما أسمته المصادر بـ«الأموال السوداء» لتمويل حملات اليمين المتطرف في أوروبا على مدى العقد الماضي، والإشكالية الكبرى هنا أن الجماعات اليمينية المسيحية الأمريكية، وعددها 12 جماعة، كالكناس مثلا ليست ملزمة بنشر معلومات عن تمويلها أو إنفاقها في الخارج، وهذه كبرى الثغرات التشريعية، وأكبر المنفقين في هذه الجمعيات، وفق المصادر، هي جمعية بيل جراهام الإنجيلية، التي أنفقت أكثر من 20 مليون دولار في أوروبا من عام 2008 إلى عام 2014.

تلكم كبرى المؤشرات على التحولات في أوروبا، ومستقبلها، وهي تشكل في المقابل أكبر المهددات للإسلام المحافظ في الخليج، فبعض الأحزاب اليمينية المتشددة قد وصلت إلى مواقع صناعة القرار في البرلمان الأوروبي والبرلمانات الأوروبية الوطنية، وهي تنمو في أوروبا بوتيرة زمنية عالية السرعة، وطموحها الآن في الفوز في الانتخابات الرئاسية في بعض العواصم الأوروبية كفرنسا، ولا استبعد نجاحها الآن بعد فشل الأحزاب الحاكمة في أوروبا في الاقتصاد، فليس من المستبعد أن يلجأ الأوروبيون إلى المتطرفين كردة فعل سيكولوجية على هذا الفشل، خاصة عندما تنعكس تداعيات العقوبات الغربية على روسيا للداخل الأوروبي بسبب حربها على أوكرانيا.

وعندما شاهدت عنوانا كبيرا على واجهة محل يحمل اسم «المركز المسيحي» في إحدى المدن الخليجية التي تبعد عن العاصمة كثيرا، علمت عندها خطورة هذه القضية، ومنه تواردت لي فكرة نسخ تجربتهم في أوروبا إلى المنطقة الخليجية، ولن يكونوا لوحدهم، فهناك الجماعات اليهودية والهندوسية.. وتملك الأموال والنفوذ السياسي، فالأبواب الخليجية مفتوحة لكل الجماعات: يمينية، يسارية، سياسية دينية.. إلخ، وكما قلت سابقا، البيئات مهيأة لنجاحها.

ونجاحها سيدفع ثمنه الإسلام المحافظ الذي تستهدفه. كذلك مجموعة تحديات فكرية وأيديولوجية كالنسوية والإلحاد والتطرف الجديد الذي ستنتجه الليبرالية المطلقة بعد قناعاتها الجديدة، أبرزها نظرتها للإسلام بأنه معوق لتنامي الليبرالية في نسختها المعاصرة، ستتمكن من اختراق المجتمعات الخليجية بأموالها ونفوذها، وبالذات فئة الشباب وبعض المثقفين بسبب الضغوطات المالية والقهرية التي أدخلتهم فيها السياسات المالية، لكنها من المؤكد أنها ستقابل بردة فعل موازية لها، وفي الاتجاهات ذاتها.

فالتشدد والعنف لا ينتجان إلا نسخا مماثلة لهما، والتشدد والعنف قد يكونان أفعالا أو أقوالا أو تحولات في المسارات والاتجاهات.. إلخ.

وندعو كل عاصمة خليجية إلى طرح التساؤل التالي: ماذا سيترتب على التخلي عن الإسلام المحافظ؟ التجربة الأوروبية التي انتجت التشدد المتمثل في اليمين المتطرف، ستنتج بدورها تشددا في الخليج متعدد الألوان، بمعنى أنه سيكون دينيا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا.. إلخ، وحتى لا نقول وداعا للإسلام المحافظ في الخليج، فينبغي أن تدافع عنه الحكومات الخليجية بقوة، بحيث تعمل بصورة أحادية وجماعية على منح هذا الملف الأولوية القصوى، وعدم ترك الانفتاح على الأجنبي بماله وأيديولوجيته مهما كانت الأسباب، يعبث بأركان استقرارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهناك خطوتان مهمتان، ينبغي أن تتخذها هذه الحكومات في طريق سد الأبواب، الأولى: مراجعة عاجلة لسياساتها المالية التي تثقل كاهل مجتمعاتها، وتنتج بيئات مواتية لنجاح مختلف الاختراقات الأجنبية، والثانية، وضع حد للوجود الجديد المتنامي للكيانات الأيديولوجية/ الدينية والفكرية الأجنبية في الخليج، فهناك تسامح سياسي في نشأتها ونموها، وصلت انعكاساتها إلى إقامة مراكز خارج العواصم، والخطورة هنا، أن ذلك يتم على حساب الثوابت الوطنية الأساسية للمجتمعات الخليجية، وهذه رسالة عاجلة لصناع السياسة في الخليج، فما يجري حاليا يصنع لخمسين سنة مقبلة، لذلك، فكل عاصمة خليجية تحافظ على إسلامها المحافظ، ستتمكن في المقابل على المحافظة على أمنها واستقرارها الداخلي.

د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي