يتمدد المعنى المنبثق من الأغنية، ويمنح ظلالا وإيحاءات أكثر مما في وسع اللغة وحدها أن تفعل

ليس للأغنية في نصوص حمود سعود سياق خاص، ولكنها ترد في كل السياقات حتى تلك التي تبدو أنها لا تلائمها، مثل قوله «أغاني الرصاص»

يتحول الغناء إلى وسيلة تعذيب، فالجلاد يستخدم الغناء والموسيقى لتعذيب ضحاياه

يُلفت الانتباه في نصوص حمود سعود السرديّة، بدءا من إصداره الثاني «المرأة العائدة من الغابة تغنّي» الصادر في 2015، ثم «غراب البنك ورائحة روي» في 2017، ثم «أحلام معلّقة على جسر وادي عدي» في 2019، يُلفت الانتباه الصوت الخافت للموسيقى الخلفية، والغناء الشفيف الذي يكاد يحضر في جميع نصوص كتبه الأربعة عموما والثلاثة الأخيرة منها بنحو خاص مشكّلا ظاهرة ملفتة للنظر، فليست الشخصيات وحدها التي تغنّي أو تعشق الغناء والموسيقى وحسب، ولكنها الكائنات جميعها التي يستنطقها حمود في نصوصه: الأطفال والنساء والرجال على حد سواء ومن جميع الأعمار والجنسيات، الغراب والشجرة، السمكة والقط، الغيمة والجبل، عمود الإنارة والحمام، العسكر والقراصنة والجنود واللصوص والعشاق، كلهم يغنّون في سرد حمود سعود باختلاف حكاياتهم وحيواتهم وأحوالهم.

ويعنينا قبل الحديث عن الأشكال التي اعتمدها حمود سعود في توظيف الأغنية في نصوصه، أن نطرح أسئلة من قبيل: ما الوظيفة التي تؤدّيها الأغنية أو الموسيقى أو ظلالهما في سياق النص السردي؟ وما الذي بوسع الأغنية أن تقوله ولا يستطيع أن يقوله السرد؟ مفترضين مسبقا أن الأغنية تسهم في توسيع دوائر الدلالة لتمنحها امتدادا يستحضر حمولات معنويّة تتصل بالذاكرة والذائقة معا.

ونسأل كذلك عمّا إذا كان توظيف الأغنية ناسب السياق الذي وردت فيه، وأنها لم تُقحم فيه إقحاما؟ ثم ما التغيّر الذي تُحدثه الأغنية في إيقاع النص إذا ما دخلت عليه؟ ومبعث هذا التساؤل أمران: الأول أن الأغنية ليست خطابا نصيّا موازيا يقوم على الكلمات وحدها، وإنما خطاب يستدعي اللحن المصاحب لها، وأداء الفنان الذي يغنّيها أيضا، ويستجلب في الوقت نفسه استدعاءات القارئ الشخصية، وتجربته الذاتية، وحكمه الخاص على الأغنية نفسها، وذكرياته معها. ولا بد أن يكون لهذا القارئ – بناء على ذلك - تصوّره المسبق الذي شكّله عنها على امتداد زمن الأغنية أو زمن علاقته بها. هذا إذا ما افترضنا أنه قارئ يعرف الأغنية مسبقا، وأن الكاتب يستثمر هذه المعرفة المشتركة بينه وبين القارئ المفترض. أما إذا لم يكن كذلك، فإن اختلافا في أثر التلقّي من شأنه أن يُحدث فرقا بين قارئ يعرفها وآخر لا يعرفها بالضرورة، ولم يسبق له تلقّيها قبل أن تواجهه في هذا النص أو ذاك؛ ما يعني أن الأغنية في النص السردي يمكن ألا تُحدث الأثر عينه ما بين متلقٍ وآخر.

أما السبب الثاني، فهو الاختلاف في مستوى اللغة الذي يُحدثه دخول كلمات الأغنية في جسد النص، لينقلها من مستوى لغوي يمثّل لغة النص الأصلية، إلى مستوى آخر تمثّله لغة الأغنية التي يغلب أن تكون مغايرة عن لغة النصّ تركيبًا ولهجةً ولغةً وحمولات، أي من اللغة الرسمية التي يقرّها المركز إلى اللغة الشعبية التي تعبّر عن لغة الهامش.

من خلال الأسئلة أعلاه سنقارب توظيف الأغنية في النصوص السردية لحمود سعود من خلال إصداراته الثلاثة الأخيرة آنفة الذكر، مستبعدين الإصدار الأول «عمامة العسكر» لورود إشارة واحدة فيه فقط تذكر الفنان أبو بكر سالم . ونبدأ مقاربتنا بمجموعته «المرأة العائدة من الغابة تغني» الصادرة عن دار سؤال في عام 2015:

منذ العتبة الأولى/ العنوان، تحضر الأغنية من خلال الفعل (تغنّي)، وبعبارة العنوان نفسها: «المرأة العائدة من الغابة تغنّي» يختم الكاتب النص الأخير في المجموعة، وكأنما المجموعة برمتها واقعة بين بداية أغنية ونهايتها، وما بينهما ليس سوى تنويعات أو كوبليهات، تستعين بممكنات الغناء وطاقته التعبيرية، وهذا ما سنقف عليه بعد حين.

وبخلاف العنوان، نستطيع تصنيف توظيف الأغنية في هذه المجموعة إلى ثلاثة أشكال على النحو الآتي:

- استدعاء كلمات الأغاني وحمولاتها:

يستحضر الكاتب الأغنية الشهيرة للفنانة اللبنانية جوليا بطرس «نرفض نحن نموت» في نص «موسم الضوء وحصاد الضجر». تقول الأغنية: «بنرفض نحنا نموت// قولولن: رح نبقى// أرضك والبيوت// والشعب اللي عم يشقى// موئلنا يا جنوب// يا حبيبي يا جنوب»، ويوظفها حمود سعود في سياق التعبير عن الصمود، إذ جاءت كلمات الأغنية على لسان خمس شخصيات جمعها السجن، فانطلقت الأغنية من حناجرهم مشتركة ليبثوا في نفوس بعضهم البعض قوة وصمودا يشبهان كلمات الأغنية التي تقاوم الاستسلام، قبل أن يصور لنا تأثّر حمامة حطّت قريبا من السياج الشائك لسور السجن بالأغنية، يقول: «هذه الأغنية أغرت حمامة عابرة كانت في طريقها إلى أحد الجبال القريبة من السجن للمبيت أن تقف على جدار الساحة، الجدار المرتفع المسيج بالأسلاك» (المرأة العائدة من الغابة تغنّي، ص78، 79).

تستدعي هذه الأغنية في ذهن القارئ الجنوب اللبناني إبان الاجتياح الإسرائيلي خلال الفترة من عام 1982 وحتى مايو من عام 2000، إذ تعبّر كلماتها عن صمود الجنوب اللبناني ومقاومته لأشكال الموت والاستسلام. وقد استعار الكاتب هذه الدلالة ليجعلها تعبيرا عن صمود الشخصيات الخمس داخل أسوار السجن. في هذا الاستحضار، تُشحن الكلمات بالموقف الجديد من دون أن يفصلها عن الأصل الذي قيلت فيه، إذ يجري تكثيف المشترك بين الموقفين، وهو نشدان الحرية، وتصعيد معاني الصمود، على الرغم من اختلاف الجغرافيا واللهجة اللتين نقلتا النص إلى مستوى آخر، ولكنهما شحنتاه بعاطفة قوية من التفاؤل والأمل.

ومن ذلك الاستدعاء في هذه المجموعة، استدعاء أغنيتين شعبيتين للسيل، وهما من أغاني الطفولة التي يحفظها الصغار والكبار على اختلاف الأجيال، أما أولاهما فهي التي تقول: «يا الله يا الله بالسيل// يهبط وادينا قبل الليل» (الغابة، ص12، 13) في نص «مرثية أولى للظل»، وتقول الثانية من النص نفسه:

«سيل سيل سيلية .... حمامة فوق لومية

سيل سيل سيلية .... حمامة فوق لومية» (الغابة، ص21)

غير أن الكاتب يضيف إليها عبارة خاتمة: «والكلب ينبح ليلية» لتأتي متسقة ليس مع ما قبلها في الإيقاع فقط، ولكن في اللهجة الدارجة أيضا. وبصرف النظر عن الدلالة الساخرة في الجملة الأخيرة، غير أن هذا الاستدعاء لأغاني السيل والمطر يحقق فائدتين: الأولى اتكاؤه على الذاكرة البعيدة للقارئ الذي يريد الكاتب أن يختصر معه مسافة زمنية تستجلب الظلال التي تتحدث عن عالم الطفولة وأغانيها. والثانية فائدة فنية تعمد إلى خلق تنويع لفظي يشكّل مع الموضوع لحمة متصلة، وتستدعي صور الطفولة المشتركة بين منتج النص ومتلقّيه.

ومن ذلك الاستدعاء للأغنيات، تستوقفنا تعويبة امرأة الجبل، «المرأة التي انتظرت زوجها لربع قرن، رحلت ورحل كل شيء معها، ما عدا «تعويباتها الليلية» التي سكنت في ذاكرة الطفل» (الغابة، ص12). ولكن الكاتب الذي سكت عن ذكر كلمات التعويبة في المتن يوردها في الهامش كالآتي: (دوّرت في الخلان وما ريت// ما ينفعني غير الفلوس)، ويضيف في الهامش أيضا: «يا سلامة بنت ناصر، أيتها القادمة من إحدى قُرى الشرقية البعيدة، لم تكوني رأسمالية لتمجّدي المال، بل كنت شجرة مثمرة بالأغاني والفقد والحنين. كنتِ تزرعين صحراء وحدتك وفقدك بالأغاني الليلية».

وبقدر ما يكشف هذا الهامش أن امرأة الجبل امرأة مخصوصة، معلومة، محددة الاسم والهوية، ولها صلة مباشرة بالكاتب، يكشف أيضا أن كلمات التعويبة تخصها وحدها، أو لعلها ليست مما يحظى بانتشار واسع بين جمهور عريض، أو ربما تسكن ذاكرة الكاتب وحده، لذلك اختار لها الهامش موقعا وليس المتن، جاعلا من المتن مساحة للمشترك بينه وبين القارئ وليس للخاص في أضيق دوائره، غير أننا نفهم كذلك أن الهامش يقول أكثر مما يقوله المتن، وأنه أكثر كشفا ودلالة. ولكنْ بالعودة إلى كلمات التعويبة نفسها، نجد أنَّ لا صلة مباشرة تصلها بموضوع المتن ومادته، ولهذا وحده أنزلها الكاتب موقع الهامش، فلا يُتوقع أن تثير في نفس المتلقي أي تأثير منتظر بسبب وجودها خارج إطار المشترك كما تقدم، وهكذا تعطلت أهمية وجودها في المتن لتعطّل وظيفتها.

استدعاء أسماء فنانين:

في نصوص حمود سعود تحضر أسماء فنية عدّة، منها أبو بكر سالم ومحمد عبده وهاني شاكر وآخرون، ولكن أهمها هو اسم الفنان ميحد حمد، الذي يستدعي ذكر اسمه وحده صورة حياة البَر والسيح وسيارة البيك أب. يقول السارد في نص «موسم الضوء وحصاد الضجر» واصفا تأثر الشخصية بسماع ميحد حمد: «تماهى كثيييييييرا مع صوت ميحد حمد، وسافر مع صوت ميحد إلى الطفولة، إلى البيك أب بو غمارة في السيوح، إلى رائحة القهوة المطبوخة بحطب السمر. سافر مع الغبار المتطاير في الطرق المتعرجة الطويلة» (الغابة، ص62). لم يكن الكاتب بحاجة إلى استحضار أغنية بعينها بينما يتحدث عن ميحد حمد، وإنما يستدعي كل أغانيه والصور التي تثيرها دفعة واحدة بمجرد ذكر اسمه، تاركا للقارئ أن يتخير من هذا الاختزال الكبير ما يشاء، وتنتقي ذاكرته ما يتوافق مع صور السيح، وسيارة البيك أب، والغبار المتطاير، ورائحة القهوة المطبوخة بحطب السمر. وكلها صور تجد طريقها إلى مخيلة القارئ بسهولة من دون الحاجة إلى تحديد أغنية بعينها، لاسيما أن أغاني ميحد حمد، فرادى أو مجتمعة، باستطاعتها أن تخلق حالة مشابهة. وبسبب ارتباط ميحد حمد بهذه الصورة، نسمع طفلا يقول لأقرانه في نص «مرثية أولى للظل»: «أنا راح أشتري بيك أب، وأشغّل ميحد حمد. وما أركبكم في سيارتي» (الغابة، ص9).

ولكنه عندما استهدف ذكرى خاصة، وجدناه يخصص أغنية بعينها كما في نص «موسم الضوء وحصاد الضجر»: «في إحدى أغاني ميحد حمد يرد اسم ميحد، فيتذكر أخاه محمد صديق طفولته الوحيد، الذي رسم معه أحلاما كثيرة، ومارسا شقاوات أكثر من عدد نخيل قريتهما» (الغابة، ص62). لا يغيب عن القارئ أن اسم ميحد ليس هو نفسه اسم محمد، وإن اشتركا في الجذر الواحد، ولكنّ دلالات أخرى يستطيع القارئ أن يؤول بها هذا الربط الذي لم يفصح عن كثير، أولها ربما: أن أخاه محمدا يحب ميحد حمد أيضا، لا سيما هذه الأغنية بالذات التي تذكر اسم ميحد.

يتمدد المعنى المنبثق من الأغنية، ويمنح ظلالا وإيحاءات أكثر مما في وسع اللغة وحدها أن تفعل؛ لأن الأغنيات تختصر الطريق إلى المشاعر المراد استثارتها، وتذهب إلى المعنى مباشرة، فهي تستهدف التجربة السابقة للقارئ، وتستحثه ليقطع مسافة باتجاه النص بقدر المسافة التي يقطعها النص باتجاه القارئ. يخبرنا السارد بذلك بينما يصف تماهي الشخصية في النص مع صوت ميحد حمد: «الكائن يتماهى الآن مع صوت ميحد حمد، تتساقط عليه كل الذكريات والأحلام» (الغابة، ص62)

الغناء خلفية نصية، وظلال لغوية:

إلى جانب التوظيفين السالفين، يسود توظيف ثالث في مجمل سرد حمود سعود، وهو حضور لفظة الغناء بتنويعات مختلفة، وفي مواقف شتى، حتى توشك أن تكون لازمة سردية قلّما يخلو منها سياق. وفي مجموعته «المرأة العائدة من الغابة تغني» وحدها، أحصينا – بخلاف الأمثلة التي سبقت حتى الآن – أكثر من 30 موضعا آخر وردت فيها لفظة الغناء باشتقاقاتها وتنويعاتها في كتاب لا تتجاوز صفحاته 95 صفحة. وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة حسب تسلسل ورودها في الكتاب:

- تطير الطفولة، وتهبط على تضاريس المكان. أطل على بيوت الطين، أطل على رائحة القهوة، وهي تفوح من البيوت الطينية ومن أغاني الفلاحين في القُرى والضواحي ومن أغاني الرعاة، يمتزج الطين بالقهوة وبرائحة الصباح (ص11)

- أطلُّ من بعيد على طفل يهرب في/ وعن ضواحي النخيل يصرخ ويصرخ ويُغنّي في النهاية لكل شيء. يغنّي للمطر ورائحة البِلّ. يغنّي للغيوم العابرة في سماء الجفاف: طفولتنا تشبه امرأة تركناها في الجبال لتحرس عزلة الرعاة، عاد الرعاة ليلا، ولم ترجع طفولتنا. ظلت أغنية تحفظ الجبال والنخيل والمقابر صوت صداها. (ص14)

- كان الطفل ينجذب للأفلام الهندية. تدهشه أغاني الهند ورقصات صباياها، وسهولها، والبطل الذي لا يموت (ص15)

- كنتِ تحبين الغيوم، وكلما مرت غيمة كنتِ تغنين لها، تعشقين فستانك الأبيض، يدهشك البياض يا فدوى، ولكن الموت ليس أبيض دائما يا فدوى (ص26)

- كل فجر يا أبي ستجدني في الجانب الأيسر من المقبرة، بالقرب من الطريق، أغنّي لك (ص28)

- تقطع المسافة بين بيوت القرية إلى بداية الجبال صباحا، وتطلق القطيع ليرعى في الجبال، وتطلق صوتها بالغناء للجبال (ص31)

- أخذت زوّادتها وقادت القطيع، وأطلقت أغانيها للجبال (ص32)

- لعبوا وغنّوا وفجّروا بضحكاتهم الماء والجبال وعزلة المكان (ص34)

- امتزجت روحانا في دروب بيروت، وفي عيد ميلادك العشرين، والجبال البعيدة، وشاي المساء في المخيم، وفي القصائد والأغاني، في عدن والقاهرة وبغداد ودمشق، وانصهرت الروح في العاطفة والعاصفة الممتزجة بالدم والحلم وصوت الرصاص ورائحة الحرب (ص35)

- وفي السجن البحري كذلك غنّيت لك كل أغاني الحلم والشوق والحزن والحنين. كنت أنادي روحك في الجنوب، كنت أزرع في كل مساء أغنية. (ص36)

- أيها الجنوب يا صلاة الحلم الأول، ويا أغنية الغريب، كن كما أنت شامخا بالحب وبالحب وبالحب. (ص36)

- المقهى ربما يجمع عاشقَين، أو لصّين، أو شاعرين، أو شاعرا وفكرة، أو رجلا وخيبة، أو امرأة وأغنية (ص38)

- وحدك في الصباح، أنت سيد المقهى والمكان، من سقف المقهى تنساب أغنية، ومن كلمات الأغنية ينهمر حنين امرأة لرجل في المنفى (ص42)

- المدة التي قضيتها في بلاد «ما وراء الشمس» سأقضي مثلها في بلاد تستحم بالمطر والفرح وبالأغنيات (ص50)

- في البلاد التي تستحم بالشمس والأغاني، هناك ستقودني امرأة إلى النبع، وتغسل قلبي بأغاني الجبال (ص50)

- المكان بارد، صوت أغان متنوعة ... ينزل عليه من السقف (ص53)

- نزل الضجر والصمت القاتل عليه من السقف، ونزلت أغاني العمر الجديد (ص53)

- من نافذة الغرفة أسمع موسيقى المطر تسقط على الأشجار (ص60)

- إنها الليلة الأولى، موسم الضجر الليليّ. عندما تصمت الأغاني لا يجد شيئا ينصت إليه سوى روحه (ص64)

- الطريق في الصباح والليل، أفكر في الأفكار والأشخاص والقصص التي لم أكتبها، في الفرح الصغير، وفي الخوف، وفي الحذاء المفقود في الحلم، وفي المرأة التي تُغني في أعالي الجبال (ص65)

- أيتها الطرق كم أنتِ طويلة وشاقة. في طريقي إلى الحياة رأيت طرقا كثيرة: طريقا يوصلك إلى نفسك، وطريقا يوصلك إلى المتاهة، وطريقا يوصلك إلى فوهة الموسيقى، وطريقا يتركك معلقا في المعنى، وطريقا يزرع الشك واليقين فيك (ص65)

- تمدد على فراشه، تأمل سقف الزنزانة، شعر ببرودة الجو كثيرا. صدحت الأغاني مرة أخرى، كان قد طلب منهم البارحة مصحفا ولم يردوا عليه. حاول أن ينصت لكلمات الأغاني، أعجبته ألحانها، هي طريقة لطرد ضجر الزنزانة وصمتها (ص66)

- في الطريق الممتد بين الجبال والماء، وفي الحافلة الصباحية التي تخرج من العاصمة كتمندو إلى بخارا، يضع المسافر سماعة الهاتف في أذنيه يسمع أغاني لغته، تدهشه الصور الصباحية الخاطفة للعابرين (ص84، 85)

- رجل عجوز يحاول أن يصيد رزقه من البحيرة، يُغري الأسماك بالأغاني التي يترنم بها (ص86)

- ستدخل الشابة الروسية في الثامنة والنصف، وتطل قهوة وسجائر، وستدفن وجهها في حاسوبها، وتندمج مع أغاني بلادها، تشرب عبوات الهمالايا، تمد رجليها العاريتين، تطلب وجبة للكلب الجائع تحت طاولتها (ص86)

- يرقد عراقيون عائدون من الحرب في غرف المستشفى، يحملون خيبات حروبهم التاريخية، وكوابيسهم الليلية، وأصوات دمارهم الأزلي. بالقرب منهم يرقد زعماء حرب أفارقة. يجرّون أطرافهم المبتورة، وأغاني الحروب الخاسرة (ص87)

- رجع الجندي المهزوم بجروحه وشظايا جسده إلى الشمال يجر أحلامه وأغاني الرصاص (ص89)

- في كل ليلة كان يغني لها أغاني الجنوب المفقود (ص89)

- تسمعه من هاتفها أغنية سودانية، يدندن مع الأغنية، يثمر عشب الكلام الممتد في ممرات المستشفى وحديقته أغنية حب بينهما (ص89)

- في إحدى التلال القريبة من المعسكر – المعسكر الذي أحببت فيه الأغاني والخبز الإيرانيين – سمعت انفجارا ضخما، دم وتراب وحديد وطلقات رصاص (ص91)

- في البحرين دخل لأول مرة في حياته إلى سينما، وسمع أغاني كثيرة (ص92)

في النماذج أعلاه، نتبين مجموعة من الخصائص المرتبطة بتوظيف ظلال الغناء ومفرداته في كتابة حمود سعود، وهي سمات قد تنطبق على إصداراته الأخرى التي سنقاربها في الحلقات القادمة، ومن تلك السمات:

- ليس للأغنية سياق خاص، ولكنها ترد في كل السياقات حتى تلك التي تبدو أنها لا تلائمها، مثل قوله «أغاني الرصاص».

- تتحرر الأغنية من صفتها كلمة ولحنا، لتتوسع لتغدو تعبيرا شعوريا يعجز عنه الكلام، كما في قوله في وصف صراخه طفلا «أطلُّ من بعيد على طفل يهرب في/ وعن ضواحي النخيل يصرخ ويصرخ ويُغنّي في النهاية لكل شيء»

- لا أحد مستبعد من فعل الغناء؛ فالعجوز ليس أقل قدرة على الغناء من المرأة في الجبال، كم أن للحروب أغنيات مثل الحب تماما، حتى تلك الحروب المكللة بالهزائم، كل شيء قابل لأن ينطق بالغناء، ومثاله: «يرقد عراقيون عائدون من الحرب في غرف المستشفى، يحملون خيبات حروبهم التاريخية، وكوابيسهم الليلية، وأصوات دمارهم الأزلي. بالقرب منهم يرقد زعماء حرب أفارقة. يجرّون أطرافهم المبتورة، وأغاني الحروب الخاسرة».

- يتحول الغناء إلى وسيلة تعذيب، فالجلاد يستخدم الغناء والموسيقى لتعذيب ضحاياه، كما في المثال: «تمدد على فراشه، تأمل سقف الزنزانة، شعر ببرودة الجو كثيرا. صدحت الأغاني مرة أخرى، كان قد طلب منهم البارحة مصحفا ولم يردوا عليه. حاول أن ينصت لكلمات الأغاني، أعجبته ألحانها هي طريقة لطرد ضجر الزنزانة وصمتها».

- ترد لفظة الغناء وتنويعاتها واشتقاقاتها بداعي الإيقاع وحده أحيانا، أو بفعل تلذذ الكاتب بالكلمة من دون أن تكون الحاجة إليها ملحة، ومثاله: «المقهى ربما يجمع عاشقَين، أو لصّين، أو شاعرين، أو شاعرا وفكرة، أو رجلا وخيبة، أو امرأة وأغنية».

كل ما سبق، يمكن عدّه مدخلا واسعا نقيس به ما سيأتي من كتابات حمود سعود السردية التي سنقاربها في الحلقات القادمة تحت هذا الباب، لعلنا نقف على أشكال أخرى من التوظيف، أو تكريس للأشكال التي مرت بنا هنا. ولكن المؤكد أن الأغنية التي حضرت في كتاب «المرأة العائدة من العائدة تغني» ما تزال لديها ما تقوله في الحلقات القادمة.

منى السليمي كاتب وباحثة عمانية