المرء في حياته ضيف راحل له مدة محددة ثم يذهب. والناس في فترة معيشتهم يمكن تقسيمهم لثلاثة أصناف: منهم من يغلب عليه سوء الفعل وبذاءة القول وليس في صفاته وصنائعه من الجيد إلا القليل ولذلك لا يجد من ملازميه ثناء وحمدا وإطراء لأنه في معظم أوقاته لم يقدم إلا الكيد والمشاحنة والإضرار بالناس. وصنف ثان صلته بالناس شبه مقطوعة ولا يكاد يرى منه إزعاج ولا نفع ولا يسمع في كلامه ما يرضي أو يسخط وإنما هو متشرنق في ذاته لا يكاد يخرج منها، وأحلى لحظاته البعد، وعدم المخالطة؛ ولذلك لا يشعر به أحد إن غاب أو ظهر وليس لدى الناس ما يقولونه عنه ومع ذلك يعد أفضل من ذلك المؤذي الذي قل من يسلم من مخاصمته وعدوانيته وفحش منطقه. أما الصنف الثالث فهو السوي الذي يصيب ويخطئ ويرضى ويسخط ولكنه يمتاز بطيب الخلق وحسن المعاملة لا تراه إلا بشوشا باسم الثغر يتوسط المجتمع مندمجا فيه ومشاركا في أفراحه وأتراحه يأتي منه النفع والمعاونة على الأكثر مبادرا دوما للإصلاح مما يدفع الجمع لتقديره والثناء عليه والإشادة به في حياته أو بعد رحيله.

وأزعم أن من هذا الصنف الأخير عزيزنا الراحل هلال العامري الذي امتلأت الصحف ومواقع التواصل الإلكترونية بتمجيد ذكره وبيان كريم صفاته وإبراز سيرته بكل ما فيها من أفعال حميدة وإنجازات حسنة أوشك الكل أن يجمع عليها مع اختلاف توجهاتهم ورؤاهم. وجميعهم يتذكر مواقفه الطيبة وأخلاقه الرائعة وابتسامته المشرقة ولدى كل واحد منهم قصة معه تحكي شيئا من تلقائيته وصفاء نفسه. وإن اقتصرنا الوقوف عند مشتركي الملتقى الأدبي فقط فسنجد من الحديث ما يملأ الصفحات عن كل ما نالوه منه من جميل الرعاية أثناء ذلك الملتقى في نزوى أو صلالة أو خصب أو صور أو صحار مع سعة احتماله وتجاوزه عن الزلات والسعي لإرضاء الجميع وتوفير الممكنات من مطالبهم وتيسير الأمور لهم في رعاية أبوية يتخللها النصح والتوجيه واللطف وتلبية المستطاع بابتسامة شفافة صافية نابعة من القلب وممازحات متجددة فيها الكثير من المودة والارتياح. وهذا الثناء الذي اتفق الأكثر عليه يؤكد أن الراحل الكريم كان من تلك الصفوة، وأذكر أنه كان يكرر لي الدعوة لشهود ذلك الملتقى مرة بعد مرة ولكنّ ظروفي حينها لم تسعفني إلا بحضور دورتين فقط إحداهما في صحار والثانية في خصب وقد طلب مني فيها إلقاء محاضرة عن شاعرنا الكبير الشيخ عبدالله الخليلي، وكانت محاضرة مطولة. وقد اسهم ذلك الملتقى في دوراته المتعددة التي تجاوزت العشر بإفادة الشباب المشاركين فيه وتطوير تجاربهم الأدبية من خلال محاضرات وندوات الدكاترة الأكاديميين من أساتذة جامعة السلطان قابوس أو ممن يدعون أحيانا من خارج البلاد إضافة إلى التقاء الشباب معا وتعرفهم على إبداعات بعضهم.

وهلال العامري كان شاعرا وله عدة دواوين جمعها لاحقا في إصدار واحد ظهر في مجلد ضخم أهداني نسخة منه. وكان يلقي على الشباب من أشعاره في بعض الأمسيات وهو آسر حين يتحدث، يمتع الحضور ببليغ الكلام فيما يشبه المحاضرات عن الأدب ومجالاته وعن المبدعين وقصصهم وأنواع أقوالهم وعن قراءاته الفاحصة وملاحظاته حولها. وهو من قارئي الأدب بعمق وتذوق واستيعاب ويفتح في أوقات أخرى حوارات عن الأدب وشجونه يبادلهم فيها تجاذب القول عن قضية من قضايا الأدب أو عن روائي أو كاتب كبير أو شاعر من أمثال نجيب محفوظ أو عبدالرحمن منيف أو الجواهري أو شوقي أو نزار أو محمود درويش وكل واحد منهم يأتي بما لديه بمشاركة منه في نقاش مفتوح حر لا رقابة فيه. وحوار كهذا لعله من الأشياء التي وثقت علاقتهم به ومع الشعر كان العامري كاتبا وله مقال أسبوعي ينشره في جريدة الوطن تحت عنوان «استراحة في زمن القلق» طبعته الهيئة المصرية للكتاب فيما بعد في كتيب بهذا المسمى. ودرس هلال العامري في بداياته بعد القرآن الكريم بجامع سمائل الذي كان يغص بعلماء النحو والأدب والفقه قبل أن يخرج للالتحاق بالمدارس العصرية خارج عمان ما أعطاه مكنة في اللغة العربية قادته إلى الشعر والأدب. ومجتمع سمائل وقتها زاخر بالشعر لدى الأساتذة ولدى طلابهم وحتى لدى العلماء الكبار الذين هم القمة العليا في مختلف العلوم الدينية واللغوية. ثم بعد حصوله على الشهادة الثانوية توجه لأميركا للدراسة الجامعية وعند عودته تم توظيفه بمكتب محافظ ظفار ومن هناك إلى التلفزيون ليكون مديرا عاما له لفترة من الزمن ابتعث خلالها إلى بريطانيا لدراسة أمور التلفزيون ولكنه بعد إتمام دراسته وعودته لم يمكث طويلا بالتلفزيون وإنما أخذته الوظيفة إلى مجال آخر مختلف ليجد نفسه في الجامعة مع بداية افتتاحها مساعدا لأمين عام الشئون الأكاديمية وقد أمضى سنوات بتلك الوظيفة باذلا أقصى الجهد زمن التأسيس ومستلزماته. ثم جاءه الطلب هذه المرة من قطاع الشباب ليتولى الإشراف على الأنشطة غير الرياضية حيث قام بالإسهام في تطوير الجوانب الثقافية وتعزيزها وإضافة فروع أخرى لتزدهر الثقافة والفنون في الأندية وليسطع لمعان أضوائها في أكثر من جانب أو مجال فقد برز المسرح وشعت أسماء نجومه وتعالت أصوات صداح الموسيقى وملحنيها ومغنيها وتطورت كثيرا الفنون التشكيلية والرسم والتصوير وانطلقت صنوف الإبداع القولي من شعر وقصة ومقال وتجدد التنافس في المسابقات الثقافية والأدبية وتكررت المحاضرات المهمة يقدمها أعلام الفكر والثقافة العرب وهذا النجاح المتسع ربما كان وراء نظرة المسؤولين للاستعانة به في وزارة التراث فتم نقله وتعيينه مديرا عاما للثقافة بها ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في سجل أبي الليث الوظيفي إذ استمر في ذلك المنصب طيلة السنوات كلها إلى أن خرج للتقاعد لتتلقفه منذ ذاك متواليات الأمراض المضنية التي أرهقته وحطمت جسده طعنة بعد أخرى وهو يواجه هجماتها العنيفة بصبر راسخ وجلد ثابت ونفس مطمئنة وابتسامة تملأ الكون صمودا وعزيمة صلدة.

كانت معرفتي الأولى بالأستاذ هلال العامري عن طريق السماع من مريديه يوم كان مديرا عاما للتلفزيون وكنت ملحقا ثقافيا بسفارة عمان بالبحرين في أوائل ثمانينات القرن العشرين وكانوا يتوافدون علي هناك مكررين إطرائهم له وإعجابهم به ومن بينهم على ما أذكر المذيع سعيد بن محمد الزدجالي الذي كان مفتونا بشخصيته ويشيد به أعظم الإشادة. وقبل التقائي إياه كنت متلهفا لذلك بسبب ما بلغني عنه وكان لقاءنا في النادي الثقافي وقد صار هو نائبا لرئيس الإدارة فيه وقد سعدت فعلا بالتعرف عليه وجها لوجه وامتد الحديث بيننا لأكثر من ساعة كما لو كنا على علاقة سابقة من قبل ومن لحظتها نشأت صداقتنا واستمرت مع الأيام وتوطدت حتى وافاه الأجل المحتوم وأنا لاحق به بعد حين لا محالة.

وجاءني في البحرين عقب تعارفنا بأشهر مع رفاق له من مجلس الإدارة ضمن جولة خليجية يستهدفون منها اللقاء مع المؤسسات النظيرة للتعريف بالنادي وللاطلاع على برامج وفعاليات تلك المؤسسات وكان مرورهم قبل البحرين على أبو ظبي وقطر ومن ثم إلى الرياض والكويت وزاروا في البحرين أسرة الكتاب ووزارة الإعلام ونادي الخريجين والجامعات وبعض الشخصيات الأدبية والصحفية والأكاديمية منهم الأستاذ إبراهيم العريض الشاعر والناقد والمثقف الكبير المخضرم والشاعر الكبير الشيخ أحمد بن محمد الخليفة والدكتور محمد جابر الأنصاري والدكتور علوي الهاشمي والأستاذ علي سيار وأسماء أخرى وعندما تركت البحرين راجعا إلى مسقط جمعتنا لقاءات كثيرة متعددة في النادي الثقافي وفي سواه. وأثناء وجوده كنائب لرئيس النادي تقرر إقامة ما سمي بمجلس الثلاثاء مرة في الشهر يحضره معظم الكتاب والمهتمين بالثقافة ويستضاف فيه أعلام من خارج البلاد وتجري فيه نقاشات وحوارات حول الأدب والفكر وكان هو نجم ذلك المجلس متداخلا ومعقبا ورغب ذات مرة في عقد لقاء أسبوعي مسائي بمنزله بالقرم فوافقنا شريطة أن لا يكون في اللقاء عشاء وإنما القهوة العمانية المعهودة.. ولكن عند اجتماعنا وجدنا مائدة كبيرة عامرة بأطباق الطعام فعاتبناه على عدم الوفاء بالشرط وهددنا بمقاطعة الجلسة في قابل الأيام إن لم يلبي اشتراطنا. وكان الحضور يتألف من عدد كبير منهم الشعراء محمود الخصيبي وسيف الرحبي ومحمد الحارثي وسعيد الصقلاوي والدكتور أحمد درويش مع مجموعة من زملائه أساتذة الجامعة والكاتب أحمد تسن وثلة من الشعراء والأدباء الآخرين ولكن المائدة لم تختفي وظلت مستمرة الأسبوع الثاني والذي بعده فقررت وعدد من الأصدقاء تنفيذ تهديدنا وعدم الحضور وكتب الدكتور درويش قصيدة يهجوني فيها ومن معي من الغائبين كان عنوانها «شقائق النعمان في هجاء الإخوان» ومنها.

أي شيء فعلته يا فلاحي

حين فرقت جمعنا في الرياح

فاتك الشعر والهريسة والموز

وجلسة حسنها أريج الأقاح

وأبو الليث يتبع الصحن بالصحن

لئما من تبادروا للرواح

ما اكتفى الشيخ بالنكوص وحيدا

وسرى مسرعا يؤم «الضواحي»

إنما الرهط تابعوه فزلوا

لم يسير وأعلى طريق الفلاح

ذاك سيف الرحبي ولى مجدا

تارك صحبه بغير ارتياح

هكذا الحارثي غاب وغاب الجعفري

وسعيد وتابعيهم تخلفوا في النواحي

ذهبوا والفلاحي زعيم

سامح الله من أطاع الفلاحي

وهذه المسألة يتجلى فيها كرم العامري الباذخ وسجية نفسه السمحة وتتابع مجيء هلال العامري للقاهرة حين كنت هناك سنة 1990م وما بعدها في مهمات رسمية أو زيارات خاصة وهو محب لمصر وعاشق لها وله فيها أصدقاء وأحباب كثر يسعدون به ويجلونه لعل من أبرزهم وقتها د. سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب وعشرات غيره وكنت من ناحيتي اصطحبه لزيارة أصدقائي أمثال د. علي الدين هلال ود. جابر عصفور ود. عبدالقادر القط والأستاذ رجاء النقاش والأستاذ جمال الغيطاني والدكتور جمال زكريا وكثير غيرهم وكنا نقطع طرق القاهرة في الليالي مشيا على أرجلنا نجول في ميادين التحرير وطلعت حرب وأحياء السيدة زينب والأزهر والحسين وخان الخليلي مستمتعين بأحاديث متنوعة لا تكاد تنقطع عن عمان وعن مصر والعرب وعن شجون ذاتية فيها الكثير من البوح والشكوى ومعاتبة الحظ الذي كثيرا ما يخطئ ولا يقدر جهد العاملين للوطن بإخلاص في حين يتسامى كثير من المنافقين والمتشدقين في أعالي المناصب وهم لا يحفلون بالوطن وحقوقه قدر احتفالهم بمصالحهم الذاتية. ولما عدت إلى الوطن كنا على تواصل شبه دائم يهاتفني إن تأخر اللقاء ويدعوني لجلسة في أحد المقاهي وحدنا أو مع أصدقاء ليتواصل الحديث من حيث بدأ ويوم اشتد عليه المرض ونقل للعلاج في الصين واستمر هناك لفترة طويلة لعلها قاربت العام كنت اتصل بزوجته أم ليث أو بابنه ليث وأحيانا بصهره محمد الرواحي لأطمئن على حالته وأتعرف على ظروفه إلى أن عاد وتحسنت حالته وبدأ يحضر فعاليات النادي الثقافي ويجلس مع أصدقائه في المقاهي وإن ظل المرض يواصل غزواته المفاجئة بين الفينة والفينة ولكنه يتغلب عليه وينسل منه مجددا اجتماعه مع أصحابه وهكذا إلى أن حان موعد الانصراف إلى اللاعودة وفوجئنا بمن يبلغنا الخبر والموت قهار لا يمكن رده إذا جاء الموعد المحدد والكل منا ماش على ذات الدرب نلقاه من حيث لا ندري متأهب لاقتناصنا كيف يريد ومتى «تعددت الأسباب والموت واحد».

وسلام عليك يا هلال العامري أنت سبقت ونحن على خطاك نسير كما سار من قبلنا الآباء والأجداد.

«صاح هذي قبورنا تملأ الرحب

فأين القبور من عهد عاد»

مقاطع من أشعار هلال العامري

وللشعر أهتف: يا أيها الشعر

يا منتهى نبضات التمرد

يا قمر العتمة الحالكة

تمثل سويا وأوقف بياض التشابه فينا

عيون القريض التي جوفتها السنون

فعادت ترابا لأمتنا الهالكة

وللشعر أهتف: يا أيها الشعر

يا منتهى صوتنا

تمثل وأوقف زمان التشابه منذ الصعاليك فينا

وحتى عصور الدويلات والأمم البائدة

***

لك الله يا أيها الشعر

حين تصوغ برمزك أحلامنا

وتعبر تعبر تعبر رغم الصعوبات

كل الدروب التي أصبحت شائكة.

2-هدأة في زمن القلق

اهدئي.. اهدئي

أنا لا أريد كلاما

فالصمت أحلى

وعيناك قد قاسمتني غراما

أهرب منها إليها

كالطفل يأبى فطاما

دعي الحوار لعينيّ

دعي الكلام لصمتي

فقد أصبتِ سهاما

أنا لا أطيق كلاما

دعي التحدث عني

فعنك يغني الكلاما

3-الفارس المدجج

القمر الساكن في عينيك

يغسل أجساد الموتى

يؤوي الأيتام ويحرسهم

يغرس فيهم حب الإنسان

الصمت النابع في عينيك

ينتشل الثكلى من مضجعها

يحرس آلاف القتلى

يحمل آلاف الأكفان