يعتمد يونيسكو الحوارات التي تدور بين الشخصيات وكأنها ردود لحوارات أخرى في عوالم مغايرة

السخرية لدى يونيسكو تكون في الغالب محكية في الحوارات المبتورة، بينما يتجه بيكت إلى سخرية من تأزم الموقف

يحاول مسرح العبث فضح تفاهة ما يُعتَقد أنه قيمة عالية في هذه الحياة

في أوائل الخمسينيات وفي أماكن متفرقة في عالمٍ أنهكته الحرب، كانت مجموعة من الشبان يدفعون إلى خشبة المسرح روحًا جديدة يتفق الكثيرون أن الوضع الذي خلفته الحروب كان السبب الرئيس في نشوئها، حين أدرك صامويل بيكت ويوجين يونيسكو وآرثر أدموف وغيرهم من الأدباء ألا وجود لفائز أو خاسر بعد كل ذلك الدمار، وأن الإنسان العدو قتل الإنسان العدو الآخر، في سلسلة من العبث الذي لا ينتهي. فما كان بهم إلا أن دفعوا بكل تلك الأسئلة العبثية العميقة إلى خشبة المسرح. أسئلة تتنكر للثوابت متجاهلةً كل الأطر التي وضعت للعرض المسرحي.

قدم يونيسكو أكثر من ثلاثين نصًا مسرحيًا، لم يكن يدرك عند كتابته لنصه الأول أنه سيتحول إلى واحدٍ من أعظم كتاب القرن العشرين، فرائعته (المغنية الصلعاء) التي كتبها في بداية الأربعينات وعرضت في مطلع الخمسينات قدمت على ذات الخشبة لعشرات الآلاف من المرات بشكل متتالٍ وبإخراج واحد، وهي لا تزال تقدم إلى يومنا هذا على نفس الخشبة، ضاربةً رقمًا قياسيًا في عدد العروض لمسرحية واحدة. كتب هذا النص بعد أن قرر دراسة اللغة الإنجليزية ليضيفها إلى جانب لغته الأم الرومانية واللغة الفرنسية التي بات يتقنها وكأنه ابنها؛ حينها توصل إلى قناعة تامة أن جميع اللغات لن تتمكن بجملها المبتورة الدالة على حقيقة ثابتة، لن تتمكن من التعبير عن الحقيقة الغائبة التي يسعى الإنسان إلى الوصول إليها، ولذلك نجد أن نصوص يونيسكو مليئة بالثرثرة المكونة من جمل مبتورة بحوارات مبتذلة بين الشخصيات، إن هذه الخاصية في المسرح العبثي إشارة قوية إلى أن الإنسان المحاط بالعدم - رغم محاولاته الكبيرة لتبرير الواقع الذي يعيشه - لا يستطيع الوصول إلى أية حقيقة، فالمعنى دائمًا أقوى بكثير من تلك القوالب التي يسكب فيها، نجد يونيسكو يتعمد الحوارات التي تدور بين الشخصيات وكأنها ردود لحوارات أخرى في عوالم مغايرة. ترجمت نصوص يونيسكو إلى العديد من اللغات وعرضت حول العالم ولا تزال تعرض إلى يومنا هذا.

واحدة من أهم هذه النصوص مسرحية الكراسي التي كتبها يونيسكو في عام 1952، مفجرًا في الأذهان - كعادة مسرح العبث - الكثير من الأسئلة والألغاز ربما لا توجد أجوبة عليها، واختار لهذا الرمز شخصيتي زوجين مضى على زواجهما 75 عامًا، في تكثيف هائل لفكرة الحياة اللغز التي يريد يونيسكو أن يسلط الضوء منذ الوهلة الأولى للمسرحية عليها، باثًا اضطراب الشخصيات النفسي منذ اللحظات الأولى، فالزوج يترقب وصول ضيوف كثر، حتى يبلغهم رسالته التي خلص إليها قبل أن يرحل من هذا العالم، تلك الرسالة التي فيها خلاص العالم كله، يجدر القول إن أحد أهم السمات في مسرح العبث غياب الحبكة التقليدية فليس ثمة حبكة في الأمر، والأحداث اللامعقولة ستتوالى في هذه المسرحية، بشكل متسارع لتشكل صراعًا من نوع آخر، زوجان ينعزلان عن العالم كله في مكان سيتضح لاحقًا أن الوصول إليه يتطلب زورقًا ولا يصله إلا القليل من الناس، وعلى الرغم من أن الزوجين يتناصفان الحضور على الخشبة، إلا أن الزوجة لم تكن إلا بعدًا نفسيًا آخر لزوجها، وربما ذلك يبرر حضور اسمها (سميراميس) وغياب اسمه هو، فهي توافقه على كل شيء ولا تعارضه، حتى عندما يبدو مترددا في شيء، لم تكن تكبح تردده، إنما كانت تعمق ذلك التردد والاضطراب باضطراب مماثل، بل إنها تتحول في مرحلة متأخرة في النص إلى مجرد صدى لكلامه، وعلى ذلك يمكننا القول إن استمرار تذكيرها له وبشكل لطيف جدًا أن غياب الطموح حال بينه وبين أن يصبح زعيمًا في الكثير من المجالات، رغم تمتعه بالعديد من المواهب والمزايا على مر سني العمر، لم يكن إلا صوتًا داخليًا يتردد بعد أن وصل إلى نهاية العمر، وكان يرد على ذلك بأنه كان زعيم مساكن، فقد كان يعمل حارسًا، في إحالة مميزة إلى فكرة عبثية السعي نحو الظهور الزائف من خلال ما يسمى بالطموح.

تطلب الزوجة بإلحاح من زوجها المتذمر أن يقص عليها حكاية (واصلنا الضحك) التي يقصها كل ليلة منذ أول يوم في زواجهما، إنها قصة حياتهما التي لم تكن يومًا مضحكة، فباريس التي تدور فيها الحكاية انهارت منذ مئات من السنين وما بقي منها سوى أغنية، والطرق المفضية إلى القرية المنسية، أبوابها مغلقة في وجوههم، عشب مبلل وبرد شديد، ورجل عارٍ ينكفئ على بطنه؛ أما هما فكانا يضحكان ويواصلان الضحك. إنها رحلة الحياة التي لا توصلك إلى أي مكان، رحلة لا يدفعك الحزن فيها إلا لمواصلة الضحك. إن هذا الملمح في المسرحية هو الذي يميز نوعًا ما يونيسكو عن بيكت، فالسخرية لدى يونيسكو تكون في الغالب محكية في الحوارات المبتورة، بينما يتجه بيكت إلى سخرية من تأزم الموقف كما هو الحال في نصه (في انتظار جودو).

وفي تكريس هائل لثيمة غياب الزمان والمكان؛ لا تكتمل الحوارات التي تدور بين الزوجين، جمل مبتورة بينهما تغلقها الزوجة بعبارة: (أينما كان يا حبيبي، فقد كنت سأتبعك إلى أي مكان، في كل مكان) فلا أهمية للزمان أو المكان في حكايتهما، إنما المهم على الإطلاق هي تلك الرسالة التي يريد أن يبلغها الزوج للإنسانية، والتي دعي إليها كل الناس (الملاك، والعلماء، والحراس والأساقفة، والكيميائيون والنحاسيون، والعازفون، والمفوضون، والرؤساء...) لقد دعا (كل من كان على قدر من العلم والملكية) كلهم مدعوون ليستمعوا إلى رسالته التي يكاد يختنق بها، تلك الرسالة التي لا يستطيع التعبير عنها فقام باستئجار خطيبٍ ليتكلم بالنيابة عنه، يشتد اضطراب الزوجين عندما يقترب موعد حضور الضيوف، ويبدأ توافد الضيوف بشكل بسيط في البداية، غير أن هؤلاء الضيوف وهميون، فنحن لا نراهم ولا نسمعهم، ولا ندرك ما يقولون ويفعلون إلا من حوار الزوج وزوجته، وندرك أماكن وجودهم من الكراسي التي تبدأ بالتكدس على خشبة المسرح.

كان الأمر بسيطًا ولطيفًا للزوجين في البداية، فقد استقبلا المرأة الجميلة، والكولونيل المتحرش، والمرأة التي كان الزوج يحبها عندما كان صغيرًا وزوجها حافر الكلاشيهات، كان يدور حديث لطيف مع المرأة الجميلة، وآخر غاضب مع الكولونيل، ثم يتجزأ الحوار بين الزوج والمرأة التي كان يحبها، والزوجة وحافر الكلاشيهات، كانا يتناولان ذات الموضوعات ولكن بحقائق متناقضة تمامًا، ليتحول الحوار إلى جمل مبتورة لا تكتمل، هكذا دائمًا يحاول مسرح العبث فضح تفاهة ما يُعتَقد أنه قيمة عالية في هذه الحياة، ففي حوار الزوجة يظهر أن لهما طفلًا هجرهما لسبب قد يبدو تافهًا، بينما تدافع عن زوجها الذي كان بارًا بوالديه إلى وفاتهما، في حين يدور حوار الزوج مع المرأة حول أنه وزوجته لم يرزقا أطفالًا وأنه كان سببا في وفاة أمه التي ماتت وهي تطلب المساعدة منه بينما فضل الذهاب للرقص عوضًا عن ذلك. إن الأمر سيان لهذا الإنسان فهو محاط بالعدم، وإلى العدم سيتجه مهما كانت الطريق التي يسلكها.

وتأكيدًا من يونيسكو على سمة التكرار كواحدة من ثوابت مسرح العبث التي توحي بعبثية الأحداث في هذه الحياة وتكرارها اللامتناهي ينهمر الضيوف لاحقًا بشكل غزير جدًا وتمتلئ الخشبة بالكراسي التي ترهق الزوجة في إحضارها وتوزيعها في كل الأرجاء، وسط تساؤلها المستمر لزوجها: (من كل هؤلاء الناس يا حبيبي!)، تشتد الحركة، أصوات الزوارق والجرس والأبواب تغلق وتفتح من تلقاء نفسها، وفي تخبط مستمر ينهك الزوج والزوجة وهما يستقبلان الضيوف ويخرجان ويدخلان من الأبواب كي يحضرا الكراسي التي ملأت المكان، وعلى الرغم من أن الضيوف وهميون إلا أنك تشعر أن المكان مكتظ وأن الممثلين يجدان صعوبة بالغة في الحركة، كل ذلك يدفع بهما إلى أن يحاصرا كل بجوار نافذة في عمق المسرح ويبقيا هناك إلى نهاية المسرحية، ومنذ ذلك الوقت تبدأ الحوارات المبتورة حول كل شيء، وحول لا شيء، لا يمكن إلا أن نصفها هكذا، مع ذلك يبقى الزوج قلقًا من تأخر الخطيب الذي ينتظره ليبلغ الرسالة المهمة عنه، تلك الرسالة التي تجيب عن كل الأسئلة التي تحير الضيوف، بمختلف مكوناتهم وتطلعاتهم ورؤاهم.

كان الضيف الأخير هو الإمبراطور، وعلى الرغم من حضوره الطاغي كحدث مهم، إلا أن يونيسكو فضل أن يبقى الزوج مكبلًا في مكانه الذي حوصر فيه أخيرًا، فما استطاع الوصول إليه، إنما جعل يبث له كل شكواه من بعيد، ويعيد مرارًا أن رسالته التي ستنقذ العالم سيسمعها الإمبراطور من الخطيب الذي استأجره ليتحدث بالنيابة عنه. يحضر الخطيب أخيرًا وهو شخصية حقيقية عكس الضيوف، وبعكس الضيوف الذين بدوا واقعيين وإن كانوا غير مرئيين فإن الخطيب شخصية لا معقولة في ملابسه وحركاته وتصرفاته رغم أنه مرئي، ليجسد يونيسكو قمة العبث حتى في شخوص مسرحيته. وما إن يحضر حتى تتدفق كل سعادة الزوج شكرًا لكل شيء في هذه الحياة، في سعادة غامرة جدًا واطمئنان هائل، إلا أن رسالته العظيمة ستصل أخيرًا، وفي النهاية يلقي الزوجان بجسديهما من النافذتين منتحرين، ولا يتبقى على الخشبة سوى الكراسي والخطيب الذي يبذل كل جهده في أن يوضح للجمهور قبل أن يودعهم أنه أصم وأبكم!.

يترك يونيسكو الأبواب مشرعة أمام الجميع ليقولوا رسالة الزوج التي تنقذ العالم على لسان الخطيب الأبكم، إنها أعمق من أن يكون لها نص، لعلها كانت مبثوثة في كل الحكاية، ولعلنا جميعًا نختنق بها ولا نجد خطيبًا يقولها عنها.

بدر النبهاني مسرحي وكاتب عماني