قبل أشهر قلائل صدر كتاب «حول العالم في ثمانين كتابًا» للمؤرخ الأدبي الأمريكي ديفيد دامروش رئيس قسم الأدب المقارن في جامعة هارفارد، والمعروف بتأليف عدد من الكُتب حول الأدب العالمي المقارن من بينها «ما الأدب العالمي؟» 2003، و«كيف نقرأ الأدب العالمي؟» 2007 وغيرها، وهو ويرأس حاليا الجمعية الأمريكية للأدب المقارن. عنوان الكتاب مُستلهم من رواية جول فيرن الخيالية «حول العالم في ثمانين يوما»، ينطلق دامروش في رحلة مُتخيلة يكسر بها قيود السفر المفروضة بسبب وباء كورونا، لاستكشاف ثمانين كتابًا استثنائيًا من جميع أنحاء العالم، من لندن إلى البندقية ومن القاهرة إلى إسطنبول وطهران، مناقشا أعمال مجموعة متنوعة من الكُتاب من دانتي وفيرجينيا وولف ودانتي إلى حائزي نوبل أورهان باموك، وول سوينكا ومو يان وأولجا توكارتشوك، يستكشف كيف شكّلتْ هذه الأعمال فكرتنا عن العالم والطرائق التي ينسكب بها العالم إلى الأدب.
يقول دامروش في مقدمة الكتاب التي تحمل عنوان «رحلة خلوية»:
«في ربيع عام 1968 أعطتني معلمة اللغة الإنجليزية في الصف التاسع، الآنسة شتاتس، الكتاب الذي غيّر حياتي (حياة السيد النبيل تريسترام شاندي وآراؤه)، بعد أن وضعتُ كتاب «سيّد الخواتم» جانبًا، وهو الكتاب الذي كنتُ أقرؤه للمرة السادسة أو السابعة، فما لبثتُ أن غرقت في عالم جديد كليًا. لم أنبهر وحسب بالمناظر الطبيعية النابضة للحياة لإنجلترا في القرن الثامن عشر وعُلب السعوط والعربات التي تجرّها الخيول، ورجال المدينة المتأنقّين والخليعين، أسر انتباهي في المقام الأول العالم الخيالي الذي لم يدر بخلدي قط أن أراه. ألقى ستيرن نفسه في غمار الإمكانات اللا نهائية للرواية الحديثة، وهي شكل أدبي مختلف كليا حتى أن اسم الرواية نفسه يفصح عن حداثتها. سكب ستيرن العالم بأسره في حكايته التي تدور عن مغامرات عائلة شاندي الفاسدة، في مزيج سردي يجمع من الهجاء الاجتماعي والتكهنات الفلسفية، مدفوعا بزخم من الصخب اللفظي والتلميحات المكشوفة الخبيثة. أسرتني الرواية. أين كانت هذه الكتابة طوال حياتي طَوال الخمسة عشر عامًا الماضية؟ أين يمكنني أن أجد المزيد من الكتب المشابهة؟ كان تريسترام بمثابة مُرشدي الروحي. من بين العديد من الآراء التي تزدحم بها قصة حياته أتى ستيرن على ذكر «عزيزي رابليه» و«عزيزي سرفانتس». ولم أكن أعرف شيئًا عن أيّ منهم، ولكن ما دام تريسترام شاندي قد رآهم أسماءً جديرة بالثناء، فلا شك أنها ستكون جديرة بالثناء عندي.
يمكن للعالم الواقعي أن يجني من وراء الأدب متعًا فائقة على الصعيدين الشخصي والسياسي.
لقد بلغتُ سن الرشد بينما كانت حرب فيتنام تشرف على نهايتها، وكانت أعداد متزايدة من الشبان في سنّ الثامنة عشرة لا يزالون قيد التجنيد.
منذ ذلك الحين كرست نفسي لاستكشاف عوالم الآداب القديمة والحديثة. في الماضي ظلّ الأدب العالمي لفترة طويلة مقصورًا على حفنة من نصوص الآداب الأوروبية وحدها، بينما يشتمل الأدب العالمي اليوم على مجموعة من الأعمال الكلاسيكية، بدايةً من ملحمة جلجامش وصولا إلى حكاية جينجي والمايان بوبول فوه، وهي النصوص التي تخلو المقررات الدراسية حاليًا من أدنى أثر، اللهم إلا برامج الدراسات الأدبية المتخصصة.
صارت جوائز نوبل في الأدب وجوائز البوكر تُمنح اليوم إلى كتاب معاصرين من ثقافات شتّى مثل مو يان الصيني وأورهان باموك التركي وأولجا توكارتشوك البولندية وجوخة الحارثية العُمانية. كتبتُ كثيرا عن هذه التغييرات، لكن بصرف النظر عن كتابي عن ملحمة كلكامش فقد توجهتُ بخطابي إلى الطُلاب والباحثين. وبدأت مؤخرًا في التفكير في كيفية تقديم المشهد الأدبي اليوم إلى جمهور أوسع من القُراء، في أوروبا وخارجها. ما نوع القصة التي يجب روايتها، وكيف نعطيها شكلًا مُرضِيًا؟
الحقيقة أن الأعمال الأدبية ثمرة عالمين مختلفين تمامًا: عالم تجربة الكاتب وعالم الكُـتب. ويقدّم العالمان المواد التي يستخدمها الكُتاب ويصوغها بهدف معالجة تجاربهم المفعمة بالفوضى والألم غالبًا إلى شكل سردي متماسك ممتع. ومشروع الكتاب الحالي ليس استثناء من القاعدة، لأنه يعتمد على تجربتي في إلقاء محاضرات في حوالي خمسين دولة ويتشكل أيضًا من مجموعة متنوعة من الاستكشافات الأدبية والمغامرات الخيالية.
كنت أفكر أيضًا في أنشودة هارولد بلوم البليغة والمميزة للكتب الخالدة = The Western Canon (المعتمد الغربي في الأدب)، فقررت أن أحذو حذو بطل رواية فيرن فيليلس فوج (Phileas Fogg) بشكل مرتجل بداية من لندن شرقًا عبر آسيا والمحيط الهادئ إلى الأمريكتين، ثم العودة في نهاية المطاف إلى لندن.
في يناير 2020 كنت أخطط لرحلتي. ثم جاءت جائحة كوفيد 19، وأُلغِيَتْ حجوزات الطيران، عقب تلاحق الأحداث السريع في شيكاغو وطوكيو وهولندا وهايدلبرج وبلجراد. ماذا كنت أفكر؟ حذو بطل رواية فيرن فيليلس فوغ (Phileas Fogg). لم يغامر فيرن أبدًا خارج أوروبا طوال حياته الطويلة، ولم تطأ قدمه خارج باريس خلال أشهر عام 1872 عندما كتب روايته. لم يكن بحاجة إلى ذلك، لأنه يمكن أن يتنقل عبر أرجاء العالم في عاصمته؛ خطرت له فكرة الكتاب في مقهى في باريس، إذ قرأ تقريرًا صحفيًا عن خطوط السكك الحديدية وطرق البواخر التي تتيح للفرد التجوّل حول العالم في ثمانين يومًا. بعد ذلك خطر ببال نموذج أدبي آخر: تحفة خابيير دوي ميستر «رحلات حول حجرتي». كان مايستر أرستقراطيًا فرنسيًا شابًا خدم في جيش بيدمونت في سنة 1790 عندما عوقب لمشاركته في مبارزة، فحكم عليه القاضي بالإقامة الجبرية لمدة اثنين وأربعين يومًا في الحجر الصحي. ولما بات دو ميستر عاجزًا عن قضاء أمسياته المعتادة في معاقرة الشرب مع الأصدقاء والمقامرة ومغازلة الفاتنات الإيطاليات، قرر أن يتعامل مع غرفته على أنها عالم مصغر. فكتب سلسلة من المقالات القصيرة النابضة بالحياة استنادًا إلى كل شيء من حوله، بداية من الكتب مرورًا باللوحات وصولًا إلى الأثاث. يمكنني أن أفعل الشيء نفسه. لذا دعوتُ القُـرّاء للسفر معي على شبكة الإنترنت العالمية لمدة ستة عشر أسبوعًا من مايو حتى أغسطس 2020، واستكشاف عالم جديد من خلال قراءة خمسة كتب كل أسبوع. حاولت سبر أغوار كتاب مختلف كل أسبوع يوم بداية من يوم الاثنين حتى الجمعة، مع التوقف عن القراءة في إجازة نهاية الأسبوع على أمل الحفاظ على خيال «أسبوع العمل» و«إجازات نهاية الأسبوع». فجاء الكتاب كثمرة لذلك الاستكشاف.
يستكشف كتاب «حول العالم في ثمانين كتابًا» الأعمال الأدبية التي تفاعلات بحيوية مع أوقات الأزمات (الشبيهة بأزمتنا)، إلا أن ذلك لا يعني أن الكتب موضوع القراءة اتسمتْ جميعها بالكآبة الوسوداية. صحيح مثلًا أن حكايات «الديكاميرون» تحكي عن حشود الشباب الذين لاذوا بالفرار من الطاعون المتفشي في مدينة فلونسا بحثًا عن مكان آخر، إلا أن مئات الحكايات التي سُرِدت كانت في أغلبها حكايات هزلية مفعمة بروح الدعابة والسخرية. نحن أيضًا في حاجة إلى الأدب كملاذ في الأوقات العصيبة. ففي الأوقات التي تُكبّل فيها أيدينا عن القيام بأنشطتنا الخارجية توفّر قراءة القصص الخيالية والقصائد الشعرية فرصة خاصة - خالية من البصمة، الرحلات الطويلة- لا تبتغي سوى المتعة الخالصة والتأمل في حياتنا وإمعان النظر في الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تطوّقنا، كما لو كنا نُبحر في محيط عالم مضطربة متلاطم الأمواج بمساعدة خرائط الأدب للأزمنة والأماكن الخيالية. ومثله كمثل بطل رحلة «فيرن» تأسس هذا المشروع على مسار شخصي للغاية، يتداخل جزئيًا فقط مع ما قد يبتكره رحّالة أدبي آخر.
وضع مسار الرحلة التي رسمتها نصب عينيه تقديم نسخة كليّة من الأدب العالمي، وليس ترتيبًا نمطيًا لألوان من أدب العالم الواحد «المعولَم»، حيث يركز كل فصل على مدينة أو منطقة أنتجت مجموعة كبيرة من النصوص الأدبية العظيمة، كما يركز تركيزًا أكبر على موضوع معين: كيف يخلق الكتابُ المدن وكيف تخلق المدنُ الكتاب، التراث الذي خلفّته الحروب في أوروبا وتراث الإمبراطوريات الدارسة في بقع أخرى من العالم، مسائل الهجرة والشتات، التراث الحي للتقاليد الشعرية ورواية القصص بدايةً من ملاحم هوميروس مرورًا بالهايكو الياباني وصولًا إلى حكايات ألف ليلة وليلة.
وفي قلب الإطارات العامة والمواضيع المشتركة لكل فصل سنستكشف التنوع الإبداعي الخلاّق الذي يحلّل به كُتابنا بلدانهم وتراثها، غالبًا ما يُرسم ذلك عبر وسائل فنية شديدة التباين داخل الثقافة الواحدة. فنستخدم نحن القراء بدورنا أعمالهم لأغراض خاصة، وأقدّم أنا أمثلة من تجربتي الشخصية لأقترح كيف يمكن للأدب أن يوجَّه إحساسنا بأنفسنا وبعالمنا، ولا سيما في مثل هذه الأوقات العصيبة.
أحمد الزناتي كاتب ومترجم مصري
يقول دامروش في مقدمة الكتاب التي تحمل عنوان «رحلة خلوية»:
«في ربيع عام 1968 أعطتني معلمة اللغة الإنجليزية في الصف التاسع، الآنسة شتاتس، الكتاب الذي غيّر حياتي (حياة السيد النبيل تريسترام شاندي وآراؤه)، بعد أن وضعتُ كتاب «سيّد الخواتم» جانبًا، وهو الكتاب الذي كنتُ أقرؤه للمرة السادسة أو السابعة، فما لبثتُ أن غرقت في عالم جديد كليًا. لم أنبهر وحسب بالمناظر الطبيعية النابضة للحياة لإنجلترا في القرن الثامن عشر وعُلب السعوط والعربات التي تجرّها الخيول، ورجال المدينة المتأنقّين والخليعين، أسر انتباهي في المقام الأول العالم الخيالي الذي لم يدر بخلدي قط أن أراه. ألقى ستيرن نفسه في غمار الإمكانات اللا نهائية للرواية الحديثة، وهي شكل أدبي مختلف كليا حتى أن اسم الرواية نفسه يفصح عن حداثتها. سكب ستيرن العالم بأسره في حكايته التي تدور عن مغامرات عائلة شاندي الفاسدة، في مزيج سردي يجمع من الهجاء الاجتماعي والتكهنات الفلسفية، مدفوعا بزخم من الصخب اللفظي والتلميحات المكشوفة الخبيثة. أسرتني الرواية. أين كانت هذه الكتابة طوال حياتي طَوال الخمسة عشر عامًا الماضية؟ أين يمكنني أن أجد المزيد من الكتب المشابهة؟ كان تريسترام بمثابة مُرشدي الروحي. من بين العديد من الآراء التي تزدحم بها قصة حياته أتى ستيرن على ذكر «عزيزي رابليه» و«عزيزي سرفانتس». ولم أكن أعرف شيئًا عن أيّ منهم، ولكن ما دام تريسترام شاندي قد رآهم أسماءً جديرة بالثناء، فلا شك أنها ستكون جديرة بالثناء عندي.
يمكن للعالم الواقعي أن يجني من وراء الأدب متعًا فائقة على الصعيدين الشخصي والسياسي.
لقد بلغتُ سن الرشد بينما كانت حرب فيتنام تشرف على نهايتها، وكانت أعداد متزايدة من الشبان في سنّ الثامنة عشرة لا يزالون قيد التجنيد.
منذ ذلك الحين كرست نفسي لاستكشاف عوالم الآداب القديمة والحديثة. في الماضي ظلّ الأدب العالمي لفترة طويلة مقصورًا على حفنة من نصوص الآداب الأوروبية وحدها، بينما يشتمل الأدب العالمي اليوم على مجموعة من الأعمال الكلاسيكية، بدايةً من ملحمة جلجامش وصولا إلى حكاية جينجي والمايان بوبول فوه، وهي النصوص التي تخلو المقررات الدراسية حاليًا من أدنى أثر، اللهم إلا برامج الدراسات الأدبية المتخصصة.
صارت جوائز نوبل في الأدب وجوائز البوكر تُمنح اليوم إلى كتاب معاصرين من ثقافات شتّى مثل مو يان الصيني وأورهان باموك التركي وأولجا توكارتشوك البولندية وجوخة الحارثية العُمانية. كتبتُ كثيرا عن هذه التغييرات، لكن بصرف النظر عن كتابي عن ملحمة كلكامش فقد توجهتُ بخطابي إلى الطُلاب والباحثين. وبدأت مؤخرًا في التفكير في كيفية تقديم المشهد الأدبي اليوم إلى جمهور أوسع من القُراء، في أوروبا وخارجها. ما نوع القصة التي يجب روايتها، وكيف نعطيها شكلًا مُرضِيًا؟
الحقيقة أن الأعمال الأدبية ثمرة عالمين مختلفين تمامًا: عالم تجربة الكاتب وعالم الكُـتب. ويقدّم العالمان المواد التي يستخدمها الكُتاب ويصوغها بهدف معالجة تجاربهم المفعمة بالفوضى والألم غالبًا إلى شكل سردي متماسك ممتع. ومشروع الكتاب الحالي ليس استثناء من القاعدة، لأنه يعتمد على تجربتي في إلقاء محاضرات في حوالي خمسين دولة ويتشكل أيضًا من مجموعة متنوعة من الاستكشافات الأدبية والمغامرات الخيالية.
كنت أفكر أيضًا في أنشودة هارولد بلوم البليغة والمميزة للكتب الخالدة = The Western Canon (المعتمد الغربي في الأدب)، فقررت أن أحذو حذو بطل رواية فيرن فيليلس فوج (Phileas Fogg) بشكل مرتجل بداية من لندن شرقًا عبر آسيا والمحيط الهادئ إلى الأمريكتين، ثم العودة في نهاية المطاف إلى لندن.
في يناير 2020 كنت أخطط لرحلتي. ثم جاءت جائحة كوفيد 19، وأُلغِيَتْ حجوزات الطيران، عقب تلاحق الأحداث السريع في شيكاغو وطوكيو وهولندا وهايدلبرج وبلجراد. ماذا كنت أفكر؟ حذو بطل رواية فيرن فيليلس فوغ (Phileas Fogg). لم يغامر فيرن أبدًا خارج أوروبا طوال حياته الطويلة، ولم تطأ قدمه خارج باريس خلال أشهر عام 1872 عندما كتب روايته. لم يكن بحاجة إلى ذلك، لأنه يمكن أن يتنقل عبر أرجاء العالم في عاصمته؛ خطرت له فكرة الكتاب في مقهى في باريس، إذ قرأ تقريرًا صحفيًا عن خطوط السكك الحديدية وطرق البواخر التي تتيح للفرد التجوّل حول العالم في ثمانين يومًا. بعد ذلك خطر ببال نموذج أدبي آخر: تحفة خابيير دوي ميستر «رحلات حول حجرتي». كان مايستر أرستقراطيًا فرنسيًا شابًا خدم في جيش بيدمونت في سنة 1790 عندما عوقب لمشاركته في مبارزة، فحكم عليه القاضي بالإقامة الجبرية لمدة اثنين وأربعين يومًا في الحجر الصحي. ولما بات دو ميستر عاجزًا عن قضاء أمسياته المعتادة في معاقرة الشرب مع الأصدقاء والمقامرة ومغازلة الفاتنات الإيطاليات، قرر أن يتعامل مع غرفته على أنها عالم مصغر. فكتب سلسلة من المقالات القصيرة النابضة بالحياة استنادًا إلى كل شيء من حوله، بداية من الكتب مرورًا باللوحات وصولًا إلى الأثاث. يمكنني أن أفعل الشيء نفسه. لذا دعوتُ القُـرّاء للسفر معي على شبكة الإنترنت العالمية لمدة ستة عشر أسبوعًا من مايو حتى أغسطس 2020، واستكشاف عالم جديد من خلال قراءة خمسة كتب كل أسبوع. حاولت سبر أغوار كتاب مختلف كل أسبوع يوم بداية من يوم الاثنين حتى الجمعة، مع التوقف عن القراءة في إجازة نهاية الأسبوع على أمل الحفاظ على خيال «أسبوع العمل» و«إجازات نهاية الأسبوع». فجاء الكتاب كثمرة لذلك الاستكشاف.
يستكشف كتاب «حول العالم في ثمانين كتابًا» الأعمال الأدبية التي تفاعلات بحيوية مع أوقات الأزمات (الشبيهة بأزمتنا)، إلا أن ذلك لا يعني أن الكتب موضوع القراءة اتسمتْ جميعها بالكآبة الوسوداية. صحيح مثلًا أن حكايات «الديكاميرون» تحكي عن حشود الشباب الذين لاذوا بالفرار من الطاعون المتفشي في مدينة فلونسا بحثًا عن مكان آخر، إلا أن مئات الحكايات التي سُرِدت كانت في أغلبها حكايات هزلية مفعمة بروح الدعابة والسخرية. نحن أيضًا في حاجة إلى الأدب كملاذ في الأوقات العصيبة. ففي الأوقات التي تُكبّل فيها أيدينا عن القيام بأنشطتنا الخارجية توفّر قراءة القصص الخيالية والقصائد الشعرية فرصة خاصة - خالية من البصمة، الرحلات الطويلة- لا تبتغي سوى المتعة الخالصة والتأمل في حياتنا وإمعان النظر في الصراعات الاجتماعية والسياسية التي تطوّقنا، كما لو كنا نُبحر في محيط عالم مضطربة متلاطم الأمواج بمساعدة خرائط الأدب للأزمنة والأماكن الخيالية. ومثله كمثل بطل رحلة «فيرن» تأسس هذا المشروع على مسار شخصي للغاية، يتداخل جزئيًا فقط مع ما قد يبتكره رحّالة أدبي آخر.
وضع مسار الرحلة التي رسمتها نصب عينيه تقديم نسخة كليّة من الأدب العالمي، وليس ترتيبًا نمطيًا لألوان من أدب العالم الواحد «المعولَم»، حيث يركز كل فصل على مدينة أو منطقة أنتجت مجموعة كبيرة من النصوص الأدبية العظيمة، كما يركز تركيزًا أكبر على موضوع معين: كيف يخلق الكتابُ المدن وكيف تخلق المدنُ الكتاب، التراث الذي خلفّته الحروب في أوروبا وتراث الإمبراطوريات الدارسة في بقع أخرى من العالم، مسائل الهجرة والشتات، التراث الحي للتقاليد الشعرية ورواية القصص بدايةً من ملاحم هوميروس مرورًا بالهايكو الياباني وصولًا إلى حكايات ألف ليلة وليلة.
وفي قلب الإطارات العامة والمواضيع المشتركة لكل فصل سنستكشف التنوع الإبداعي الخلاّق الذي يحلّل به كُتابنا بلدانهم وتراثها، غالبًا ما يُرسم ذلك عبر وسائل فنية شديدة التباين داخل الثقافة الواحدة. فنستخدم نحن القراء بدورنا أعمالهم لأغراض خاصة، وأقدّم أنا أمثلة من تجربتي الشخصية لأقترح كيف يمكن للأدب أن يوجَّه إحساسنا بأنفسنا وبعالمنا، ولا سيما في مثل هذه الأوقات العصيبة.
أحمد الزناتي كاتب ومترجم مصري