تولد الرواية قرائيًا من موت مريم بنت حمد ود غانم، وهي الأم، في بئر ولا نستطيع أن نمنع أنفسنا عن إغواء المقارنة بين الأم وأم الفلج

المشهد التأسيسي في رواية القافر مغمور بالماء ومنقلب في لحظاته ويتراءى فصل استخراج الجثة الغارقة مثل فصل اخراج جن من قماقمهم

تنفتح رواية القافر للروائي العماني زهران القاسمي على قارئها بمفاجأة: «غريقة.. غريقة». الجسد الغريق جسد زادت عليه المياه فقتلته، فيما بعد يكتشف القارئ أن جسد الغريقة يعود إلى مريم بنت حمد بن غانم:

«جرت العادة أن يذكر اسم مريم بنت حمد ود غانم كاملًا فلا يمكن أن يقال مريم فحسب، ولا مريم بنت حمد، بل يجب أن يذكر الاسم تامًا». ص١٥

يدور فصل الرواية الأول على محور محاولة أهل القرية انتشال الجثة من البئر، والتي يكتشفون أنها ليست وحدها في هذا الغرق بل: «في بطنها حياة.. في بطنها حياة» ص١٣

كما قالت خالتها عايشة، وتلك الحياة التي في بطنها ستكون موضوع الرواية وبطلها الرئيسي حتى النهاية.

هذا المفتتح الغارق يذكرنا بغرق اوفيليا في مسرحية شكسبير الشهيرة هاملت:

«وإذا هي تسقط/ هي وما تحمل من عشب وزهر، في ماء الجدول الباكي/ انتشرت ثيابها على الماء/ وحملتها لحظة كأنها جنيّة الغدير/ وهي لا تفتأ تغني فقرات من أناشيد قديمة/ كأنها لا تحس شيئًا من الكارثة المحدقة/ أو كأنها كائن وطنه الذي يألفه هو الماء». ص١٧٩، هاملت، شيكسبير، (ترجمة: محمد عوض محمد)

وترجمة هاملت هذه تبدو لي أفضل، على الأقل في هذا المشهد، حتى من ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، ولكن ما يجعل استعادة هذا الغرق ضروريًا بنظرنا، بكل ما يحمله من رمزية، هو التحليل العميق لجاستون باشلار في كتابه الماء والأحلام: (سوف تستطيع اوفيليا أن تكون في منظورنا رمز الانتحار النسائي. حقًا إنها مخلوق ولد ليموت في الماء.. الماء عنصر الموت الفتيّ الجميل، الموت المزهر، وهو، في مآسي الحياة والأدب، عنصر موت بلا كبرياء، بلا حقد، عنصر انتحار مازوخي. الماء هو الرمز العضوي العميق للمرأة التي لا تعرف غير «بكاء» آلامها، وبسهولة «تغرق عيناها في الدموع»). ص١٢٦، الماء والأحلام، جاستون باشلار، تر. علي نجيب ابراهيم

إن المشهد التأسيسي في رواية «القافر» مغمور بالماء، ومنقلب في لحظاته، حتى لقد يتراءى فصل استخراج الجثة الغارقة مثل فصل إخراج جن من قماقمهم، فتظهر للقارئ شخصيات الرواية ويتعرف عليهم، جميعًا تقريبًا، في الفصل الأول، وكذا الأجواء العامة للقرية، بل وتظهر حتى المماحكات والمشاحنات الصغيرة، وتيار الحياة الذي يتدفق ويستمر دون انقطاع.

في حادثة الغريقة هذه لا يفوتنا أن نذكر واقعة مهمة في نظرنا:

-الغريقة تشوف.. الغريقة تشوف.. كلتني.. كلتني عيونها.

ص١١

عينا الغريقة المفتوحتان، إشارة مضاعفة الوضوح، حول ما يسميه باشلار استمرار الموتى الطافين في الحلم.

تولد الرواية قرائيًا من موت مريم بنت حمد ود غانم، وهي الأم، في بئر، ولا نستطيع أن نمنع أنفسنا عن إغواء المقارنة بين الأم وأم الفلج، مع كل ما يقدمه هذا المشهد الروائي من مواد تستثير هذا الخيال، إن استخراج الأم من جوف البئر يتلوه استخراج الجنين من رحم الأم، فمن رحم الأرض إلى رحم الأم يخرج لنا الولد الذي سيدعى سالم، ابن اوفيليا هذه، بطل الرواية نفسه والملقب بالقافر، ذلك الذي يسمع أصوات المياه وهي تجري في باطن الأرض، رهافة السمع هذه التي يجري وصفها في الرواية مرة بشاعرية:

«في الصباح شعر بهدوء عميق حتى أنه سمع رفرفة فراشة على الجانب الآخر من القرية».

ص١٤٤

بنظرنا ليست الصلة السمعية مجرد صدفة، أو حبكة روائية، إنها مشاعر عميقة، مشاعر غارقة في القاع، أليس العمق نفسه مجرد استعارة مائية في الأصل؟ فهذا العمق السمعي يذكرنا كذلك بنظرية باشلار عن اللغة الصوتية والماء:

«لغة المياه واقع شعري مباشر، ..السواقي والأنهار تبعث النغم، بصدق غريب، في المناظر الخرساء،.. المياه بخريرها تعلم العصافير والبشر الغناء والكلام وتكرار القول.. ثمة باختصار اتصال بين كلام الماء وكلام الإنسان».

ص٣٣، الماء والأحلام

وبوصف الماء أنجب اللغة، إنه في هذه المرة يلد هذه اللغة، لغة الرواية نفسها، الصوت الذي خلق اللغة، واللغة التي تشبه الماء، تعود لتروي روايتها الجارية.

إن الماء على بساطته الظاهرية رابط عظيم، يربط أواصر الحياة ببعضها البعض، يربط أطرافها ومتضاداتها، يعيد إحياء موتاها وإماتة أحيائها، أعلاها وأسفلها، هامشها ومركزها، وبطل هذه الرواية يسمع الماء، في باطن الأرض ويردد منذ صباه (ماي.. ماي) وما نراه يؤكد لنا القدر المائي لهذا الكائن:

«ولا شك أن الكائن الذي يكون قدره الماء كائن دائخ». ص٢٠، باشلار

أشار الناقد محمد زروق في معرض حديثه مؤخرًا بالنادي الثقافي عن الروايات العمانية بشكل عام حين عرّج على هذه الرواية إلى دور المؤلف، الذي اتخذ دور الراوي العليم، والذي أنجز الرواية وأتم عمله ولا يمكن معاودته الآن في طريقة روايته لهذه الرواية، بوصفها عملًا فنيًا منجزًا، على القارئ إكمال النصف الخاص به في القراءة، والملاحظة نفسها ظاهرة بقوة على الرواية. التي هي رواية أعماق، وليس المشهد النهائي فيها ببعيد عن هذه الأجواء التي سيطرت على الرواية ككل، حيث نلمس بوضوح جوًا شفافًا من الأساطير.

إن الرواية تحاول بموضوعها كله أن تلمس أعصابًا عمانيةً قديمة، تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، يبلغ تعداد أفلاجها أكثر من أربعة آلاف فلج، يجد من شقوها تجسيدهم الأدبي والفني في هذا العمل، ربما لأول مرة، وكالمياه التي تتبع السواقي المعدة سلفًا سيلاحظ القارئ، دور الراوي في الانعطاف بروايته وفق المعطيات، كالماء الذي لا بد له أن يتبع الساقية المحددة سلفًا.

الماء أعلى مثال للبساطة، لكن مقاربته الفنية تظهر أعماقه المتشعبة والحساسة والمعقدة، وتؤثر حتى على مجريات العمل الفني نفسه، بوعي وبلا وعي، وفي المحصلة نظن أن الرواية تمكنت من مزج وصهر كافة المعطيات المختلفة لمجتمع القرية، برؤية فاحصة ناقدة، تذكرنا بشخصية الفلاح كما تقدمها الأعمال الفنية، كشخصية تتأرجح بين النوايا الطيبة وبين القسوة والمكر والبخل، كما ظهرت مثلًا في عمل المخرج الياباني اكيرا كيروساوا (الساموراي السابع)، لكننا نجد كذلك مشاهد متعددة في الرواية للمجتمع الفلاحي المتآزر، الذي يعمل بانسجام كبير، كيد واحدة، وهو نفسه المتفرق داخليًا، ربما لنوازع الذاتية والأنا الطبيعية، لينقسم على ذاته، عبر اللسان، عبر جرح الفم، إذا استعدنا عبدالفتاح كليطو، وكل ذلك يقدم لنا ما يقدمه الفن ككل بوصفه مرآة ذاتية صالحة للتأمل.

لا شك أن مقاربة روائية لموضوع كهذا هي معضلة وعقبة كأداء، متمددة في التاريخ والجغرافيا، بتشعبها الحي على هذه الأرض، لكن الروائي استطاع بأدواته أن يخلق لنا حياة كتابية وعملًا فنيًا تتحقق رمزيته الكبرى في سيرة هذا القافر ونهايته المحملة بالكثير من الرمزيات التي تتطلب قراءة موسعة ومعمقة، تقبض الرعشة التي يستشعرها القارئ كالرعشة حين يسمع، أو يقرأ، بعد مدة طويلة من زمن الرواية، اسم البطل، لأول مرة، واسم الرواية كذلك، ص١١٢.

هذه رواية عن الأفلاج، وإذا استعدنا هجرة بني صفوان في القرن التاسع الميلادي الثالث الهجري إلى الأندلس ونقلهم تقنيات الأفلاج إلى ايبيريا، وتأسيس مدينة مرسيه وقلعة صحار الأندلسية، واسم مدينة مدريد المأخوذ من مجريت (مجرى)، (ص٢٥٨، الموسوعة العمانية) قد نعثر لربما على خيط ما يربط بين هذه الأفلاج وبين فالاج غاستون باشلار:

«ولدتُ في بلد السواقي والأنهار، في بقعة من مقاطعة شامبانيا العامرة بالوديان، في منطقة الفالاج، وقد سُميّت بهذا الاسم نظرًا لكثرة وديانها. إن أجمل مسكن في نظري هو ذاك الذي يقع في جوف وادٍ على ضفة مياه جارية». ص٢٢

إبراهيم سعيد كاتب وشاعر عماني