لا يحدث كثيرا أن أقرأ كتابين بالتوازي، لكني ممتنة أنني فعلت مع كتابيّ أنطونيو داماسيو: The Strange Order of Things, 2018 (يُمكن ترجمة العنوان إلى: الترتيب الغريب للأشياء)، وكتاب Feeling and Knowing, 2021 (يُمكن ترجمة العنوان إلى: الشعور والمعرفة). إذ أتاح لي ذلك اكتشاف لونين مختلفين لكتابة داماسيو.

لستُ هنا بصدد التطرق إلى محتوى الكتاب (لعلي أفعل ذلك في وقت لاحق) ما يهمنا الآن هو المُحفز وراء إنتاج كتابه الأخير، ونشره. بعد أن اتضح لداماسيو أن جمهور القراء قد فاتته الكثير من الأفكار المهمة التي ضاعت في النقاشات المفصلة والمُطولة عبر فصول كُتبه السابقة؛ جاءت الحاجة -كما يرى- إلى تخصيص كتاب لتناول هذه الأفكار، وإبرازها على نحو يصعب إهماله هذه المرّة، من خلال الإختزال الصبور للمحتوى، كما يفعل نحّاتٌ أو شاعر - حسب تعبيره.

تتقاطع فكرة الاختزال هذه مع فكرة أخرى تشغلني، وهو الفارق بين أن تكون كاتبا أكاديميا، وكاتبا -لنقل- شعبيا. وهل يستحق العلم الشعبي (بوب-ساينس/بوب-ساي) المديح أم الهجاء؟

إن التفريق بين أنواع الكتابة العلمية ليس بالسهولة التي نفترضها أول الأمر. مثلا عندما ينتج عالم الأعصاب داماسيو كتابا سهل الوصول والاستيعاب موجها للعامة، هل يجعل هذا كتابه ذاك ذو تصنيف مختلف؟ أم أنها مجرد خصوصية فردانية يمتاز بها كتاب معين عن سواه، فيما يقع كلاهما في التصنيف نفسه؟

ما الذي يُعرّفُ أسلوب الكتابة العلمية الأكاديمية (أو حتى العلمية) عن الكتابة العلمية الشعبية (حتى لا نقول الصحفية المختصة)؟

كطلاب في مجال العلوم، ندرس أن هناك عدة مستويات للكتابة الأكاديمية: الكتابة الوصفية، حيث تعنى مثلا بتقديم تقارير لتجربة مخبرية، أو وصف لظاهرة ما. بعدها تأتي الكتابة التحليلية التي تعنى بتحليل وتفسير النتائج الأولية. فيما تُعنى الكتابة النقاشية بتقديم حجج جديدة، أو تقديم تفسير جديد لنتائج سابقة، يتخذ الكاتب في هذا النوع من الكتابة موقفا محددا، ويُدافع عنه. الكتابة النقدية تُضيف إلى النوع الأخير وجهات نظر أخرى وتُقدم نقدا لها. بالنظر إلى أنواع الكتابة الأكاديمية هذه نُدرك أنها لا تُسعفنا كثيرا لتعريف الكتابة العلمية الشعبية، وعليه يتوجب علينا النظر في مناطق أخرى.

أحد العناصر التي قد تتبادر إلى ذهننا مباشرة هو المُمايزة بينها حسب الجمهور المستهدف (العامة، المختصين). يمكن أيضا أن نُمايز بينها حسب كاتبها (عالِم، كاتب/صحفي مختص). فبينما لا تقبل الكتابة العلمية الأكاديمية إلا بالمختصين، وبينما توجه نتاجها للمختصين أيضا، تقبل الكتابة الشعبية بالمختصين من الكتاب لكنها توجه إنتاجها للعامة.

يمكن أيضا أن يُعرف العلم الشعبي بمواضيعه التي غالبا ما تكون جدلية، تخمينية/تأملية speculative الطابع، وميّالة للتعميم. مواضيع مثل الحتمية البيولوجية، الوعي، الإرادة الحرة، مُستقبل الذكاء الاصطناعي.

والآن، وقد عددنا العناصر المحتملة للتفريق بين هذين النوعين من الكتابة العلمية دعونا نفكر بمثال لكل منهما. إذا ما سألتني شخصيا فسأقول أن كُتبا كتلك التي يُنتجها عالميّ الأعصاب أنطونيو داماسيو أو روبرت سابولسكي هي كُتب علمية، بينما كتب يُنتجها سام هاريس هي كُتب علم شعبي. ورغم أنني قد أستمتع بقرائتها، إلا أنني لا أفكر أن أستخدمها مصادرا في ورقة علمية أكتبها. لكن لماذا؟ بالرغم من أن الرجل يحمل دكتوراه في علم الأعصاب -مِثله مثل زميليه-، إلا أنه يصعب علي -شخصيا- تصنيفها ككتب علمية.

خلاصة القول أن أي كتاب -عدا ما يُقدم صراحة باعتباره كتاب تعليمي textbook- هو على الأغلب يفتقد الرصانة التي تحوزها الأوراق العلمية. إذ في الغالب لا تهدف الكتب إلى تقديم حقائق بل رؤى insights مبنية على تلك الحقائق. لكن تقدير ما إن كانت هذه الكتب أهلا للثقة -وحتى أهلا لاستخدامها كمصادر ووسائل للمعرفة- يعود للفحص الدقيق للمصادر التي يستخدمها، وصلاحية الحجج، والمقدمات التي تبنى عليها.

لماذا يُعادى العلم الشعبي؟

عداء البعض للعلم الشعبي والثقافة الشعبية، يعود لكون عملية التفريق بين المحتوى الجاد والمضلل أمر أكثر صعوبة. أزعم أن كثيرا من المقالات والكتب التي تُقدم باعتبارها علمًا شعبيا ما هي إلا علومٌ زائفة.

فوق ذلك، فالكثير مما يُنتج تحت مُسمى العلوم الشعبية والثقافة الشعبية هي مواد تفتقر إلى البحث والاشتغال الجاد. إنها أيضا تختصر مسارها إلى القارئ دون الخضوع للتحرير والتدقيق الحريصين. فبينما تخضع المواد الأكاديمية لمراجعة الأقران -الذين لا يتساهلون مع مواضيع الجودة والمصداقية- فبالكاد تخضع المواد الشعبية لأي من هذا، وغالبا ما تعتمد جودتها على مدى حرص كاتبها والتزامه.

أمر آخر -نفسي هذه المرة- قد يؤثر على ثقتنا بالعلوم الشعبية وهو كونها مُضادة للنخبوية. إن شعبيتها تُفقدها شيئا من قيمتها إذ نفترض -مُحقين أو مُخطئين- أننا نخسر شيئا ما مهم في عملية التبسيط هذه. نفترض أن العلم شيء صعب، أن ممارسته واستيعابه لا يمكن أن تكون سهلة، وأننا إذا ما وقعنا على نسخة بسيطة منه فهذا يعني بالضرورة افتقارها للجودة.

الخلاصة، هدف العلم الشعبي هو جعل المواضيع العلمية مُتاحة للعامة. مواضيع ما كانت لتصل إلى الجمهور المختص لولا ترجمة الأدبيات العلمية إلى لغة سهلة -فكر مثلا ببرنامج الدحيح وشعبنته الريادية-. وعليه فهو لا يتخذ موضعا أعلى أو أدنى من العلم الأكاديمي، لأنهما يلعبان أدوار مختلفة. فبينما يهدف النشر العلمي إلى التنوير، يهدف النشر الشعبي إلى الترفيه. لا يُعاب العلم الشعبي، بل يُعاب السيء منه، وتُعاب المنصات التي تستسهل إنتاجه، ولا تُسخر له ما يستحق من موارد.

• نوف السعيدي كاتبة وباحثة في مجال فلسفة العلوم.