توقفت منذ شهرين أو يزيد قليلا عن الكتابة في الصحف لسبب شخصي هو أنني لم أجد موضوعا أستطيع أن أقول فيه أكثر مما قلت في السابق، خاصة في المواضيع التي كانت محل اهتمامي، وهي المتعلقة بالاقتصاد السياسي وقضايا التنمية، لأن الكتابة في نظري يجب أن لا تكون تكرارا أو استنساخا، بل هي تجديد وإبداع. كما أشعر أنني لا أستطيع الكتابة في مواضيع أو مجالات أخرى، مثل النقد الأدبي أو الفلسفة والدين أو مستجدات التقانة والفنون، لقلة معرفتي بجوانب كثيرة فيها.
ومما يزيد من صعوبة الكتابة لديّ هو أن ما نشرته في الصحف خلال الفترة السابقة كان ينزل في صفحات الرأي، وأحسبُ أن للصحف معاييرها، خاصة لما ينشر في تلك الصفحات، حيث يجب أن يكون متسقا مع الاتجاه العام للصحيفة أو مع السياسة الإعلامية المتبعة، حتى وإن كانت إدارة الصحف تضع دائما في أعلى تلك الصفحات عبارة "الآراء الواردة على هذه الصفحة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الجريدة"، أو ما شابه ذلك من عبارات. وفي رأيي أن صفحات الرأي هي من أهم الصفحات في الجرائد، خاصة لمن أراد أن يتعرف على مشاغل واهتمامات المجتمع والدولة، أو يبحث في مستوى الوعي السياسي والاجتماعي، ومدى تنوع وتعدد الآراء في البلد الذي تصدر فيه الجريدة، وهي كذلك مؤشر على درجة مهنية الجريدة وفئات قرائها.
وخلال الفترة التي توقفتُ فيها عن الكتابة كان عدد من المحبين والأصدقاء يحثونني على العودة إليها، ليس بالضرورة للكتابة في نفس الموضوعات السابقة بل في مواضيع جديدة. وقد رأيت في ذلك استنهاضا منهم وليس مجرد حث، فقلت لأحدهم إن الكتابة ليست بالأمر الهين، واستعرت من الشاعر نزار قباني قوله إن "الكتابة عمل انقلابي". معلوم أن نزار قد جعل من عبارته تلك عنوانا لإحدى قصائده ولأحد دواوين شعره. ويقصد بتلك المقولة الإنكار على المثقفين والكتاب العرب عدم اطلاعهم بما فيه الكفاية على ثقافتهم العربية، وتقديسهم للموروث وعدم تقبلهم لنقد التراث والأدب العربي، وعجزهم عن الخروج من المألوف إلى غير المألوف، أي عدم قدرتهم على تجاوز الأساليب الأدبية التقليدية والإتيان بجديد في كتابة الشعر والأدب. وأود هنا المجازفة إذا جازت، فأقول: إن الكتابة ليست عملا انقلابيا وحسب، وإنما قد تكون "عملا انتحاريا"، كما سأبين لاحقا في هذا المقال.
وما دمت قد استعرت قول نزار قباني عنوانا لهذا المقال، فلا بد من التعريج على علاقتي به وبأشعاره، التي مازلت أحفظ الكثير منها، وأجد سهولة في الاستشهاد بها في العديد من المواقف والحالات. ولذلك أجد في موضوع هذا المقال سانحة للاستشهاد بقوله في رثاء عميد الأدب العربي، طه حسين: "عُدْ إلينا فإن ما يُكتبُ اليوم قَصيرُ الرُّؤى قليلُ المعاني" .
وفي نظري إن نزار قباني يستحق أن يطلق عليه لقب "شاعر القرن العشرين" و ذلك لسببين، أحدهما موضوعي والآخر ذاتي. فأماّ السبب الموضوعي فهو أن نزار قباني، هو بحق كما قال عن نفسه، قد "جعل من الشِعر العربي خبزا في متناول الجميع". ويقصد أنه تمكن من تسهيل أساليب الشعر وجعله شائقا وممتعا، إلى درجة أنه صار على ألسنة الكثيرين من مختلف فئات المجتمع العربي، سواء كان منه الشعر السياسي الملتزم، أو الغزل الرقيق، أو التشبيب الماجن، وسواء كان شعرا مقفى وموزونا أو حرا ومنثورا. وتلك فيما أرى حقيقة ثابتة، بغض النظر عن بعض المواقف المؤدلجة أو المتمذهبة من نزار قباني ومن شعره. ولا أذكر أحدا من جيلي، خاصة ممن نالوا ولو الحد الأدنى من التعليم الحديث، إلا ويحفظ شيئا من أشعاره أو يعرفه أو سمع عنه على الأقل.
أما السبب الذاتي فيعود إلى تواصلي بالرسائل معه في منتصف سبعينات القرن الماضي. حينها كنت ما أزال طالبا في المرحلة الإعدادية، وقرأت قصيدة طويلة له، نشرتها مجلة "الحوادث"، التي كانت تصدر في بيروت. كانت القصيدة من الشعر المقفى والموزون، وعنوانها "ترصيع بالذهب على سيف دمشقي". يقول في مطلعها: "أتراها تحبني ميسونُ أم توهمتُ والنساء ظنونُ"
وفي آخر القصيدة يقول: "إركبي الشمسَ يا دمشقُ حصانا ولكِ اللهُ حافظٌ وأمينُ"
نظم نزار قباني قصيدته تلك في خضم احتفاء كبير وفرح عارم عمّ الوطن العربي بما أحرزته مصر وسوريا من نصر في حرب رمضان (أكتوبر) ١٩٧٣، فكان للقصيدة صداها الواسع بين المثقفين والطلاب العرب. وقد وجدت لاحقا أن نزار قباني أسس دار نشر باسمه، فكتبت إليه رسالة أرسلتها إلى عنوان دار النشر في بيروت، وطلبت في رسالتي نسخة من الكتاب الذي يضم القصيدة.
بعد أسابيع قليلة وصل الكتاب بالبريد، وعلى غلافه من الداخل كلمات إهداء لي، بخط نزار وتوقيعه. كانت سعادتي بالكتاب غامرة، فأخذته إلى المدرسة (مدرسة الإمام جابر بن زيد) لأقرأ القصيدة مع الزملاء هناك، ولكني فقدت الكتاب في المدرسة. شعرت حينها بالأسف على ضياع الكتاب، وكتبت إلى نزار قباني من جديد، فأرسل إلي نسخة أخرى، لكنها لم تكن موقعة منه كسابقتها. والطريف أنه قبل أشهر قليلة اعترف لي أحد الأصدقاء الأعزاء بسرقة الكتاب لأن القصيدة أعجبته.
نعود إلى موضوع الكتابة، فإذا كان نزار قباني قد رأى أن "الكتابة عمل انقلاني"، لأن الكاتب يجب أن يكون ناقدا لتراثه الأدبي، وأن يخرج من المألوف إلى اللامألوف في شعره وكتاباته الأدبية، فإني أرى أن الكتابة قد تكون "عملا انتحاريا"، ولا اقصد هنا انتحار الكاتب بقتل نفسه، وإنما أقصد انتحاره السياسي أو الاجتماعي، أي خسارته للموثوقية والمصداقية والاحترام، وبالتالي انتهاء مشروعه السياسي أو دوره الاجتماعي كمحرك للتغيير والإصلاح، أو على الأقل تخلي كثير من متابعيه عن قراءة ما يكتب.
بعبارة أخرى، هناك كتابات تحط من قدْر كتابها، ومنها على سبيل المثال ما ينشره البعض من كتابات يستخدمون فيها عبارات ومفردات سوقية هزيلة، يرون أنها تمثل زمنا مضى يحن إليه البعض من الناس، ويرون أن أسلوبهم ذاك يقربهم من بعض فئات المجتمع، وهي في الحقيقة مفردات هجين لا تمتُّ إلى الأصالة بصِلة، وليس فيها من الحداثة شيء يرقى بالفكر أو ينيره.
إن الكتابة في الجوهر والهدف والمعنى هي إماّ أن تكون رأيا مفيدا لحل أو تجاوز معضلة معينة، أو أن تتضمن علما نافعا أو معارف جديدة، أو أن تكون نثرا أو شعرا ممتعا في أسلوبه وهادفا في مضمونه ومحتواه . أما إن كانت غير ذلك فهي "عمل انتحاري" من حيث إنها لا تعدو أن تكون مجرد لغو، خاصة إذا لم تعبر بصدق عما يشغل المجتمع والأمة، أو لم يكن فيها تنبيه إلى خطب أو خطر يجب درؤه وتلافيه، أو عيب وخلل يجب إصلاحه. على أنه ليس بالضرورة أن يكون الرأي تصريحا بل يمكن أن يكون تلميحا، حسب مقتضيات الحال وبلاغة الكاتب.
كذلك قد تكون الكتابة "عملا انتحاريا" إذا تضمنت افتراء على الغير أو تحريضا على فتنة ليس لها مبررات كافية ولا حجج واضحة. وفي هذا نتذكر قوله تعالى: (لا يحبُّ اللهُ الجهرَ بالسوءِ من القول، إلا من ظُلم)، مع التأكيد على عبارة (إلا مَنْ ظُلم) لأن رفع الصوت عاليا في وجه الظلم واجب ديني وأخلاقي، وفي رأيي إن الكتابة الرصينة هي إحدى وسائل رفع الظلم أو منع وقوعه، وعلى الكتاب دور كبير في ذلك.
وإضافة إلى ذلك فإن الكتابة التي تكون فيها مداهنة لهذا الشخص أو ذلك، أو تتضمن تبريرا لأخطاء أو تجاوزات من هذه الجهة أو تلك، هي أيضا من الأعمال الانتحارية. ومنها تلك الكتابات التي تروج الجهل أو التجهيل، وذلك حين يقوم الكاتب بإخفاء الحقائق أو تمويهها، مستخدما عبارات مثل "لننظر إلى الكأس من حيث إنه نصف ملآن وليس نصف فارغ"، وذلك من أجل تبرير استمرار وضع يجب إصلاحه أو تجاهل خطر يمكن تلافيه. والمؤسف أن هذا يحدث كثيرا عند عرض أو تحليل بعض المؤشرات، خاصة الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية. ومن الكتابات الانتحارية كذلك تلك الكتابات التي لا يراعي أصحابها الجوانب اللغوية، أو على الأقل الجوانب النحوية وسلامة الإعراب فيها. فكثرة الأخطاء اللغوية في الكتابة تجعل الموضوع غير مفهوم أو تافه ممجوج. وكذلك الحال عند استخدام الكاتب المفردات أو العبارات التافهة السوقية الهجينة، التي أشرنا إليها سابقا في هذا المقال.
نخلص من ذلك إلى القول: إن الكتابة تكون من أجل الحياة إذا كانت تعبيرا عن رأي وموقف لصون الحقوق وإقامة العدل، أو كانت للتعريف بعلوم نافعة ومعارف مفيدة، أو للرقي بالآداب والفنون . أما إذا كانت إسفافا أو مداهنة أو تلفيقا، أو كانت رديئة في أسلوبها فهي أشبه بالانتحار أو السقوط الأخلاقي.
د. عبدالملك الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية
ومما يزيد من صعوبة الكتابة لديّ هو أن ما نشرته في الصحف خلال الفترة السابقة كان ينزل في صفحات الرأي، وأحسبُ أن للصحف معاييرها، خاصة لما ينشر في تلك الصفحات، حيث يجب أن يكون متسقا مع الاتجاه العام للصحيفة أو مع السياسة الإعلامية المتبعة، حتى وإن كانت إدارة الصحف تضع دائما في أعلى تلك الصفحات عبارة "الآراء الواردة على هذه الصفحة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الجريدة"، أو ما شابه ذلك من عبارات. وفي رأيي أن صفحات الرأي هي من أهم الصفحات في الجرائد، خاصة لمن أراد أن يتعرف على مشاغل واهتمامات المجتمع والدولة، أو يبحث في مستوى الوعي السياسي والاجتماعي، ومدى تنوع وتعدد الآراء في البلد الذي تصدر فيه الجريدة، وهي كذلك مؤشر على درجة مهنية الجريدة وفئات قرائها.
وخلال الفترة التي توقفتُ فيها عن الكتابة كان عدد من المحبين والأصدقاء يحثونني على العودة إليها، ليس بالضرورة للكتابة في نفس الموضوعات السابقة بل في مواضيع جديدة. وقد رأيت في ذلك استنهاضا منهم وليس مجرد حث، فقلت لأحدهم إن الكتابة ليست بالأمر الهين، واستعرت من الشاعر نزار قباني قوله إن "الكتابة عمل انقلابي". معلوم أن نزار قد جعل من عبارته تلك عنوانا لإحدى قصائده ولأحد دواوين شعره. ويقصد بتلك المقولة الإنكار على المثقفين والكتاب العرب عدم اطلاعهم بما فيه الكفاية على ثقافتهم العربية، وتقديسهم للموروث وعدم تقبلهم لنقد التراث والأدب العربي، وعجزهم عن الخروج من المألوف إلى غير المألوف، أي عدم قدرتهم على تجاوز الأساليب الأدبية التقليدية والإتيان بجديد في كتابة الشعر والأدب. وأود هنا المجازفة إذا جازت، فأقول: إن الكتابة ليست عملا انقلابيا وحسب، وإنما قد تكون "عملا انتحاريا"، كما سأبين لاحقا في هذا المقال.
وما دمت قد استعرت قول نزار قباني عنوانا لهذا المقال، فلا بد من التعريج على علاقتي به وبأشعاره، التي مازلت أحفظ الكثير منها، وأجد سهولة في الاستشهاد بها في العديد من المواقف والحالات. ولذلك أجد في موضوع هذا المقال سانحة للاستشهاد بقوله في رثاء عميد الأدب العربي، طه حسين: "عُدْ إلينا فإن ما يُكتبُ اليوم قَصيرُ الرُّؤى قليلُ المعاني" .
وفي نظري إن نزار قباني يستحق أن يطلق عليه لقب "شاعر القرن العشرين" و ذلك لسببين، أحدهما موضوعي والآخر ذاتي. فأماّ السبب الموضوعي فهو أن نزار قباني، هو بحق كما قال عن نفسه، قد "جعل من الشِعر العربي خبزا في متناول الجميع". ويقصد أنه تمكن من تسهيل أساليب الشعر وجعله شائقا وممتعا، إلى درجة أنه صار على ألسنة الكثيرين من مختلف فئات المجتمع العربي، سواء كان منه الشعر السياسي الملتزم، أو الغزل الرقيق، أو التشبيب الماجن، وسواء كان شعرا مقفى وموزونا أو حرا ومنثورا. وتلك فيما أرى حقيقة ثابتة، بغض النظر عن بعض المواقف المؤدلجة أو المتمذهبة من نزار قباني ومن شعره. ولا أذكر أحدا من جيلي، خاصة ممن نالوا ولو الحد الأدنى من التعليم الحديث، إلا ويحفظ شيئا من أشعاره أو يعرفه أو سمع عنه على الأقل.
أما السبب الذاتي فيعود إلى تواصلي بالرسائل معه في منتصف سبعينات القرن الماضي. حينها كنت ما أزال طالبا في المرحلة الإعدادية، وقرأت قصيدة طويلة له، نشرتها مجلة "الحوادث"، التي كانت تصدر في بيروت. كانت القصيدة من الشعر المقفى والموزون، وعنوانها "ترصيع بالذهب على سيف دمشقي". يقول في مطلعها: "أتراها تحبني ميسونُ أم توهمتُ والنساء ظنونُ"
وفي آخر القصيدة يقول: "إركبي الشمسَ يا دمشقُ حصانا ولكِ اللهُ حافظٌ وأمينُ"
نظم نزار قباني قصيدته تلك في خضم احتفاء كبير وفرح عارم عمّ الوطن العربي بما أحرزته مصر وسوريا من نصر في حرب رمضان (أكتوبر) ١٩٧٣، فكان للقصيدة صداها الواسع بين المثقفين والطلاب العرب. وقد وجدت لاحقا أن نزار قباني أسس دار نشر باسمه، فكتبت إليه رسالة أرسلتها إلى عنوان دار النشر في بيروت، وطلبت في رسالتي نسخة من الكتاب الذي يضم القصيدة.
بعد أسابيع قليلة وصل الكتاب بالبريد، وعلى غلافه من الداخل كلمات إهداء لي، بخط نزار وتوقيعه. كانت سعادتي بالكتاب غامرة، فأخذته إلى المدرسة (مدرسة الإمام جابر بن زيد) لأقرأ القصيدة مع الزملاء هناك، ولكني فقدت الكتاب في المدرسة. شعرت حينها بالأسف على ضياع الكتاب، وكتبت إلى نزار قباني من جديد، فأرسل إلي نسخة أخرى، لكنها لم تكن موقعة منه كسابقتها. والطريف أنه قبل أشهر قليلة اعترف لي أحد الأصدقاء الأعزاء بسرقة الكتاب لأن القصيدة أعجبته.
نعود إلى موضوع الكتابة، فإذا كان نزار قباني قد رأى أن "الكتابة عمل انقلاني"، لأن الكاتب يجب أن يكون ناقدا لتراثه الأدبي، وأن يخرج من المألوف إلى اللامألوف في شعره وكتاباته الأدبية، فإني أرى أن الكتابة قد تكون "عملا انتحاريا"، ولا اقصد هنا انتحار الكاتب بقتل نفسه، وإنما أقصد انتحاره السياسي أو الاجتماعي، أي خسارته للموثوقية والمصداقية والاحترام، وبالتالي انتهاء مشروعه السياسي أو دوره الاجتماعي كمحرك للتغيير والإصلاح، أو على الأقل تخلي كثير من متابعيه عن قراءة ما يكتب.
بعبارة أخرى، هناك كتابات تحط من قدْر كتابها، ومنها على سبيل المثال ما ينشره البعض من كتابات يستخدمون فيها عبارات ومفردات سوقية هزيلة، يرون أنها تمثل زمنا مضى يحن إليه البعض من الناس، ويرون أن أسلوبهم ذاك يقربهم من بعض فئات المجتمع، وهي في الحقيقة مفردات هجين لا تمتُّ إلى الأصالة بصِلة، وليس فيها من الحداثة شيء يرقى بالفكر أو ينيره.
إن الكتابة في الجوهر والهدف والمعنى هي إماّ أن تكون رأيا مفيدا لحل أو تجاوز معضلة معينة، أو أن تتضمن علما نافعا أو معارف جديدة، أو أن تكون نثرا أو شعرا ممتعا في أسلوبه وهادفا في مضمونه ومحتواه . أما إن كانت غير ذلك فهي "عمل انتحاري" من حيث إنها لا تعدو أن تكون مجرد لغو، خاصة إذا لم تعبر بصدق عما يشغل المجتمع والأمة، أو لم يكن فيها تنبيه إلى خطب أو خطر يجب درؤه وتلافيه، أو عيب وخلل يجب إصلاحه. على أنه ليس بالضرورة أن يكون الرأي تصريحا بل يمكن أن يكون تلميحا، حسب مقتضيات الحال وبلاغة الكاتب.
كذلك قد تكون الكتابة "عملا انتحاريا" إذا تضمنت افتراء على الغير أو تحريضا على فتنة ليس لها مبررات كافية ولا حجج واضحة. وفي هذا نتذكر قوله تعالى: (لا يحبُّ اللهُ الجهرَ بالسوءِ من القول، إلا من ظُلم)، مع التأكيد على عبارة (إلا مَنْ ظُلم) لأن رفع الصوت عاليا في وجه الظلم واجب ديني وأخلاقي، وفي رأيي إن الكتابة الرصينة هي إحدى وسائل رفع الظلم أو منع وقوعه، وعلى الكتاب دور كبير في ذلك.
وإضافة إلى ذلك فإن الكتابة التي تكون فيها مداهنة لهذا الشخص أو ذلك، أو تتضمن تبريرا لأخطاء أو تجاوزات من هذه الجهة أو تلك، هي أيضا من الأعمال الانتحارية. ومنها تلك الكتابات التي تروج الجهل أو التجهيل، وذلك حين يقوم الكاتب بإخفاء الحقائق أو تمويهها، مستخدما عبارات مثل "لننظر إلى الكأس من حيث إنه نصف ملآن وليس نصف فارغ"، وذلك من أجل تبرير استمرار وضع يجب إصلاحه أو تجاهل خطر يمكن تلافيه. والمؤسف أن هذا يحدث كثيرا عند عرض أو تحليل بعض المؤشرات، خاصة الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية. ومن الكتابات الانتحارية كذلك تلك الكتابات التي لا يراعي أصحابها الجوانب اللغوية، أو على الأقل الجوانب النحوية وسلامة الإعراب فيها. فكثرة الأخطاء اللغوية في الكتابة تجعل الموضوع غير مفهوم أو تافه ممجوج. وكذلك الحال عند استخدام الكاتب المفردات أو العبارات التافهة السوقية الهجينة، التي أشرنا إليها سابقا في هذا المقال.
نخلص من ذلك إلى القول: إن الكتابة تكون من أجل الحياة إذا كانت تعبيرا عن رأي وموقف لصون الحقوق وإقامة العدل، أو كانت للتعريف بعلوم نافعة ومعارف مفيدة، أو للرقي بالآداب والفنون . أما إذا كانت إسفافا أو مداهنة أو تلفيقا، أو كانت رديئة في أسلوبها فهي أشبه بالانتحار أو السقوط الأخلاقي.
د. عبدالملك الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية