في رمضان 2010، شاهدنا المسلسل المصري «عايزه أتجوز»، وهو من تأليف الكاتبة غادة عبدالعال، وقد تفاجأنا آنذاك من جرأة الطرح وغرابة الفكرة، حيثُ تظهر امرأة صيدلانية من الطبقة الوسطى، وهي تسعى بكل الطرق المُمكنة لاصطياد عريس، فقد كان اقترابها من الثلاثين عامًا يُشكل رعبا مُكثفا، ليس للعائلة وحسب بل وللجيران وزملاء العمل والمجتمع، فمهما بلغت «عُلا» بطلة المسلسل من درجات العلم، فهي ناقصة -في نظرهم- دون زوج!
وكان على «عُلا» أن تلهث لهاثا منقطع النظير طوال ثلاثين حلقة لكي تصطاد عريسا، سواء أكان ذلك عبر قراءة كتب ترصد أساليب الصيد الموفق، أو عبر مواقع الإنترنت أو الخطّابة التقليدية أو «المودرن» في قالب درامي ساخر.
وتتجلى أكثر المواقف ظرافة في «زواج الصالونات» كما هو مُتعارف عليه عربيا، في تلك اللحظة التي يصبح العريس و«عُلا» قاب قوسين أو أدنى من «تلبيس الدبل»، فتنسل العيوب التي تجعل ذلك أمرًا مستحيل المنال!
أعدتُ مشاهدة هذا الجزء قُبيل صدور الجزء الثاني «البحث عن عُلا» الذي بثته مؤخرًا شبكة نتفليكس عبر ست حلقات، لنتفاجأ بعد مرور 12 سنة أنّ «عُلا» قد تزوجت وصارت أمّا لطفلين، ولكن يقع الطلاق منذ الحلقة الأولى، لننتقل من معاناة الخائفة من العنوسة إلى معاناة الموشكة على دخول عالم المطلقات، حيثُ تُلخص «عُلا» الأمر قائلة: «الطلاق للرجل إفراج، وللمرأة حبس انفرادي»!
في الجزء الأول «عايزه أتجوز» كانت الكوميديا السوداء تُبرر المبالغات الفنية، وكنا نشعر أنّ «عُلا» وعائلة عبد الصبور تُشبه أي أسرة عربية.. بيئة البيت وبيئة العمل ونمط الحياة، ولكن في الجزء الثاني خفتتْ الكوميديا وزادت جرعة الدراما، وكانت «عُلا» تقطن هذه المرّة في «فيلا» راقية وتلبسُ هندام عارضات الأزياء، فكبرت المسافة بيننا وتباعدت.
كنا نُؤمل أنفسنا أنّ المسلسل سيرصد النظرة النمطية للمطلقات في وطننا العربي، اللاتي يُكابدن مرارات شُح الخيارات، والمجتمع الذي يتوحشُ من حولهن بأشكال لا نهائية، لجعلهن في قمقم ضيق ريثما يأتي «ابن الحلال» التالي، ليُعيد لهن شرعية الحياة السوية، ولكن سُطّح شبحُ الطلاق، فلم نرَ إلا ظلاله الوردية، رأينا أجنحة المرأة «المُقصقصة» تنمو مجددًا، فتنجح بسرعة في استعادة عملها، وبسرعة فائقة تُغمر بالحبّ والملاحقة، فيرغب الجميع بها حتى طليقها بعد حين من الدهر، سيرغب بها هو الآخر.
لفتنا الانتصارُ لفكرة المرأة المُستقلة ماديا، باعتباره أمرا يُضيء الطريق أمام استقلالها في اتخاذ قرارات إدارة حياتها منفردة ما دام الشريك مجرد عدد زائد، كما لفتنا تحرر المرأة من تشرنقها الذي كان يدفعها لأن تتنازل عن عملها وصداقاتها وأبسط خياراتها في الحياة، فقد حاولت «عُلا» جاهدة بعد انفصالها أن تستعيد نفسها، إلا أننا -وأمام هذا الصوت التقدمي البراق- لا نستطيع أن نُخفي شعورنا بخيبة الأمل، فهذه المرأة وصداقاتها وعالمها لا يشبهنا حقا، وربما لا يمثل إلا شريحة ضئيلة من المجتمعات العربية. وبالرغم من أنّ الفن يمكنه أن يُعبر عن الاستثناء، ولكن القاعدة العريضة هي أنّ المرأة العربية المطلقة تُطحن في دوامات أكثر تعقيدا مما قدّم المسلسل.
تظهر صورة أمّ «عُلا» في الجزأين، إمّا قلقة أو خائفة، حيث لا يمكن الاطمئنان على ابنتها إلا إذا كان في حياتها رجل. يمرُّ عبر الأمّ صوت المجتمع الذي يضج بالمخاوف من كلمتين «عانس» و«مطلقة»، ففي الجزء الأول دأبت على تزويجها بأي طريقة كانت وبأي رجل، وعندما تطلقت «عُلا» دون أسباب كافية. دأبتْ الأمّ أيضا على حضها للعودة إلى زوجها وأن تستميله وتبذل جهدها لتعيده، فمهما حصل لا يمكن أن يهج الزوج من عش الزوجية إلا لتقصير منها، الأمر الذي يُذكّرنا بالكثير من الخطابات البائتة حول الرجل الطفل الذي ينبغي أن يُحتوى وأن يمتثل لأوامره ليهنأ العيش!
في النهاية تمكنت «عُلا» من أن تنتصر لذاتها، باعتبارها ذاتا مُكافئة للآخر بنجاحاتها وإخفاقاتها، وليست انعكاسًا مشوها في مرآة الزواج، أعني ذلك التحول من البحث عن عريس 2010، إلى البحث عن الذات 2022، لكن الفكرة العميقة أفلتت وتهشمت بسبب المعالجة الدرامية، التي ألقتْ حجرًا واكتفت بمراقبة توترات السطح في بركة راكدة.
وكان على «عُلا» أن تلهث لهاثا منقطع النظير طوال ثلاثين حلقة لكي تصطاد عريسا، سواء أكان ذلك عبر قراءة كتب ترصد أساليب الصيد الموفق، أو عبر مواقع الإنترنت أو الخطّابة التقليدية أو «المودرن» في قالب درامي ساخر.
وتتجلى أكثر المواقف ظرافة في «زواج الصالونات» كما هو مُتعارف عليه عربيا، في تلك اللحظة التي يصبح العريس و«عُلا» قاب قوسين أو أدنى من «تلبيس الدبل»، فتنسل العيوب التي تجعل ذلك أمرًا مستحيل المنال!
أعدتُ مشاهدة هذا الجزء قُبيل صدور الجزء الثاني «البحث عن عُلا» الذي بثته مؤخرًا شبكة نتفليكس عبر ست حلقات، لنتفاجأ بعد مرور 12 سنة أنّ «عُلا» قد تزوجت وصارت أمّا لطفلين، ولكن يقع الطلاق منذ الحلقة الأولى، لننتقل من معاناة الخائفة من العنوسة إلى معاناة الموشكة على دخول عالم المطلقات، حيثُ تُلخص «عُلا» الأمر قائلة: «الطلاق للرجل إفراج، وللمرأة حبس انفرادي»!
في الجزء الأول «عايزه أتجوز» كانت الكوميديا السوداء تُبرر المبالغات الفنية، وكنا نشعر أنّ «عُلا» وعائلة عبد الصبور تُشبه أي أسرة عربية.. بيئة البيت وبيئة العمل ونمط الحياة، ولكن في الجزء الثاني خفتتْ الكوميديا وزادت جرعة الدراما، وكانت «عُلا» تقطن هذه المرّة في «فيلا» راقية وتلبسُ هندام عارضات الأزياء، فكبرت المسافة بيننا وتباعدت.
كنا نُؤمل أنفسنا أنّ المسلسل سيرصد النظرة النمطية للمطلقات في وطننا العربي، اللاتي يُكابدن مرارات شُح الخيارات، والمجتمع الذي يتوحشُ من حولهن بأشكال لا نهائية، لجعلهن في قمقم ضيق ريثما يأتي «ابن الحلال» التالي، ليُعيد لهن شرعية الحياة السوية، ولكن سُطّح شبحُ الطلاق، فلم نرَ إلا ظلاله الوردية، رأينا أجنحة المرأة «المُقصقصة» تنمو مجددًا، فتنجح بسرعة في استعادة عملها، وبسرعة فائقة تُغمر بالحبّ والملاحقة، فيرغب الجميع بها حتى طليقها بعد حين من الدهر، سيرغب بها هو الآخر.
لفتنا الانتصارُ لفكرة المرأة المُستقلة ماديا، باعتباره أمرا يُضيء الطريق أمام استقلالها في اتخاذ قرارات إدارة حياتها منفردة ما دام الشريك مجرد عدد زائد، كما لفتنا تحرر المرأة من تشرنقها الذي كان يدفعها لأن تتنازل عن عملها وصداقاتها وأبسط خياراتها في الحياة، فقد حاولت «عُلا» جاهدة بعد انفصالها أن تستعيد نفسها، إلا أننا -وأمام هذا الصوت التقدمي البراق- لا نستطيع أن نُخفي شعورنا بخيبة الأمل، فهذه المرأة وصداقاتها وعالمها لا يشبهنا حقا، وربما لا يمثل إلا شريحة ضئيلة من المجتمعات العربية. وبالرغم من أنّ الفن يمكنه أن يُعبر عن الاستثناء، ولكن القاعدة العريضة هي أنّ المرأة العربية المطلقة تُطحن في دوامات أكثر تعقيدا مما قدّم المسلسل.
تظهر صورة أمّ «عُلا» في الجزأين، إمّا قلقة أو خائفة، حيث لا يمكن الاطمئنان على ابنتها إلا إذا كان في حياتها رجل. يمرُّ عبر الأمّ صوت المجتمع الذي يضج بالمخاوف من كلمتين «عانس» و«مطلقة»، ففي الجزء الأول دأبت على تزويجها بأي طريقة كانت وبأي رجل، وعندما تطلقت «عُلا» دون أسباب كافية. دأبتْ الأمّ أيضا على حضها للعودة إلى زوجها وأن تستميله وتبذل جهدها لتعيده، فمهما حصل لا يمكن أن يهج الزوج من عش الزوجية إلا لتقصير منها، الأمر الذي يُذكّرنا بالكثير من الخطابات البائتة حول الرجل الطفل الذي ينبغي أن يُحتوى وأن يمتثل لأوامره ليهنأ العيش!
في النهاية تمكنت «عُلا» من أن تنتصر لذاتها، باعتبارها ذاتا مُكافئة للآخر بنجاحاتها وإخفاقاتها، وليست انعكاسًا مشوها في مرآة الزواج، أعني ذلك التحول من البحث عن عريس 2010، إلى البحث عن الذات 2022، لكن الفكرة العميقة أفلتت وتهشمت بسبب المعالجة الدرامية، التي ألقتْ حجرًا واكتفت بمراقبة توترات السطح في بركة راكدة.